كان اجتماع الحاكم المدني لسلطة الائتلاف الأميركية في العراق، بول بريمر، مع مجموعة من خبراء المال والاقتصاد العراقيين في صيف عام 2003، عاصفًا ومتوترًا؛ بسبب رفض فريق الخبراء العراقي لمقترحات أميركية تسمح لسلطة الائتلاف الأميركي بالتصرف في أموال النفط العراقي، وتولي مسؤولية تسديد متطلبات مؤسسات الدولة العراقية مباشرة دون الرجوع إلى الأطراف الرسمية العراقية، بحجة أن البلد تحت سلطة الأميركان، وليس هناك مؤسسات وكوادر عراقية جاهزة لإدارة أموال النفط.
وبعد شد وجذب بين الفريقين، جرى الاتفاق على أن يستحدث البنك المركزي العراقي مزادًا لبيع الدولار للقطاعات التجارية والصناعية العراقية، لإدامة حركة الاقتصاد وتغذية مالية الدولة. من هنا، كانت البداية التي غيرت وجه الاقتصاد العراقي إلى الأبد.
وبالرغم من مرور أكثر من عقدين على التغيير في العراق، فإن شكل الاقتصاد العراقي لم يستقر حتى الآن على هوية واضحة ومستقلة، فالسمات الغالبة على هذا الاقتصاد لا تزال تمزج بين اشتراكية الماضي ورأسمالية الحاضر، في توليفة غريبة قد تستمر لعقود قادمة، بسبب وجود الكثير من المعوقات والتحديات المالية والسياسية والأمنية والإدارية والتشريعية، التي أخرت كثيرًا عملية إصلاح الاقتصاد الوطني والنهوض به مرة أخرى.
كيف ضُرب الاقتصاد العراقي؟
عبر عقود من الزمن، شهد العراق مسيرة اقتصادية مليئة بالتحديات والتقلبات، بدءًا من حقبة الثمانينيات التي اختبرت صلابة البلاد في حرب طاحنة مع إيران، استنزفت خزائنها وألقت بظلالها على الأداء الاقتصادي، مرورًا بحرب تحرير الكويت التي خلفت خسائر فادحة تقدر بمئات المليارات، ثم تلا ذلك حصار وتحكم خارجي في موارد النفط العراقي.
هذه الظروف القاسية أثرت بعمق في جسد الاقتصاد العراقي، مخلفة تحديات ومشاكل كبيرة لا تزال ماثلة أمامنا حتى اليوم، تعيق مساعي النهوض والتطور. وأمام هذا الواقع، يبرز التساؤل حول كيفية مواجهة العراق لهذه التحديات الجسام والشروع في مرحلة جديدة من الإصلاح والتنمية الاقتصادية.
الفساد، سوء الإدارة، البطالة والفقر
يُعد الفساد المالي والإداري بمثابة الورم الذي استشرى في جسد الاقتصاد وينخر في كيان الدولة، إذ تُقدر الأموال المنهوبة خلال عقدين من الزمن بمئات المليارات من الدولارات، وهو ما يضع العراق في مركز متقدم في سلم الفساد العالمي.
يتجلّى التأثير الواضح للفساد في البيئة الاقتصادية في استنزاف خزينة الدولة وتدهور القطاعات الحيوية، فالصناعات الإنتاجية والخدمية تعاني، والبنية التحتية في وضع بائس، ومؤسسات الدولة شبه مخترقة من قبل شبكات الفساد المنظمة.
وإضافة إلى ذلك، فإن التداعيات الاجتماعية لهذا الفساد المستشري لا تقل خطورة عن الآثار الاقتصادية، إذ لا عدالة في توزيع الثروات وفرص العمل. وقد ارتفعت معدلات البطالة إلى 16.5% مع بداية عام 2024، وارتفعت نسب الفقر بحوالي 22% حسب وزارة التخطيط العراقية (أي ما يعادل 10 ملايين عراقي).
كما لا يمكن إغفال وجود 6 ملايين يتيم ومليوني أرملة، نتيجة للحروب والصراعات السابقة، إضافة إلى أكثر من 4 ملايين شخص يعيشون في مناطق العشوائيات والأحياء الهامشية.
