أزمة شيكات ورواتب.. كيف تتعامل السلطة الفلسطينية مع أعباء الحرب المالية؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

مع انطلاق العدوان الصهيوني على قطاع غزة بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأوّل، وبموازاة الحرب العسكرية التي خاضها، اتخذ الاحتلال إجراءات اقتصادية وميدانية على شكل عقوبات وقيود فاقمت من صعوبة الظروف المعيشية التي يمرّ بها الفلسطينيون.

ومن أمثلة ذلك: تسريح عمال الضفّة الغربية ومنع دخولهم إلى أراضي عام 1948 أو مستوطنات الضفّة، والخصم من أموال المقاصة للسلطة الفلسطينيّة، وفرض قيود على الحركة والتنقل بين محافظات الضفة؛ الأمر الذي أدى لنتائج فورية ومباشرة على “اقتصاد” الفلسطينيين وظروفهم المعيشية.

يبحث هذا المقال في الكيفيّة التي تعاملت بها السلطة الفلسطينيّة، ممثّلة بوزارة الماليّة وسلطة النقد، لمساعدة السكّان والتخفيف من الأعباء المالية التي خلّفتها الحرب عليهم.

الطبيعة الهشّة لـلاقتصاد الفلسطيني

لاعتبارات سياسية تتعلق بالاحتلال أساسا، يعاني “الاقتصاد الفلسطيني” ونظامه المصرفي من مشاكل بنيوية، تجعله أكثر هشاشة أمام الهزّات والصدمات الناجمة عن أية تغيرات وأزمات سياسية أو اقتصادية أو صحية، عطفا على العسكريّة.

إن حقيقة كون النظام الاقتصادي والمصرفي الفلسطيني نظاما غير مكتمل السيادة ولا الصلاحيات ولا المؤسسات، يجعل نقاش سياساته وإجراءاته وحدود قدراته محكوما بهذه المحددات.

ومن ذلك، غياب العملة الوطنية والقدرة على إقرار أسعار فائدة بشكل مستقل، وغياب السيطرة على الموارد الطبيعية والحدود، وكذلك على جزء مهم من موارد الجباية المالية (أموال المقاصة التي يحصّلها الاحتلال)، وغيرها من المحدّدات التي تجعل خطط صانع القرار في الاقتصاد الفلسطيني مقيّدا ومحكوما بمعطيات تحد من قدرته على صياغة وتطبيق خطط وسياسات مستقلة.

لكن، على الرغم من هذه المشاكل البنيوية والمحدّدات إلا أن هامشا بسيطا يبقى متاحا لاتخاذ إجراءات وسياسات تساهم في تطوير وتحسين هيكلة “الاقتصاد الفلسطيني” والتخفيف من أثر الأزمات المختلفة عبر الاستعداد المسبق لها، والتركيز المسبق على القطاعات الإنتاجية ودعمها وتعزيز حصتها في الاقتصاد، وكذلك عبر إنشاء صناديق الدعم والتحوط المستقرة بشكل مسبق.

أزمة الشيكات المرتجعة

فور اندلاع عملية “طوفان الأقصى”، بدأت الآثار المباشرة للعدوان بالظهور على اقتصاد الفلسطينيين ومعاملاتهم المالية. وكان من تمظهرات ذلك؛ تحوّل قرابة الـ200 ألف عامل إلى عاطلين عن العمل، ولو بشكل مؤقت، بعد منع الاحتلال دخولهم إلى أشغالهم في الداخل المحتل، وبالتالي قطع عنهم وعن عائلاتهم مصدر دخلهم الوحيد.

ونتيجة لتأثّر وضع سكّان الضفّة المالي، بدأت أعداد الشيكات المرتجعة مع الوقت بالارتفاع. وقد ارتفعت قيمة الشيكات المرتجعة في الشهر الأول من الحرب بنسبة 49%، مقارنة بالشهر ذاته من العام المنصرم. في حين بلغت نسبة الشيكات المرتجعة من العدد الكلي للشيكات خلال أول 45 يوما من الحرب 22%، بعد أن كانت 9% في الشهر الذي قبل الحرب.

ومن المهم هنا معرفة أن كشف الشيكات وإعادتها، أو التوقف عن سداد دفعات القروض والالتزامات ومحاولة تأجيلها، هو سلوك حمائي تقليدي يقدم عليه الناس مع أي أزمة تظهر حتى قبل أن تتشكل وقائعها وتبعاتها.

ومّما فاقم من الأوضاع الصعبة، هو قرار الاحتلال بخصم حصة قطاع غزة من أموال المقاصة الخاصة بالسلطة الفلسطينية، فرفضت الأخيرة استلامها منقوصة، وهو ما يشكّل تبعات مباشرة على موازنة السلطة محدودة الموارد أصلا؛ فبعد أن كان الموظفون العموميون يتقاضون رواتبهم بنسب تتراوح بين 80%-90%، فإنهم تقاضوا في الشهر الأول من الحرب راتبهم بنسبة 50%.

إجراءات السلطة

وفي إجراءات مشابهة لإجراءاتها وقت أزمة جائحة “كورونا”، عمدت السلطة الفلسطينية -عبر وزارة المالية وسلطة النقد- لترتيبات مع البنوك يتم بموجبها تأجيل أو إعادة جدولة دفعات القروض المترتبة على رواتب الموظفين العموميين، مع إتاحة إمكانية الحصول على سلف أو تمويلات محدودة لتغطية الالتزامات ودفعات القروض.

بطبيعة الحال، يترتّب على ذلك فوائد إضافية على الموظفين، وهو ما قد يسبب مزيدا من الضغوط الاقتصادية عليهم في المدى المتوسط والبعيد إذا ما طالت الأزمة.

