يتعرض القطاع الصناعي الخاص في سوريا، لهزة عنيفة، جراء ارتفاع أسعار الكهرباء، ومشتقات النفط (المازوت والفيول)، التي شهدت في الآونة الأخيرة قفزات لم يسبق لها مثيل، تجاوزت قدرة القطاع على الإنتاج.
ففي مطلع أبريل/نيسان الجاري رفعت الحكومة سعر اللتر الواحد من المازوت إلى 12540 ليرة (0.96 دولار)، وسعر طن الفيول إلى 8.69 ملايين ليرة (670 دولارا)، كما رفعت أسعار الكهرباء بنسبة وصلت بالمجمل إلى 600% عما كان عليه سعرها قبل سنوات.
واعتبر اتحاد غرف الصناعة، الزيادة التي شهدتها الطاقة، (الزيادة الثانية خلال الأشهر الأولى من العام الجاري)، بمثابة رصاصة أصابت القطاع الصناعي الخاص في مقتل، مع أنه يعاني أصلاً، من تحديات كبيرة على مستوى سلاسل الإنتاج، بعد أن تعرضت أصوله الثابتة لأضرار جسيمة، وتوقفت بعض المصانع عن العمل، بسبب عدم توفر مستلزمات الإنتاج، ووجود صعوبات في فتح الاعتمادات بالعملة الأجنبية، وقطع الشركات العالمية لعلاقاتها مع الشركات السورية، على خلفية العقوبات الغربية المفروضة.
وتوصلت غرف الصناعة السورية في اجتماع عقدته مؤخرا في العاصمة دمشق، إلى أن قرار الحكومة زيادة أسعار الكهرباء الصناعية بنسبة 120%، من شأنه أن يؤثر على تكاليف الإنتاج، ويرفع سعره، ويجعل أغلب المصنوعات الوطنية خارج عملية التصدير الخارجي وخارج المنافسة السوقية المحلية.
ويستهلك القطاع الصناعي نحو 20% من إجمالي الكهرباء، بينما تعاني البلاد من نقص في إمدادات مشتقات النفط، يحول دون قدرة مجموعات التوليد في 5 محطات (الزارة، وحلب، وتشرين، وبانياس، ومحردة) تعمل بالغاز والفيول، على توليد كميات إضافية تلبي الحاجة الصناعية والمنزلية.
وتحتاج وزارة الكهرباء إلى ما يقدر بنحو 17 مليون متر مكعب من الغاز، و3500 طن من مادة الفيول، لسد احتياجات البلاد، تبلغ تكلفتهما اليومية نحو 5 ملايين دولار، وفق مصدر حكومي.
من التصدير إلى الاستيراد
يشكل قطاع النفط والغاز، أحد أهم الروافد الرئيسية لإيرادات الحكومة السورية، بالرغم من قلة احتياطيات البلاد منه، مقارنة بدول أخرى في الشرق الأوسط.
ويقدر إجمالي احتياطيها النفطي بنحو 2.5 مليار برميل وفق موقع “أويل برايس” المتخصص في شؤون الطاقة. وخلال السنوات التي سبقت عام 2011 (بداية الأزمة) بلغ إنتاج سوريا من النفط الخام نحو 380 ألف برميل يوميا. فيما وصل إنتاجها من الغاز في الفترة ذاتها، نحو 30.2 مليون متر مكعب، بحسب صحيفة حكومية.
لكن البلد الذي كان يصدر النفط الفائض عن حاجته، إلى أوروبا، لأعوام عديدة، بدأ يعاني بشكل كبير من شح في إنتاجه، بعد أن سيطرت الولايات المتحدة وقوى عسكرية فاعلة أخرى “أثناء اشتداد الصراع على السلطة” على مجمل حقول النفط المنتجة، شمال شرق البلاد وفي وسطها، وتحول إلى مستورد لها.
ولفت وزير النفط السوري فراس قدور إلى وجود نقص حاد “تعاني منه البلاد” في المشتقات النفطية، والغاز الطبيعي، وبالتالي بالكهرباء، أدى إلى ضعف القدرة على سد حاجة المجتمع والقطاعات الاقتصادية والخدمية.
وأكد في كلمة ألقاها بمؤتمر الطاقة العربي الـ12 الذي عقد في ديسمبر/كانون الأول الماضي في الدوحة، تراجع إنتاج بلاده النفطي من 385 ألف برميل يوميا عام 2011 إلى 5 آلاف برميل حاليا، مشيرا إلى أن إنتاج سوريا من الغاز تراجع كذلك من 30 مليون متر مكعب في اليوم عام 2011، إلى 10 ملايين متر مكعب حاليا.