الريعية العالية
بعد مرور عقدين من الزمن على الغزو الأميركي، لا يزال الاقتصاد العراقي يصارع للخروج من دائرة الاعتماد الشديد على النفط، أو ما يسمى “الاقتصاد الريعي” النفطي. إذ تشكل عوائد النفط أكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي؛ مما يجعل العراق عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية لارتباط الوضع المالي فيه ارتباطًا وثيقًا بحجم صادرات النفط، وهو ما يؤدي إلى اقتصاد هشّ مكشوف أمام الصدمات.
ويدفع هذا الارتباط بالاقتصاد العراقي إلى التأرجح بين الوفرة المالية والعجز، كما حدث عام 2020 عندما انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 11% بسبب انهيار أسعار النفط، ثم عام 2022 حين شهد الاقتصاد نموًّا إيجابيًّا بنسبة 9.3% بفضل ارتفاع أسعار النفط.
هذه الريعية العالية وارتباط الاقتصاد العراقي بسعر برميل النفط، تُعيق بشكل كبير عملية التخطيط الاقتصادي المتوسط والطويل الأمد، وتحول دون إيجاد بيئة اقتصادية مستدامة.
أموال البترودولار
في قلب السياسة النقدية والمالية العراقية، تكمن قصة مالية وقانونية معقدة، تتشابك فيها السياسة بالسيادة الاقتصادية، فبموجب اتفاقيات ما بعد 2003، فإن عائدات النفط العراقية لا تذهب مباشرةً إلى خزينة الدولة العراقية، بل تحوّل إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وتودع في حساب خاص باسم “تنمية العراق” أصبح يُعرف لاحقًا بـ”عراق-2″.
أما الهدف المعلن من هذا الإجراء، فهو توفير حماية أميركية لأموال العراق من المطالبات الدولية وقضايا التعويضات، وفقًا للأمر التنفيذي الرئاسي الأميركي رقم (13303)، والسماح للعراق بسحب كميات الدولار التي يريد، وتوجيهها نحو الاستثمارات في سندات الخزانة والذهب وغيرها، وتحويل جزء منها إلى مزاد العملة الذي يديره البنك المركزي العراقي.
ويعدّ هذا المزاد الآلية الرئيسة لتمويل العمليات التجارية وتغذية نظام المدفوعات والمالية للحكومة، والمحافظة على استقرار قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي.
ومع ذلك، يُثير هذا الترتيب قلق العديد من المراقبين والخبراء العراقيين الذين يرون فيه تقييدًا للسيادة الوطنية وتدخلًا في الشؤون المالية والنقدية للعراق، مما يُعد انتقاصًا من سيادة العراق وحقّه في التحكم الكامل في موارده كباقي دول العالم.
مؤخرًا، اتفقت السلطات النقدية العراقية والأميركية على إنهاء عمليات المزاد (أو النافذة) والتحول تدريجيًّا نحو الحوالات الدولية المباشرة، وقد يشكّل ذلك بداية لحصول العراق على حقه السيادي في تسلّم وإدارة أموال نفطه باستقلالية بعيدًا عن سطوة الفيدرالي الأميركي.
الخلل في النظام المصرفي
واجه النظام المصرفي العراقي الكثير من التقلبات والمنعطفات طوال الأعوام التي شهدت عملية إعادة تشكيله بعد عام 2003، فشهد تسهيلات تنظيمية واسعة ساهمت في افتتاح العشرات من المصارف الخاصة، حتى بلغ العدد الكلي 74 مصرفًا، منها 7 مصارف حكومية، و16 مصرفًا غير عراقي من تركيا وإيران ولبنان والأردن، ومزيج من المصارف التجارية والإسلامية المحلية.
وتشير بعض التقارير إلى أن الكثير من تلك المصارف أو البنوك، قد أسّست لتحقيق هدف رئيس واحد يتعلق بالاستفادة من مبيعات الدولار الأميركي من خلال مزاد أو نافذة الدولار التي أطلقت من قبل المركزي العراقي، سواء من خلال فروق أسعار الصرف أو الحوالات الخارجية.