كما أعلنت سلطة النقد الفلسطينية عن إنشاء صندوق “استدامة بلس ” بقيمة 500 مليون شيكل، كصندوق طوارئ لتقديم تسهيلات “مخفضة الفوائد” للمشاريع الصغيرة والمتوسطة التي عانت ومن المتوقع أن تعاني من آثار الأزمة الحالية وتراجع الدورة الاقتصادية والمالية، بحيث يمكنها من خلال تسهيلات هذا الصندوق تغطية التزاماتها الطارئة والاستمرار في العمل.

وبعيدا عن نقاش كفاية هذا الصندوق لمساعدة المشاريع، فإن السؤال الأهم هو حول نجاعة الإجراء الذي يبدو مجرّد مسكن، دون أن يكون جزءا من تخطيطٍ وإجراءات مستدامة طويلة الأمد، توفر الدعم والحماية لهذه المشاريع التي تعمل أساسا في بيئة غاية في الصعوبة يفرضها الاحتلال بإجراءاته وقيوده على الحركة والتصدير والاستيراد والموارد وغيرها، فضلا عن نقاش الأسس التي صنعت هذا الواقع وتعقيداته والمرتبطة بتأسيس السلطة وطبيعة الاتفاقيات الموقعة بينها وبين الاحتلال ومدى تطبيقها.

نقاش لا بد منه

يكثر التوجه في وقت الأزمات نحو إجراءات الطوارئ والخطوات الاستثنائية، خصوصا عندما يتبين أن الخطط والإجراءات التقليدية غير مرنة كما يجب، ولم يأخذ واضعوها مسبقا بعين الاعتبار تضمينها آليات تعامل مع الأزمات المتوقعة، وفي الحالة الفلسطينية ليس تصعيد الاحتلال عدوانه ولا حربه أمرا مستبعدا.

يقودنا هذا لنقاش الإجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية ضمن زاوية نظر أوسع، تقترح أن هذه الإجراءات الاستثنائية ستبقى قاصرة على الاستجابة للأزمات، بل وقد تساهم في إلحاق ضرر مستقبلي بالفئات المستهدفة منها.

فعلى سبيل المثال، تتكرّر مشكلة الشيكات المرتجعة مع كل أزمة، دون أن يعاد النظر في البنية القانونية وإجراءات المحاكم وتطبيقاتها والآليات المتبعة لعلاج وتسوية الشيكات المرتجعة، وكذلك لوائح وأنظمة البنوك في استصدار الشيكات.

وهو الأمر الذي يمكن أن يساهم في التقليل من حجم هذه المشكلة بشكل مستدام، مع ضرورة ملاحظة أن الطريقة المتبعة حاليا في معالجة الشيكات المرتجعة تترتب عليها عمولات كبيرة لصالح البنوك وسلطة النقد، إذ بلغت قيمة عمولات معالجة الشيكات المرتجعة، وفقا لموقع “الاقتصادي”، قرابة 15 مليون دولار عن 747 ألف ورقة شيك مرتجعة خلال الأشهر العشرة الأولى من عام 2023.

وينطبق النقاش نفسه على فكرة صندوق الطوارئ الذي سيزود المشاريع الصغيرة والمتوسطة باحتياجاتها، إذ إن تكلفة القروض الميسرة المقدّمة من الصندوق ستشكل عبئا إضافيّا على كاهل أصحاب المشاريع، وقد تساهم في إغراقهم أكثر في مصيدة ديون مستمرة، فمع استمرار تبعات العدوان وآثار العقوبات التي تفرضها حكومة الاحتلال على الفلسطينيين وعلى  أموال السلطة، لا يُتوقع أن تتعافى المشاريع والمنشآت الاقتصادية في المدى القريب.

ولا يختلف الحال كثيرا فيما يخص الموظفين العموميين، وهم الشريحة الأكبر والأكثر تضررا ربما، إذ يتقاضون منذ فترة طويلة رواتب منقوصة، وازدادت هذه النسبة مع الحرب وعدم تحويل أموال المقاصة من قبل الاحتلال.

وصحيح أن تأجيل دفعات قروضهم وإعادة جدولتها يخفف عنهم الاستحقاق مؤقتا، لكنه في الوقت ذاته يضيف عليهم فوائد وتكاليف إضافية، في وضع تبدو البنوك هي المستفيدة الأكبر منه، إذ قد تتأثر تدفقاتها النقدية الحالية لكنها ستضمن في المستقبل القريب أرباحا وعوائد أكبر. فوفقا لسلطة النقد الفلسطينية لا خوف على القطاع المصرفي واستقراره مع استمرار الأزمة.

وخلال العقدين الماضيين، ناقش العديد من الاقتصاديين والباحثين الفلسطينيين السياسات المالية والاقتصادية للسلطة واقترحوا تعديلات عليها، تناولت النظام الضريبي وشرائحه، وحصص القطاعات التنموية وقطاعات الإنتاج من موازنات السلطة ودعمها، وطبيعة وكمية حزم الدعم المقدمة لها، وغيرها من الجوانب التي يمكن أن تحدث نوعا من الاستدامة والاستقرار.

وانطلقت هذه الاقتراحات من الإقرار بأن الاحتلال وواقعه سيظل يشكل تحديا يؤدي إلى خلل بنيوي في “الاقتصاد الفلسطيني”، إلا أنه بالطبع يمكن اجتراح سياسات وإجراءات ضمن هذا الواقع الصعب تساهم في تعزيز صمود الفلسطينيين ودعم استقرارهم المالي والاقتصادي، وهو ما لا يحصل على أرض الواقع.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *