إسطنبول – أثارت الخسارة المدوية التي أصابت حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية التي جرت الأحد الماضي موجة من النقاش الحاد في الأوساط السياسية والإعلامية حول الديناميكيات والأسباب التي كانت وراء هذا الانخفاض الملحوظ في الدعم، في حين وصف بعض المحللين هذا التحول بأنه تصويت عقابي من الناخبين، معبرين فيه عن احتجاجهم ضد سياسات الحكومة التركية والحزب الحاكم في شتى المجالات.
وشهد حزب العدالة والتنمية انخفاضا ملحوظا في سيطرته البلدية، حيث تقلصت إدارته من 39 بلدية إلى 24 فقط، منهم 12 بلدية كبرى، ليحل بذلك في المركز الثاني بنسبة 35.5% من الأصوات على مستوى البلاد.
من ناحية أخرى، تمكن حزب الشعب الجمهوري المعارض من تعزيز موقفه بشكل لافت، إذ ارتفع عدد البلديات التي يديرها من 21 إلى 35 بلدية، شاملة 14 من البلديات الكبرى، كما استمر في الحفاظ على قيادته لبلديات المدن الرئيسية، متصدرا الانتخابات بنسبة 37.8%، وهو ما بات يعرف بأكبر هزيمة لحزب العدالة والتنمية منذ عام 2002.
الاقتصاد سبب
ويشكو المواطنون الأتراك من الحالة الاقتصادية الصعبة التي تمر بها تركيا منذ عدة سنوات، والتي أثرت على شتى مناحي الحياة، وهو ما جعل القضايا الاقتصادية مقعد الصدارة في دائرة اهتمام الناخبين، وذلك على خلفية تزايد معدلات التضخم لا سيما في المدن الكبرى وانخفاض سعر صرف الليرة التركية.
إذ جرت الانتخابات هذه المرة في سياق اقتصادي لم يسبق له مثيل خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، فوصلت أسعار الفائدة في تركيا إلى 50%، موازاة مع تسجيل التضخم لأعلى مستوياته عند 68.5% خلال مارس/آذار الماضي.
كذلك، واصلت الليرة التركية مسيرتها الهبوطية، مسجلة تراجعا بنحو 9% منذ بداية العام الجاري، كما ساهم الزلزال المدمر الذي ضرب كهرمان مرعش في إضافة عبءٍ اقتصادي ثقيل على عاتق البلاد، معمقا الأزمات الاقتصادية الراهنة.
هذه المعطيات، أدت إلى تراجع الوضع المعيشي، المتمثل بشكل خاص في ارتفاع تكاليف الحياة الأساسية؛ مثل: الإيجارات، وهو ما يضع ضغوطا كبيرة على ميزانيات الأسر، لا سيما في المدن الكبرى، فوجد الناخبون في هذه الانتخابات فرصة مهمة لإظهار مدى استيائهم من الأوضاع الحالية.
إضافة إلى ذلك، كانت الزيادات الهامشية في المعاشات التقاعدية محور استياء بين المتقاعدين الأتراك، الذين يناهز عددهم الـ15 مليون شخص، وهو ما ساهم بشكل ملحوظ في تراجع الدعم للحزب، فقد اختار بعض هؤلاء المتقاعدين الامتناع عن التصويت في الانتخابات، بينما وجد الباقون أنفسهم منقسمين بين تأييد الحزب ومعارضته.
التحولات في السياسة الاقتصادية
لعبت الإسهامات الاقتصادية الرئيسية التي نفذها حزب العدالة والتنمية في مستهل فترات حكمه دورا محوريا في دعم مساره الناجح وتأمين انتصاراته في العديد من المواعيد الانتخابية المتعاقبة.
فمنذ توليه الحكم عام 2002، رسم حزب العدالة والتنمية مسارا إيجابيا ومتطورا في البنية الاقتصادية والاجتماعية لتركيا تحت قيادة رجب طيب أردوغان، فحقق نجاحات متعددة شملت نقلات نوعية في حجم الصادرات التركية، وأحرز اكتشافات مهمة في مجال النفط، موقعا اتفاقيات رئيسية تعزز مكانة تركيا في استغلال موارد الغاز والنفط، بالإضافة إلى ذلك، شهدت البلاد تحديثا كبيرا في الصناعات الدفاعية وتوسعا ملحوظا في القطاع السياحي.
ويعتبر أبرز نجاحات حزب العدالة والتنمية اقتصاديا، بعد عام 2003، أنه أزال الأصفار الستة من العملة المحلية، ورفع من قيمتها أمام الدولار، فبعد أن كان الدولار يعادل ملايين الليرات، أصبح في عام 2005 الدولار يعادل 1.34 ليرة.