تسبب هذا التركيز الكبير على عمليات المزاد، في محدودية الخدمات الائتمانية والمصرفية الأخرى التي من المفترض أن تقدمها تلك البنوك للأفراد والشركات؛ مما ساهم في عزوف الكثير من الشرائح المجتمعية عن التعامل مع المصارف، وهو ما عزّز حالة عدم الثقة في النظام المصرفي العراقي، ووسّع ظاهرة اكتناز الأموال لدى الأفراد بدلا من ادخارها واستثمارها في النظام المصرفي.
إن هذا الاعتماد الواضح للمصارف العراقية على عمليات محدودة مرتبطة بمزاد العملة، وضعف الثقة المجتمعية في النظام المصرفي، إضافة إلى بعض القصور في نظام الرقابة والتطوير لعمل المصارف من قبل البنك المركزي، ساهم إلى حد كبير في استمرار ضعف جودة المصارف العراقية، سواء في هيكليتها الداخلية أو جودة عملياتها وانضباطها بمعايير العمل المصرفي المطلوبة داخليًّا وخارجيًّا؛ الأمر الذي تسبب في تورط نسبة ليست بالقليلة من المصارف بشبهات عمليات تتعلق بغسيل الأموال وتهريب الدولار ودعم الكيانات والدول التي تقع تحت طائلة العقوبات الاقتصادية الأميركية.
ودفع ذلك بالخزانة الأميركية ومن خلال الفيدرالي الأميركي، إلى معاقبة بعض المصارف العراقية ومنعها من الوصول إلى الدولار من خلال النافذة، وزيادة التشديدات والضوابط على عمل كل المنظومة الإلكترونية والتنسيق مع البنك المركزي العراقي لإطلاق منصة إلكترونية نهاية عام 2022، وتفعيل ضوابط نظام “سويفت” العالمي للحوالات الدولية.
وقد أدت هذه الإجراءات الأميركية المشددة ومعاقبة العشرات من المصارف العراقية، إلى انخفاض المعروض من الدولار داخل الاقتصاد العراقي مقابل ارتفاع الطلب عليه؛ مما تسبب في ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار صرف الدولار.
بيد أن البنك المركزي العراقي والحكومة العراقية حاولا التعامل مع هذه الأزمة، وذلك من خلال عدة إجراءات أهمها: رفع قيمة الدينار العراقي أمام الدولار، والتضييق على عمليات تهريب الدولار عبر الحدود والمضاربات عليه في الأسواق الموازية غير الرسمية، وتحديد قنوات رسمية لبيع وتسليم الدولار.
وبعد مرور نحو 18 شهرا على أزمة النظام المصرفي العراقي وتصادمه مع الفيدرالي الأميركي، فإن الاقتصاد العراقي لا يزال تحت تأثير هذه الأزمة، سواء من ناحية وجود فروق في أسعار صرف الدولار بين السعر الرسمي وأسعار الأسواق الموازية، أو استمرار بقاء ما يناهز 30% من المصارف العراقية تحت طائلة العقوبات الفيدرالية.
بالرغم من حدوث تحسن في مستوى أداء المصارف بشكل عام ودرجة امتثالها للضوابط الأميركية، التي تجاوزت نسبة 80% حسب رئيس الوزراء العراقي، إضافة إلى التحول التدريجي من بيع الدولار من خلال المنصة الإلكترونية إلى حوالات خارجية مباشرة عبر المصارف العراقية بواسطة بنوك مراسلة دولية تسهل انسيابية عمليات التحويل.
تستمرّ محاولات الجهات النقدية والمالية العراقية لتطويق ومعالجة هذه المشكلة النقدية، التي يخشى أن يؤدي استمرارها إلى تقييد تدفقات الدينار لتغذية المالية العامة، لتلبية متطلبات بنود وفقرات الموازنة الثلاثية.
ما القطاعات الاقتصادية الرئيسة في العراق؟
قطاع النفط والغاز
يُعد قطاع النفط العراقي عملاقًا يتميز بالتماسك والتوسع، ويُشكل النفط والغاز شريان الحياة للبلاد، مساهمَين بأكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي.
