شهد الاقتصاد الإسرائيلي منذ تسعينيات القرن الماضي عصرا من الازدهار والرفاه الاقتصادي نتيجة التحولات الدولية المتمثلة بانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج، وتربع الولايات المتحدة على عرش احتكار الهيمنة العالمية.
وتبع ذلك اتفاق أوسلو وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية من المواجهة المباشرة والتحرر من أعباء وتكاليف احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وإلقاؤها على كاهل السلطة الفلسطينية وتبييض الطريق أمام إسرائيل لإدماج اقتصاديات المحيط باقتصادها وتوسيع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية على مستوى الإقليم والعالم.
كل ذلك انعكس على مداخيل سكّان إسرائيل ومستويات معيشتهم وزاد من جاذبية إسرائيل للاستثمارات الخارجية. إلّا أنّ الأزمة الاقتصادية التي تضرب اقتصاد الاحتلال بسبب طوفان الأقصى وتبعاته تنبؤ بنهاية لهذا العصر.
وقد شكل الحدث الفلسطيني الأبرز في السابع من أكتوبر/تشرين الأول والذي يعتبر انطلاقا لمعركة طويلة سميت “طوفان الأقصى” ضربة للعقيدة والتقاليد العسكرية الإسرائيلية، والتي على أساسها تم هيكلة الجيش والأمن لوجستيا ونفسيا واقتصاديا.
فاعتماد العقيدة الأمنية لإسرائيل، على افتراض القدرة على الردع والحسم من خلال حروب خاطفة، تلقى صدمة عميقة بعد اضطرارها لخوض حرب طويلة وعلى جبهات متعددة، هذا العامل تحديداً شكّل أساساً لصدمة اقتصادية يعجز هذا الكيان عن الإحاطة بأبعادها أو التعاطي معها.
وتأتي هذه التحديات بعد سنة سيّئة شهدتها إسرائيل، تمثّلت في اتهامات رئيس وزرئها بنيامين نتنياهو بالفساد وذهابه إلى إعادة هيكلة المنظومة القضائية بما يخدم مركزة السلطات وتقويض استقلال وموضوعية القضاء الأمر الذي استدعى سلسلة من الاحتجاجات الداخلية التي أثرّت سلباً على الاقتصاد.
وعلى مستوى توازنات القوى الدولية وبمنظور أوسع، تأتي في زمن تراجع الهيمنة الأمريكية على العالم مدفوعة بصعود قوى دولية جديدة على رأسها الصين وروسيا، أي في وقت تواجه فيه واشنطن الداعم والراعي الأول لإسرائيل تحديات إستراتيجية على مجموعة من الجبهات.
هذا الواقع ألحق أضرارا اقتصاديّة عميقة وغير متوقعة بإسرائيل، بحيث أمسى العامل الاقتصادي محددا رئيسيا خططها العسكرية والأمنية، وليس من الدقة السعي لتقدير هذه الأضرار من خلال قراءة المؤشرات الاقتصادية الكميّة الآنية فقط دون الأخذ بعين الاعتبار الآثار الآنية غير المباشرة وبعيد المدى.
كلفة الحرب الآنية
بحسب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، أحد أكثر الوزراء تطرفاً وأحد كبار الداعمين لاستمرار الحرب، فإنّ كلفة الحرب المباشرة تصل إلى 246 مليون دولار يومياً، وعلى افتراض استمرارها فترة أطول (8 أشهر إلى سنة) فإنّ التكاليف المباشرة قد تصل إلى 50 مليارا أي حوالي 10% من إجمالي الناتج المحلي، في إطار افتراضات شديدة التحفظ، مثل عدم الذهاب إلى تصعيد على جبهات أخرى، وبافتراض عودة 350 ألف جندي احتياط لأعمالهم، وهما افتراضان ضعيفان أمام المعطيات الواقعية المحليّة والإقليمية. ناهيك عن أن التكاليف المباشرة للتصدي للهجوم الجوي الإيراني (13 و14 أبريل/نيسان الماضي) وصلت 1.4 مليار في ليلة واحدة.
