بيروت– يقف السوق النقدي في لبنان على مشارف مرحلة جديدة من الشفافية، مع إقرار الحكومة اعتماد منصة شركة “بلومبيرغ” الأميركية للتداول والأسواق المالية.
ويأتي ذلك في خطوة تطوي عهد منصة “صيرفة”، التي أقرها الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي رياض سلامة في مايو/أيار 2021، وسرعان ما تحولت وفق خبراء، لحالة استثنائية غير قانونية وغير شفافة، عجزت عن تأدية وظيفتها بضبط سعر صرف لليرة، والتي خسرت تدريجيا أكثر من 98% من قيمتها، منذ خريف 2019.
وجاء إقرار الحكومة لمنصة بلومبيرغ استجابة لطلب رفعه حاكم المصرف المركزي بالإنابة وسيم منصوري لوزير المالية يوسف الخليل، وهي من ضمن بنود وعد بتنفيذها منذ توليه المهام خلفا لسلامة في 31 يوليو/تموز الماضي لحين تعيين حاكم أصيل، حيث اعتبر منصوري أن “صيرفة تفتقر لمبادئ الشفافية والحوكمة”.
وقال منصوري -وفقا لرويترز- إن المصرف سيضع قيودا على الوصول لمنصة جديدة لتداول العملات من المقرر إطلاقها في غضون أسابيع بما يضمن أن الدولارات المتداولة في النظام تأتي من مصادر مشروعة.
وفيما يستغرق إطلاق المنصة نحو شهرين قبل دخولها حيز التنفيذ، وفي ظل تدريب الموارد البشرية في المصارف والمؤسسات المالية، يرى خبراء أنها قد تصبح الأداة التنفيذية لدخول لبنان مرحلة تحرير سعر صرف الليرة، حيث ستعكس بلومبيرغ السعر الحر للدولار، استنادا لآليات العرض والطلب وعمليات البيع والشراء بالسوق.
عمل بلومبيرغ
يشرح مصدر رسمي بمصرف لبنان المركزي للجزيرة نت، تفاصيل عمل منصة بلومبيرغ، ويركز على معاييرها بالشفافية.
ويقول المصدر إن “كل العمليات المالية ستصبح عبر مصارف، أو عبر مؤسسات مالية يكون لديها معايير عالية لمكافحة غسيل الأموال، وستؤدي المنصة تدريجيا لوقف خطوط حركة الأموال النقدية، لأن الاقتصاد النقدي يعرضنا لمخاطر عالية ومساءلة دولية، وستصبح بلومبيرغ أشبه بوثيقة لكل الدولارات المراقبة من المصارف والمؤسسات المالية”.
ويكشف المصدر عن مساعي المركزي لإصدار تعاميم جديدة تسمح للصرافين القانونيين التسجيل ببلومبيرغ، شرط أن يكون لديهم مكتب أو فريق متدرب لمكافحة غسيل الأموال، لإزالة الشكوك عن مصدر الدولارات.
ويفيد المصدر الرسمي بأن جميع الناس والمؤسسات قادرة على الاستفادة من “بلومبيرغ” بعد الانتهاء من أوراقها الإجرائية والتقنية، ومن المفترض أن تسجل مختلف المصارف التجارية بالمنصة، لأن عدم التسجيل يعني أن المصرف غير قادر على شراء وبيع الدولارات، مشيرا إلى أن بعض المصارف مسجلة مسبقا على المنصة، وسيخضعون جميعا للتدريب عليها.
وقال البنك الدولي سابقا، إن لبنان صرف على “صيرفة” في 2022، نحو 2.4 مليار دولار، مع احتساب ما دخل وخرج من دولارات عبرها، بينما يفيد المصدر الرسمي بأن كلفتها الفعلية في 2022، تقدر بمليار و200 مليون دولار.
فوائد وإيجابيات
ويلخص المصدر الرسمي عمل بلومبيرغ في لبنان بترجمة الواقع الفعلي لسعر صرف الدولار وضبط العمليات المالية وإلزام من يريد تحويل مبلغ مالي للخارج تثبيت مصدره عبر المنصة، على أن يكون صاحب المبلغ قد حوّل المبلغ من الليرة للدولار عبر المنصة وليس عبر السوق السوداء، كما يأخذ سعر صرف الدولار مداه الطبيعي من دون تدخل المركزي.
ومع ذلك، يتحدث المصدر عن تحديات عديدة تواجه “بلومبيرغ”، كصعوبة مكافحة السوق السوداء، كما أن غياب الحل السياسي والإصلاحات الحكومية سيصعب الأمور.