ومنذ عام 2003، شهد العراق نهضة نفطية واضحة، إذ تمكن من رفع مستوى إنتاجه النفطي بشكل ملحوظ. ساعده في ذلك، الانفتاح على الشركات الدولية المتخصصة في الطاقة، من خلال نظام التعاقد الجديد المسمى “جولات التراخيص”. فارتفع الإنتاج من ثلاثة ملايين برميل يوميًّا عام 2003، إلى أكثر من 4.22 ملايين برميل في الربع الأخير من عام 2023.
ولم تتوقف الارتفاعات عند هذا الحد، فالصادرات النفطية قفزت إلى 3.4 ملايين برميل يوميًّا في الربع الأول من عام 2024، محققة عائدات مالية تتراوح بين 8 و11 مليار دولار شهريًّا. ومع وجود خطط توسعية تستهدف الوصول إلى مستوى 5 ملايين برميل بحلول عام 2025، يواجه العراق تحديات اتفاقات “أوبك بلس”، التي قد تحد من طموحاته في زيادة حجم صادراته النفطية.
أما قطاع إنتاج الغاز العراقي، فيمكن اعتباره ركيزة أساسية أخرى في مسار تحقيق الاستقلال الغازي عن المصادر الخارجية مستقبلًا، إذ تهدف الحكومة العراقية إلى الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من الغاز خلال نهاية هذا العقد، أو الاستغناء تدريجيًّا عن تدفقات الغاز الخارجية، وخاصة تلك القادمة من إيران، التي دخل العراق بسببها في مشاكل عدة تتعلق بتوقف الإمدادات أو مشاكل في تسديد فاتورة الغاز نتيجة العقوبات الأميركية على إيران.
ولكي يتحقق هذا الهدف الإستراتيجي، بادرت وزارة النفط العراقية، بالتعاون مع شركات عالمية مثل “توتال إنرجي” و”غاز بروم”، إلى تطوير إنتاج الغاز من عدة حقول غازية، منها حقول “أرطاوي” و”المنصورية” في ديالى و”عكاز” في غرب العراق، إضافة إلى الاهتمام بتوجيه الموارد نحو استغلال الغاز المصاحب، الذي يتم هدره خلال عمليات الإنتاج النفطي.
القطاع الصناعي والتنموي
برز العراق في منتصف القرن العشرين ضمن أبرز الدول الصناعية في منطقة الشرق الأوسط. فقد أطلقت بغداد خلال خمسينيات القرن الماضي حملة تنموية مذهلة، أسست من خلالها منظومة صناعية ضخمة ومتنوعة، بدءًا من قطاع الصناعات الدوائية إلى صناعات الغزل والنسيج، ومن إنتاج الأسمدة إلى إنتاج الأغذية، وصولًا إلى الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب ومشاريع التكرير والبتروكيماويات.
مثّلت هذه النهضة الصناعية 23% من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، لكن مع تعاقب الأنظمة السياسية واستمرار الصراعات الداخلية والخارجية، بدأت هذه القوة الصناعية التراجع بشكل درامي، فقد شهد القطاع الصناعي العراقي ضربات قاصمة، بين عامي 1991 و2003، فدمّرت وأغلقت العديد من المصانع الوطنية، وتدهور الإنتاج، وانخفضت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى ما دون 4%، وصنّف أكثر من 1000 معمل ومصنع خارج الخدمة، إضافة إلى توقف أكثر من 18 ألف مشروع صناعي وإنتاجي عن العمل.
وتحول القطاع الصناعي خلال تلك السنوات، من قطاع داعم للاقتصاد العراقي إلى عبء ومصدر ضغط على المالية العامة للدولة، بسبب النفقات العالية التي تتكبدها الحكومة لتغطية الكلف التشغيلية لمصانع ومعامل حكومية لا تنتج أي سلعة، وتساهم بشكل غير مباشر في تعزيز قاعدة الاستيراد وزيادة الاعتماد على المنتجات والسلع المستوردة.
شكل ما سبق، تحديًا كبيرًا أمام الحكومات العراقية المتتابعة بعد عام 2003، التي اتسم عملها بالتلكّؤ والقصور في تبنّي وتطبيق خطط مناسبة للنهوض بالواقع الصناعي العراقي والاتجاه نحو التنمية الصناعية والتنوع الاقتصادي.