وتشكّل الأضرار الاقتصادية غير المباشرة لهذه الحرب 90% من الصدمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويعزى ذلك للأسباب الرئيسية المتمثلة بانخفاض الاستثمار وتباطؤ نمو الإنتاجية واضطراب سوق العمالة.
ففي الربع الأخير للعام 2023:
- تقلص الاقتصاد الإسرائيلي بمعدل 20%.
- انخفض معدل النمو الاقتصادي من 6.5% إلى 2%.
- انخفض الإنفاق الاستهلاكي بمعدل 27%.
- انخفض حجم الاستيراد والتصدير بحوالي 42% و18% على التوالي.
- انخفض الاستثمار بمعدل 67.8%.
- انخفاض حاد في العمليات التشغيلية.
- ارتفاع الإنفاق الحكومي بمعدل 88.1% ذهب معظمه للإنفاق العسكري.
- أُجبرت إسرائيل على إنشاء صندوق إقراض بقيمة 10 مليارات شيكل (2.7 مليار دولار) لتوفير منح للقطاع الخاص الذي يعاني انخفاضا حادا بالمبيعات، ناهيك عن كلفة تعويض خسائر الأعمال وضمان الرواتب للموظفين.
كما دفع استمرار الحرب للعام 2024 إلى خفض البنك المركزي لتوقعات النمو للعام الجاري من 3% إلى 2%، ورفع الحكومة الموازنة العامة بنحو 19 مليار دولار مع عجز متوقع بمعدل 6.6%، وعانى الشيكل من عدة موجات من الاضطراب والتقلّب، مما دفع وكالات التصنيف إلى خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل، وهو إجراء يعود بشكل رئيسي لانخفاض الثقة بقدرة إسرائيل على الوفاء بالتزاماتها المالية والائتمانية، ويؤدي إلى تعزيز القيود أمام الاقتراض الخارجي الإسرائيلي ورفع كلفة الفوائد على الاقتراض.
الحرب تكشف أزمة ديموغرافية بإسرائيل
على الصعيد الديموغرافي تواجه إسرائيل أزمة واسعة، إذ اضطرت تحت ضغوط التعاطي مع التهديدات الأمنية والعسكرية الوجودية واستعادة قوة الردع إلى استدعاء 350 ألف جندي احتياط ووقف استقبال العمالة الفلسطينية من الضفة الغربية وغزة أي ما لا يقل عن 200 ألف عامل، وساهمت جبهتا غزّة وجنوب لبنان في إجلاء حوالي 150 ألف مستوطن من أماكن سكنهم وعملهم شمال دولة الاحتلال وفي غلاف غزة، مما شكّل أعباءً لوجستية واقتصادية إضافية على الاحتلال في مسؤولية إيوائهم.
من الجهة الثانية ساهمت الصدمة الديموغرافية في تعطيل قطاعات الأعمال في المناطق المخلاة وعلى رأسها قطاعا الزراعة والسياحة. وبإضافة ما لا يقل عن 170 ألف جندي نظامي وآلاف القتلى والجرحى والمعاقين، يمكن استخلاص أنّ سوق العمل الإسرائيلي يفقد ما يقارب من 900 ألف من قوته العاملة.
وتؤثر الحرب على اقتصاديات العمل باتجاهين متعارضين، إذ يعمل تجنيد الاحتياط على خفض عرض القوة البشرية في سوق العمل، وفي نفس الوقت يعمل تعطّل النشاطات الاقتصادية على تقليص الطلب على العمّال، أي أنّ الحرب تساهم في امتصاص صدمة ارتفاع معدلات البطالة من خلال التجنيد الإجباري، مما يخفف الأعباء والالتزامات على القطاع الخاص أمام موظفيه وعماله ويزيدها على الحكومة وموازنتها العامة.