وتقدر وزارة النفط إجمالي خسائر قطاع النفط المباشر وغير المباشر بنحو 92 مليار دولار.
تكلفة غير دقيقة
ويتهم أرباب الصناعة السورية الحكومة بأنها تضغط على القطاع في هذا الجانب، لتبرير عجزها عن مواجهة تداعيات الحرب التي مضى عليها نحو 13 عاما وأفقدت النظام سيطرته على منابع النفط. ولا يدير النظام سوى حقول النفط والغاز في تدمر وشمال دمشق.
وتقيّم وزارة الكهرباء الوضع انطلاقا من قاعدة “ليس في الإمكان أحسن مما كان”، معتبرة في بيان لها، أن رفع أسعار الكهرباء الصناعية، إنما جاء للتقليل من الخسائر التي تتكبدها مؤسسة الكهرباء، وفق متغيرات ظرفية تتعلق بأسعار الوقود وارتفاع تكاليف الإنتاج وغيرها.
ومع ذلك -بحسب البيان- لا تزال أسعار الكهرباء في سوريا مساوية لأسعارها بدول الجوار، حيث تبلغ تكلفة الكيلووات الساعي نحو 2500 ليرة (0.19 دولار)، بينما يقدم للمستهلك بـ1900 ليرة (0.14 دولار).
ويرى الصناعيون من جهتهم، أن وزارة الكهرباء تعمل وفق مصالحها، وتورد أرقاما بالنسبة لأسعار الكهرباء وتكلفتها غير دقيقة، مقارنة مع أسعارها في دول الجوار.
ويصل سعر الكيلووات/ساعة في سوريا 0.165 دولار متجاوزا السعر العالمي، وأسعار دول الجوار كمصر التي يبلغ فيها 0.025 دولار وفي الأردن 0.095 دولار، وفقا لبيانات مجمعة.
وانتقد المحلل الاقتصادي زياد غصن طريقة الحكومة في احتسابها لتكاليف المشتقات النفطية، عندما تصنفها كمستوردة. مع أن ما تستورده الدولة هو عبارة عن نفط إيراني خام، يتم تكريره في مصفاتي حمص وبانياس.
وأضاف، على موقع “أثر برس”، أن ذلك يعني أن الحكومة تسعر المشتقات النفطية في السوق المحلية، وفقا لما تحدده بورصة أسعار المشتقات النفطية عالميا، والتي هي غالبا أعلى من بورصة أسعار النفط الخام، وليس وفق التكاليف الحقيقية المدفوعة لاستيراد النفط وتكريره في المصافي المحلية.
دعم إيرني
وتعتمد سوريا في سد احتياجاتها من النفط، على حليفتها الرئيسية إيران. وأبدت طهران التي تدعم نظام الرئيس بشار الأسد بمستشارين عسكريين، ومليشيات تقاتل إلى جانب نظامه في صراعه العسكري، استعدادها تزويد دمشق بالنفط الخام بموجب خطوط ائتمانية.
وفي صيف 2019 استقبلت الموانئ السورية نحو مليوني برميل من النفط الخام شهريا.
غير أن إيران، قيّدت فيما بعد، في مطلع 2023 إمدادات النفط لسوريا بالسعر المخفض، وضاعفت أسعاره بسبب ما يعانيه اقتصادها من مشكلات على خلفية العقوبات التي يفرضها الغرب. ورفعت سعر برميل النفط الخام من 30 دولارا إلى 70 دولارا، كما طلبت من دمشق دفع قيمة الشحنات المقبلة، مقدما.
ونقلت الصحيفة عن حميد حسيني، المتحدث باسم اتحاد مصدري النفط والغاز والبتروكيماويات الإيراني قوله: “نحن أنفسنا نتعرض لضغوط الآن. ليس هناك ما يدعو للبيع إلى سوريا بأسعار مخفضة”.
تأهيل الكهرباء بمساعدة خارجية
وفي السياق ذاته، تعمل طهران وموسكو، الحليفتان الرئيسيتان للأسد، على إعادة تأهيل المنظومة الكهربائية في البلاد، سواء على صعيد إعادة تأهيل محطات التوليد التي تعمل على الغاز، وتتولى شركة “بيمانير” الإيرانية وشركات أخرى تنفيذها في محردة وحلب وبانياس. أو على صعيد مد شبكات النقل والتوزيع، وإصلاح الشبكات المتعطلة، بشكل عام، ويقوم الجانب الروسي بتنفيذها.