وفي السنوات الأخيرة، بادرت الوزارات العراقية المعنية بإعداد خطط تستهدف الاستثمار في تنمية القطاع الصناعي وإعادة تأهيل المصانع المتوقفة وإنشاء مراكز صناعية جديدة تساهم في دعم التنوع الاقتصادي الوطني، لكن رغم هذه الجهود، تظل العراقيل والتحديات قائمة، وتعيق تقدم البرامج التنموية والإصلاحية، فالفساد ينخر في مؤسسات الدولة، والتحديات السياسية والأمنية والتشريعية والبيروقراطية تضع العِصيّ في دواليب أيّ تطوّر.
القطاع الزراعي
على مدى نصف قرن، كان القطاع الزراعي في العراق أحد الروافد المهمة للاقتصاد العراقي. وقد مرّ هذا القطاع بمراحل تطور متعددة طوال عقود، من عمليات استصلاح للأراضي وتحديث أنظمة الري وزيادة المحاصيل الزراعية، حتى أصبحت الزراعة العراقية كطوق نجاة للشعب العراقي خلال سنوات الحصار الاقتصادي بين عامي 1991 و2003.
وكغيره من القطاعات، واجه تحديات جمّة، بدءًا من آثار الحروب والصراعات والتغيرات المناخية وصولًا إلى شحّ المياه وسوء الإدارة؛ مما أدى إلى تراجع الوفرة الزراعية وانحسار الأراضي الصالحة للزراعة وهجرة الفلاحين من القرى إلى المدن.
وعلى إثر ذلك، عملت الحكومة العراقية على اتخاذ خطوات نحو تحسين القطاع الزراعي. وقد أثمرت هذه الجهود عام 2024، عندما ارتفع إنتاج الحنطة ليصل إلى مليوني طن، وتحقق هدف الاكتفاء الذاتي وطنيًّا. ولم يقتصر الأمر على الحنطة فحسب، بل شهد إنتاج التمور ارتفاعًا ملحوظًا، حتى احتلّ العراق المرتبة الرابعة عالميًّا في تصدير التمور.
وبالرغم من هذا التقدم، فإن الطريق أمام الزراعة العراقية لا يزال مليئًا بالتحديات، خاصةً فيما يتعلق بشحّ المياه ومشكلات التصحر وسوء الإدارة وغيرها، وهي تحديات تتطلب حلولًا فعّالة للتعامل مع جذور المشكلة، وتضافرًا للجهود لإحداث النقلة النوعية المطلوبة في هذا القطاع الحيوي والإستراتيجي.
قطاع النقل ومشاريعه
ومع تحسن الوضع الأمني فيما بعد 2021، والاستقرار السياسي النسبي، وارتفاع احتياطيات العراق المالية إلى مستويات تاريخية بسبب ارتفاع أسعار النفط وزيادة الصادرات النفطية العراقية، اتجهت الحكومة العراقية المشكّلة في نهاية عام 2022 إلى التركيز أكثر على القطاع التنموي، ومنه المشاريع المتعلقة بالنقل، بشقيه الداخلي والدولي.
- مشروع طريق التنمية
بادرت الحكومة العراقية الحالية بطرح عدة مشاريع تتصف بأنها مشاريع إستراتيجية تنموية، ستساهم في إحداث نقلة نوعية في قطاعات عدة، أهمها قطاعات النقل والصناعات. ففي قطاع النقل الدولي أطلق العراق مشروعًا إستراتيجيًّا للنقل العابر للحدود، يطلق عليه اسم مشروع “طريق التنمية”، يربط العراق بتركيا وشرق أوروبا من خلال خطوط سكك حديدية حديثة وقاطرات نقل تجاري سريعة، على امتداد مسافة 1200 كيلومتر، انطلاقًا من ميناء الفاو (يجري العمل على إنشائه) جنوبًا باتجاه الحدود العراقية التركية شمالًا، ثم يقطع الأراضي التركية غربًا باتجاه إسطنبول.