أمام هذه الأزمة الديموغرافية وفي ظل حرب لم تقترب من نهايتها بعد، تعمل التحديات الواقعية على دفع أكثر حكومات إسرائيل يمينية وتطرفا إلى التفكير بخيار تجنيد الحريديم، أي يضع نتنياهو وزمرته في مواجهة مباشرة مع مصالح وثقافة ومعتقدات الأصوات الأكثر دعماً لهم.
الطوفان يساهم بعزلة إسرائيل واقتصادها
لجأت إسرائيل لخيار الإبادة الجماعية في قطاع غزة لاستعادة الردع وتأديب الفلسطينيين وإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني في غزّة وصهر وعيه، ولأوّل مرة في التاريخ يشاهد العالم بأجمعه ومن خلال البث الحي والمباشر واحدة من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية التي عرفتها البشرية، مما ساهم في عزلة إسرائيل دوليا وانهيار صورتها الأخلاقية الأمر الذي انعكس على الاقتصاد.
فقد لجأت العديد من الشركات إلى سحب استثماراتها من إسرائيل وفسخ صفقات واتفاقيات تجارية، وذهبت العديد من الدول إلى فرض عقوبات اقتصادية، ومنها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا وفرنسا وكندا وتركيا وإسبانيا، ورغم محدودية الأثر الاقتصادي المباشر لهذه العقوبات فإنّها تعتبر تهديدات اقتصادية إستراتيجية تمسّ صورة إسرائيل وعلاقاتها الدبلوماسية.
ونهاية العام الماضي، ادعى قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل أنّه يعاني من معيقات بيروقراطية أمام الاستيراد من الصين وارتفاع كلفة الاستيراد وتأخر وقت التسليم، واعتبر أنّ هذه الخطوات في واقع الأمر شكلت من العقوبات الاقتصادية الصينية غير المعلنة.
وفي مارس/آذار الماضي، دعا كل من، مقرر الأمم المتحدة الخاص للحق في الغذاء (مايكل فخري) والمقرر الأممي الخاص للحق في السكن اللائق (لاباكريشان راجاجوبال) مجموعة من شركات النفط، إلى وقف تقديم النفط لإسرائيل.
كما تصاعدت قوّة ونجاحات حركات مقاطعة إسرائيل ومقاطعة الشركات الداعمة من مثل “ستار باكس” و”ماكدونالدز” و”بوما” و”كوكاكولا” وجميعها عانت من انخفاضات حادة بالمبيعات، واضطرت “ماكدونالدز” إلى إعادة شراء الامتياز التجاري بإسرائيل، أضف إلى ذلك تصاعد المقاطعة الدبلوماسية والثقافية والأكاديمية، وجميعها تخدم تعميق العزلة الاقتصادية.
ومن جهة أخرى، فإنّ ذهاب إسرائيل لخيار الإبادة الجماعية في غزّة رفع من حدة غضب الجماهير العربية والإسلامية وسخطها، مما رفع كلفة التطبيع والسلام على الأنظمة العربية المطبعة أو التي تنوي التطبيع، إذ سيضعها بشكل مباشر في مواجهة شعوبها، وستكون أمام خيارات إستراتيجية ضيّقة وصعبة، وهذا ينبئ بالمزيد من الحصار الاقتصادي على إسرائيل، ويعطّل العديد من العلاقات التجارية والاقتصادية وهو خسارة للفرص الربحية المتوقعة من نجاح التطبيع.
ضغط الاقتصاد العالمي وتغيّر موازين القوى
لا يمكن النظر للاقتصاد بمعزل عن التغييرات في توازنات الاقتصاد العالمي، وذلك لأنّ إسرائيل تشكّلت ككيان وظيفي في خدمة المصالح الإستراتيجية للغرب ومعاداة تطلعات شعوب المنطقة نحو الحرية والاستقلال والسيادة والتنمية، بما يمكن القول إنّ ضعف إسرائيل يعني ضعف الهيمنة الغربية بالمنطقة، كما أنّ ضعف المركز الإمبريالي يعني ضعف قدرته على دعم وتمكين إسرائيل.