ويضيف “ستؤدي منصة بلومبيرغ دورا ضمن الإصلاحات المطلوبة من صندوق النقد الدولي، وعبرها سيصبح للبنان سوق خاصة على منصة عالمية وبشفافية مطلقة”.
ويؤكد المصدر أن المنصة تصب باتجاه تنظيم مالية الدولة وعلاقتها بالمركزي.
تحديات المنصة
راهنا، يتساءل اقتصاديون ومصرفيون عن أدوار بلومبيرغ المرتقبة، وإن كانت ستؤدي لتوحيد وتحرير سعر الصرف، فضلا عن دورها بتحديد قيمة الودائع المحتجزة.
وهنا، يقول الخبير المصرفي علي نور الدين للجزيرة نت، إن تفاصيل عمل بلومبيرغ، غير واضحة رسميا، لكن “غايتها المرجوة أن تكون وسيطا لإنتاج سعر صرف عائم وحر للعرض والطلب، وأن تنتج سعر صرف مرجعيا للسوق”.
ورغم أهميتها، ترى الأكاديمية والخبيرة بقوانين المصارف سابين الكيك، أن منصة بلومبيرغ تعكس إجراء تقنيا ضروريا، لكنها ليست حلا، وحتى تنجح يجب الاعتراف بها كسعر حقيقي ورسمي لدى الدولة اللبنانية، “لأن استمرار المركزي باعتماد 15 ألفا كسعر صرف رسمي غير منطقي”.
وتقول الكيك للجزيرة نت “نجح منصوري باستيعاب صدمة خروج رياض سلامة وأثرها على السوق النقدي متزامنا مع موسم سياحي مزدهر نسبيا. لكنه يمشي بين النقاط الصعبة من دون الخوض بقضية المودعين”. وتعتبر أن التحدي الأهم لمنصة بلومبيرغ، أن يصبح سعرها معتمدا لسعر صرف الودائع المحتجزة بالمصارف.
وسبق أن قدّرت حكومة نجيب ميقاتي خسائر الجهاز المصرفي بنحو 70 مليار دولار، ولم يحصل توافق رسمي بشأن كيفية توزيع الخسائر بين الدولة والمركزي والمصارف التجارية، ويواصل المودعون خشيتهم من تحميلهم المسؤولية الكبرى بالاقتطاع من ودائعهم.
لذا تعتبر سابين أن كل حل مصرفي ومالي لا يشمل مصير الودائع، يبقى ناقصا، إضافة لضرورة إعادة هيكلة المصارف وقيام المركزي بواجباته لجهة توفير الدولارات للدولة.
توازيا، يعتبر نور الدين أن أي محاولة لاستبدال “صيرفة” التي كبدت لبنان خسائر بملايين الدولارات، هي تطور إيجابي، “بعدما كانت صيرفة مباحة لفئات محددة ومحظية حققت أرباحا طائلة نتيجة عدم شفافيتها”.
ومنذ فترة، تحافظ الليرة على تقلبها بهامش بسيط عند عتبة 89 ألفا للدولار.
مخاوف
يقول نور الدين إن بلومبيرغ ستبلغ النجاح حين يصبح سعرها، سعر الصرف الحر بالسوق، متحدثا عن بعض التوجس من أداء المركزي. فـ”إذا ذهب المركزي بعيدا بانكفائه عن السوق، قد يعجز لاحقا عن ضبط حركة المضاربات التي ستقود لمرحلة جديدة من انهيار الليرة، وستتصاعد المخاوف من أن تقود المضاربات سعر الصرف وليس العكس”.
ويرى نور الدين أن المركزي سيتمكن -عبر “بلومبيرغ”- من ضبط المصارف بعمليات قطع طبيعية بيعا وشراء للزبائن.
وحول أداء منصوري، يقول الخبير المصرفي: “قام منصوري بدور إيجابي لجهة وضع الحكومة والبرلمان أمام مسؤولياتهما لمجرد القول إنهم لن يسمحوا بإقراض الدولار للدولة خارج الأطر القانونية، خلافا لنهج 3 عقود من سياسة الإقراض التي انتهجها سلامة”.
لكن، وبرأي نور الدين، ثمة مسؤوليات على منصوري ومجلس المركزي، وأبرزها:
- أداؤهم بمسار توحيد سعر صرف الليرة وتعويمها بناء على موازين العرض والطلب، وبناء على سياسة نقدية فاعلة من قبل المركزي بعيدا عن الإقراض.
- كيفية تأمين أداة تداول للدولار للدولة، لأن مؤسساتها لا تستطيع شراء الدولار من السوق السوداء بينما المركزي هو مصرف الدولة.
- اختبار التوازن الذي ستحققه بلومبيرغ بالقطاع المصرفي والمالي والعلاقة مع الدولة.