وبحسب بعض الأطراف الحكومية، فإن هذا المشروع يراد له أن يكون همزة وصل للحركة التجارية بين آسيا وأوروبا ومنافسة قناة السويس على حصص سوقية مهمة، إضافة إلى فسح المجال لجذب رؤوس الأموال للاستثمار في إنشاء المشاريع التنموية داخل العراق على طول الممرات البرية لهذا المشروع، كمشاريع التصنيع والمراكز اللوجستية وخدمات القيمة المضافة والمخازن وصناعات أخرى يفتقر إليها العراق.
وقد جذب مشروع طريق التنمية اهتمام الإعلام الإقليمي والدولي، وسلطت عدة وكالات إخبارية الضوء على هذا المشروع وتفاصيله، لكن بالرغم من هذا الاهتمام الإعلامي وحملة العلاقات العامة الكبيرة التي قامت بها الحكومة العراقية للترويج للمشروع، فإنه من الملاحظ أن هذا المشروع لم يتمكن من جذب المستثمرين لتمويله، وهو ما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول جدوى وجاهزية العراق لإنشاء وتشغيل مثل هذه المشاريع.
أما السبب في ذلك، فقد يعود إلى أن حركة النقل التجاري الدولي الرابط بين القارات، تعتمد بشكل أساس على النقل البحري بنسبة تصل إلى 84%، مع وجود مساهمة تكميلية من قطاع النقل البري لإتمام عمليات النقل الكلية حتى المخازن في أسواق الاستهلاك. هذا التقسيم العالمي جاء لأسباب تتعلق بالكلفة وطاقات النقل الاستيعابية، فالنقل البحري يوفر أرخص الوسائل للنقل مع إمكانية نقل كميات هائلة من البضائع عبر سفن الشحن العملاقة، التي تتجاوز قدرتها حمل 20 ألف حاوية نمطية في المتوسط، أما القاطرات فلا تستطيع نقل أكثر من بضع مئات من الحاويات في كل رحلة.
أضف على ذلك، عوامل الانسيابية والأمان والموثوقية التي يمكن للنقل البحري الدولي أن يقدمها للأسواق وقطاعات الأعمال، والتي قد لا يستطيع النقل البري تلبيتها بشكل مستمر، خصوصًا إذا كانت مسارات النقل تتطلب مرورًا بمناطق غير مستقرة أمنيًّا أو سياسيًّا. وقد تأسست منذ عقود سلاسل الإنتاج والإمداد والخدمة بين مراكز التصنيع في آسيا ومراكز الاستهلاك في أوروبا على الاعتماد بشكل رئيس على النقل البحري الدولي، مما وفر تكاملًا واضحًا بين قطاعات التصنيع والنقل واللوجستيات والتجهيز، وأوجد نموذجًا دوليًّا يُعدّ أحد أعمدة الاقتصاد العالمي.
إن هذا التباين بين أهداف مشروع طريق التنمية (على الأقل كما يروجه النظام الرسمي العراقي) ومتطلبات عمل منظمة النقل الدولية، قد يكون السبب الرئيس في تردد دخول الاستثمارات ورؤوس الأموال في تمويل هذا المشروع، والشكوك في جدواه الاقتصادية وارتفاع كلف إنجازه، التي تتراوح بين 17 و34 مليار دولار أميركي.
كما أعلن رسميًّا عن تكليف شركة إيطالية غير معروفة في قطاع النقل الدولي بدراسة جدوى هذا المشروع، وهو ما قد يعني أن المشروع بنموذجه المطروح حاليًّا لم يُدرس بشكل سليم ووافٍ، وأن مسألة نجاحه وتنافسيته واستدامته تحتاج إلى مزيد من الدراسة والمراجعة والتدقيق وأخذ متطلبات منظومة وسوق النقل الدولي بالحسبان، وإعادة صياغة نموذج عمل هذا المشروع بطريقة تجعله أكثر جدوى اقتصاديًّا.