ومع دخول جماعة الحوثي اليمنية الصراع وتهديدها سفن إسرائيل أو المتعاملة معها بالاستهداف في البحر الأحمر، ومضيق باب المندب الممر المائي الرئيسي لحوالي 40% من التجارة الدولية، مما شكل فرض حصار تجاري مائي لم تنحصر آثاره على الاقتصاد الإسرائيلي بل تعدته لتطال الاقتصاد العالمي.
أمّا اللجوء لتوظيف مسارات وممرات مائية وبرية أخرى، فمن شأنه مضاعفة تكاليف الشحن والنقل والوقت اللازم لإتمام رحلات الشحن التجاري، وتعتبر اقتصاديات الغرب الأكثر تضرراً.
وذهبت إيران في 13 أبريل/نيسان -ردا على قصف إسرائيل لقنصليتها في سوريا- إلى حجز باخرة من مضيق هرمز تعود ملكيتها جزئياً لأحد رجال الأعمال الإسرائيليين، الأمر الذي هدد برفع أسعار النفط عالميا، إذ يمر عبر هذا هرمز نحو 20% من النفط العالمي.
ومن المرجّح حال ذهاب إسرائيل إلى اجتياح رفح أن ترتفع وتيرة ونوعية الهجمات الحوثية مع احتمال استهداف كوابل البيانات أسفل البحر الأحمر، مما سيعطل تدفق البيانات وتعطل الاتصالات بين أوروبا وآسيا، الأمر الذي سيشل أسواق البورصة في العديد من دول العالم ويضرب شركات الإنترنت الكبرى في مقتل اقتصادي غير مسبوق.
ومن جهة ثانية، تعمل جبهة الإسناد في العراق -بالإضافة إلى توجيه الضربات الجوية لإسرائيل- على استهداف القواعد العسكرية الأميركية، ومن الممكن أن تلجأ هذه الجبهة إلى توجيه ضربات إلى قوافل الشحن الإسرائيلية أو الأميركية بالمياه الإقليمية المحيطة، فمدى القوّة الجوية التي تملكها من صواريخ ومسيّرات يتيح لها ذلك وبتكاليف محدودة.
ويضاف إليها أن من شأن هذه التحولات الجيوسياسية تعطيل سلاسل الإمداد وخفض التجارة الإقليمية والدولية وخفض ثقة المستثمرين والمستهلكين ورفع أسعار النفط ومؤشرات التضخم على اقتصاديات الغرب التي ما تزال تعاني صعوبة التعافي الكامل من آثار أزمة 2008 الاقتصادية وما بعدها.
إنّ هذا الواقع يضع دول الغرب أمام خيارين أحلاهما مر: إما مضاعفة دعم إسرائيل مع احتمال الانخراط في مواجهات عسكرية مباشرة مع محور المقاومة الأمر الذي يرفع احتمالات الحرب العالمية الثالثة، أو تعزيز الضغوط على إسرائيل لإنهاء العدوان على غزة (وهو شرط جبهات الإسناد لوقف هجماتها) مما سيضطر إسرائيل إلى القبول بشروط المقاومة الفلسطينية التي تمثّل جميع الجبهات في المفاوضات غير المباشرة، وهذا يعني هزيمة إستراتيجية لقوى الهيمنة الغربية التقليدية أمام المقاومة الفلسطينية والعربية والإسلامية.
وإذا لجأ الغرب للخيار الأول (دعم إسرائيل) فمن شأن ذلك أن يرفع حدة الاحتجاجات المحليّة في دولها التي تنادي بوقف العدوان على غزة ووقف الإبادة الجماعية ووقف تمويل وتسليح إسرائيل على أقل تقدير، وهذه الاحتجاجات اتخذت مؤخرا منحى أكثر جذرية بانضمام العديد من الحركات الطلابية في كبرى الجامعات بالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وأستراليا وغيرها، والتي لجأت إلى التخييم في ساحات الجامعات واحتلال بعض الكليات، مما دفع الأجهزة الأمنية إلى تنفيذ اعتقالات بالمئات واستخدام العنف والقمع غير المبررين.