ونجح أردوغان لأول مرة في خفض سعر الفائدة لخانة الآحاد عام 2014 بفائدة 9%، وإلى 7.8% عام 2017، لتمثل أفضل سنوات الأداء والاستقرار الاقتصادي لحكومات العدالة والتنمية.
وفي مواجهة الانخفاض الحاد لقيمة الليرة التركية، ظل أردوغان ثابتا على موقفه المناهض لزيادة أسعار الفائدة. وعبر عن قناعته بأن هذا الضعف في الليرة لا يمثل بدقة الوضع الاقتصادي الراشد للبلاد، معتبرا أن أسعار الفائدة تمثل أداة للإثراء تصب في مصلحة الأثرياء على حساب تعميق جروح الفقراء.
ووفق رؤية أردوغان، كانت النسب المرتفعة للفائدة، سواء 24% أو حتى 19%، تشكل حجر عثرة أمام مسار الإنتاج والتوسع الاستثماري، وهو ما يؤدي إلى تكديس الأموال في البنوك والاستسلام للركود، بدلا من خوض غمار الأعمال والمشاريع.
إلا أنه ومع تدهور الوضع الاقتصادي الناتج عن نموذج محاربة الفائدة، قررت الحكومة التركية انتهاج سياسة التشديد الاقتصادي مع تعيين قيادات اقتصادية جديدة كان أبرزها وزير الخزانة والمالية محمد شيمشك، ومحافظة البنك المركزي حفيظة غاية أركان التي استقالت لاحقا.
وقد أزاح الفريق الاقتصادي الجديد الستار عن برنامج اقتصادي متوسط المدى للفترة من 2024 إلى 2026، يهدف إلى النمو بالاقتصاد التركي بنسبة 4% هذا العام، مع انخفاض معدل التضخم إلى 33%، وبوصول عجز الموازنة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي نحو 6.4%، على أن يبلغ معدل البطالة 10.3%.
هذا التوجه الجديد في السياسة الاقتصادية أثار استياء العديد من المواطنين، بمن فيهم كل من المعارضين لإستراتيجية خفض معدلات الفائدة والداعمين لها. المعارضون يعتقدون أن الإدارة الحالية قد دفعت بالاقتصاد التركي نحو حالة بالغة الصعوبة تتطلب جهودا مكثفة لإعادة بنائه، بينما ينظر الآخرون إلى النهج الاقتصادي المتجدد على أنه تغيير جذري في الأيديولوجيات والمبادئ التي كان يروج لها حكم أردوغان.
ما بعد الانتخابات
لا يبدو أن السياسات الاقتصادية في تركيا ستشهد تغيرا جديدا، ففي كلمته بعد نتائج الانتخابات المحلية أمام الشعب، تعهد الرئيس التركي أردوغان بمواصلة تنفيذ أجندته الاقتصادية، ومنح فريقه الاقتصادي مزيدا من الوقت لتنفيذ إجراءات تهدف إلى عكس مسار الانكماش الاقتصادي، معربا عن تفاؤله برؤية نتائج إيجابية في النصف الأخير من العام.
وفي تحليله للوضع الاقتصادي الحالي وتأثيره على الساحة السياسية، يقول المحلل الاقتصادي محمد أبو عليان للجزيرة نت: “أظهرت الظروف الاقتصادية المتدهورة والضغوط التضخمية الراهنة تأثيرها المباشر على مشاركة بعض الشرائح الاجتماعية في الانتخابات، خاصة مع تصاعد تكاليف المعيشة التي تلقي بثقلها بوجه الخصوص على الطبقات المتوسطة، ذوي الدخل المحدود، والمتقاعدين”.
ويتوقع أن تواصل الحكومة تبني نهجها القائم على السياسة النقدية التقييدية والانضباط المالي، استجابة لمحاربة التضخم المرتفع الذي يُعد من أبرز التحديات الاقتصادية التي تواجهها تركيا في الوقت الراهن.
ويضيف أبو عليان، أنه نظرا لعدم وجود انتخابات مقررة خلال الأربع سنوات القادمة، تتاح للحكومة فرصة ذهبية لتنفيذ إصلاحات اقتصادية جوهرية، كما يتوقع أن تسعى الحكومة إلى جذب رؤوس الأموال الأجنبية، خاصة من خلال تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر، بتقديم حوافز ومزايا تعزز من جاذبية البيئة الاستثمارية في البلاد.