وبالرغم من أهمية مشروع طريق التنمية للدولة العراقية واقتصادها، فإن الأولوية كان من المفترض أن تكون للنهوض بالقطاع الصناعي، بالتزامن مع العمل على التوسع في مشاريع النقل التجاري، لتحقيق أمثل استخدام اقتصادي لممرات النقل هذه، تضمن وصول المنتجات الوطنية سواء إلى الأسواق المحلية أو نحو المنافذ البرية والبحرية لتصديرها شمالًا وجنوبًا.
وقد وقع العراق في منتصف أبريل/نيسان 2024 على مذكرة تفاهم مع تركيا وقطر والإمارات للمضي قدما في هذا المشروع، لرفع مستوى التبادل التجاري الإقليمي بين هذه الدول وغيرها من دول المنطقة، وهو ما يشير إلى أن التوجه الآن فيما يخص طريق التنمية أصبح أكثر واقعية، وينسجم مع المتطلبات الإقليمية برفع مستوى التعاون الاقتصادي بين دول الإقليم.
- مشروع مترو بغداد
في مبادرة طموحة لإحداث نقلة نوعية في نظام النقل العام، أعلنت الحكومة العراقية عن إطلاق مشروع “مترو بغداد”، وهو مشروع إستراتيجي يهدف إلى إنشاء شبكة نقل عام شاملة تغطي 84% من مساحة العاصمة بغداد، ويمتد المشروع على مسافة 148 كيلومترًا من خطوط النقل، مرتبطًا بـ64 محطة.
ويقدم المشروع نموذجًا عصريًّا للنقل داخل العاصمة بغداد، إذ يمثِّل حلًّا مبتكرًا لمشكلة الازدحام المروري المزمنة التي تعصف بمدينة بغداد، وتؤثّر سلبًا في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فيها. وتقدر التكلفة التقديرية للمشروع بحوالي 17 مليار دولار أميركي، وهو استثمار يُتوقع أن يعود بالنفع على البلاد على المدى الطويل.
مع ذلك، فإن مشروع مترو بغداد ليس جديدًا تمامًا، إذ سبق أن طُرح للدراسة في أواخر السبعينيات، وعاد ليحظى بالاهتمام مرة أخرى بعد عام 2004.
غير أن المحاولات السابقة تعثرت بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية والسياسية المعقدة للعراق. والآن، تبدو الظروف مواتية للحكومة العراقية الحالية لتحقيق ما لم تستطع الحكومات السابقة إنجازه، والشروع بشكل فعال في تنفيذ المشروع الذي قد يكون مفتاحًا لحل أزمة النقل الداخلي وتخفيف الاختناقات المرورية في قلب العاصمة بغداد.
كيف السبيل لتحصين الاقتصاد العراقي؟
في رحلة الاقتصاد العراقي، تلتحم التحديات بالأمل، فهو يمثل نموذجًا للقدرة على التحول والتطور والتحرك في ظل ظروف ومتغيرات داخلية وخارجية شديدة الصعوبة، شريطة تبني الإصلاحات الهيكلية المطلوبة والاستفادة الفعّالة من موارد البلد بكافة أنواعها.
هذه الرؤية التفاؤلية، وحصول بعض بوادر التحسن الاقتصادي، رافقت صدور تقارير إيجابية محلية ودولية تتوقع نموًّا للاقتصاد العراقي على المدى المتوسط والطويل. ومع ذلك، يبقى الاقتصاد العراقي غير محصن بما يكفي أمام الانعكاسات والآثار السلبية للتوترات الجيوسياسية والتحديات الأمنية، وآثار الفساد والبيروقراطية، وتغيرات أسعار الطاقة عالميًّا.
غير أن الخروج من ذلك يكون بالعمل بشكل منهجي على خطة تنمية وطنية شاملة تبتعد تدريجيًّا عن الاعتماد الشديد على النفط، من خلال برامج اقتصادية متقنة، تعمل على استثمار الفوائض المالية التي تحققها مبيعات النفط، وتقديم المزيد من التسهيلات والدعم لتوسيع عمل القطاع الخاص في كافة القطاعات الاقتصادية المتاحة، والاستمرار في ضبط وتطوير وعصرنة النظام المصرفي، والهدف هو تحقيق أعلى مستوى من التنويع الاقتصادي المستدام، لحماية الاقتصاد العراقي من الصدمات والأخطار.