وقال وزير الطاقة الإيراني علي أكبر محرابيان، إن بلاده تدخلت لإصلاح محطتين للطاقة الحرارية في مدينة حلب، وهي ثاني أكبر المدن في سوريا، إذ تبلغ الطاقة الإجمالية للمحطتين نحو 480 ميغاواتا، ومن المنتظر أن تُفتتح محطتان جديدتان تعملان بالغاز قريبًا، بعدما انتهت شركات إيرانية من بنائهما.
وأضاف محرابيان “كما نقدم التمويل والخبرة، لاستعادة نحو 5 غيغاواتات من طاقة توليد الكهرباء، التي أضاعتها الحرب، وفق ما نقل عنه موقع “برس تي في” .
إغلاقات بالجملة
وتربط حكومة الأسد تحسن إمداد القطاع الصناعي الخاص بالكهرباء الصناعية المخفضة، بتوفر كميات جيدة من الغاز والفيول لتشغيل محطات التوليد، ورفع إنتاجها.
ومع تعذر ذلك في المدى القصير، سيظل سعر الكهرباء أعلى من الأسعار العالمية، وفق مصدر في غرفة صناعة دمشق. وأضاف: إذا كانت غاية وزارة الكهرباء تحميل القطاع الصناعي الخاص، قيمة الفاقد أثناء الاستجرار، سيسبب ذلك ارتفاعا في أسعار السلع والمنتجات المحلية، وهذا من شأنه أن يؤدي في ظل انخفاض القدرة التنافسية إلى إغلاق شبه تام، لأغلب المنشآت الصناعية.
وتتراوح تكلفة الكهرباء من إجمالي المنتج من 6% إلى 40% بحسب عضو مجلس إدارة غرفة حلب مجد الدين شمشمان. ويرى “أن انعكاس ارتفاع أسعار الكهرباء على المواد لن يكون كبيرا، بخلاف المحروقات (المازوت والفيول) حيث ارتفع الأخير من 1.5 مليون ليرة للطن الواحد إلى 8.5 ملايين ليرة، أي أكثر من 5 أضعاف في عام واحد”.
وفي هذا الصدد، حذر مدير منطقة العرقوب الصناعية في حلب تيسير دركلت، من أن غالبية المنشآت الصناعية في المنطقة، البالغ عددها 1600 منشأة، قد أغلقت وأوقفت إنتاجها، وأن بعض أصحابها باع من أملاكه أو استدان أو صرف من مدخراته، لتسديد فواتير الطاقة التي يستجرها معمله.
وتوقفت في وقت سابق، 3 معامل حكومية لـ”صهر الخردة، وإنتاج الزيوت، والأدوات الصحية والبورسلان” في مدينة حماة عن العمل.
ويتوقع مراقبون أن تتوقف أكثر من 350 منشأة نسيجية من أصل 700 في مدينة حلب شمال سوريا عن العمل، طالما بقيت نفقات الكهرباء وضرائب الجمارك والمالية وتمويل المستوردات على ما هي عليه الآن، حيث زادت من تكاليف المنتج بنسبة 40% عن تكاليفه المماثلة في دول الجوار.
البديل المقترح ليس حلا
وتضغط الحكومة السورية لاستخدام الطاقة البديلة، كخيار متاح أمام الصناعيين للتخفيف من حاجة منشآتهم للكهرباء التي تنتجها الدولة. وترى الحكومة أن استخدام الطاقة الشمسية، أو الطاقة الريحية، من شأنه أن يوفر بديلا جزئيا غير تقليدي، كمرحلة أولية، على أمل أن تتحول جميع المنشآت إلى الطاقة البديلة بشكل تام.
وانتقد نائب رئيس غرفة صناعة حلب عبد اللطيف حميدة، الفكرة، وكتب معلقا في صفحته على المنصة الزرقاء: إنها عنصر مساعد للكهرباء، ولن تكون حلا بديلا، فمن غير الممكن الاعتماد عليها في فصل الشتاء، أو خلال الفترة الليلية لعمل المنشآت. ووصف ما يتعرض له القطاع بالكارثة الحقيقية.
فيما يقول صناعيون إن الفرصة الأخيرة المتبقية أمام القطاع للبقاء على قيد الحياة، هي عودة أسعار الطاقة إلى ما كانت عليه قبل الزيادات الأخيرة. وإن أي إجراء غير ذلك، سيكون بمثابة تهديد وجودي، لا تعرف نتائجه القريبة والبعيدة.