كما أنّ تعزيز الهيمنة الغربية -من خلال دعم وتمويل أوكرانيا وإسرائيل وتايوان- لن يكون إلّا من جيوب شعوبها، وهذا سيجنّد المزيد من الطبقات والفئات للاحتجاجات الداعية لوقف الحرب على غزّة أو المعادية لأنظمتها على أقل تقدير، مما سيعزز دورة العنف والقمع وبالتالي يستفز المزيد من الاحتجاجات.
تآكل صورة إسرائيل
تعتبر الهوية البصرية للدولة أساس ترسانة قوّتها الناعمة وتستند إليها لتعزيز الطلب على منتجاتها وإنشاء علاقات دبلوماسية وتجارية مع الدول والأجسام المختلفة. وقد نجحت إسرائيل في بناء هوية بصرية مفبركة وترويجها عالمياً، واستثمرت لذلك موازنات عالية، وتتكوّن هذه الهوية من عنصرين متناقضين: القوّة والأخلاق.
وإذا قيل إن إسرائيل دولة قوية اقتصاديا وآمنة للسكن والسياحة والاستثمار وجيشها لا يقهر، وفي نفس الوقت، واحة الديمقراطية وجيشها الأكثر أخلاقية، فإنّ هذه الهوية تلقت صدمة أتت على كلا العنصرين معاً، إذ تظهر إسرائيل في مواجهة الطوفان دولة ضعيفة وغير أخلاقية، وفاشلة أمنياً واستخباراتياً وعسكرياً، وفي نفس الوقت دولة عنصرية فاشية نازية تمارس على المكشوف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
وأضف إلى ذلك ظهورها كدولة غير عقلانية وفاقدة للتوازن وغير قادرة على التخطيط الإستراتيجي والتعاطي العاقل والحكيم مع الأزمات والصدمات، وهذا من شأنه تعزيز عزلة إسرائيل دبلوماسياً وعالمياً وثقافياً وأكاديمياً وتجارياً، خاصة مع ما تواجهه في محكمة العدل الدولية بخصوص القضية المرفوعة ضدها من دولة جنوب أفريقيا.
إنّ الأضرار الاقتصادية على المدى المتوسط والبعيد للصدمة التي ضربت العلامة التجارية لدولة إسرائيل لا يمكن حصرها، ولن تقف عند انخفاض الطلب العالمي على السلاح والأمن الإسرائيلي نتيجة الجودة السيّئة كما تبدت عند أوّل اختبار عملي حقيقي.
نهاية إسرائيل كدولة للرفاه والريادة
أخذا بعين الاعتبار جميع العوامل أعلاه ومع استمرار وجود تهديدات إقليمية قادرة على المبادرة وإدارة الحروب الطويلة، فكله سيدفع إسرائيل إلى إجراء تغييرات عميقة في عقيدتها الأمنية وبالتالي في شكل تنظيم اقتصادها نحو العسكرة الكاملة للموارد والمجتمع، فعصر إسرائيل كدولة رفاه ودولة الشركات الناشئة والريادة والابتكار انتهى بلا رجعة.
وسيعزز هذا التوجه المعطيات الواقعية التي تحدد إسرائيل وغير القابلة للتغيير:
- مساحة صغيرة وعدد سكّان قليل نسبياً (خمس سكّان إسرائيل من فلسطينيي الداخل المحتل).
- عدم توفّر عمق جغرافي إستراتيجي عسكري وأمني.
- الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي محلياً وإقليمياً وفقدانها لعامل المبادرة وعنصر الردع، مما سيغرق العقل الإسرائيلي الإستراتيجي في وحل من اللا يقين بسبب العجز عن تقدير إمكانيات وموارد أعداء إسرائيل بالمنطقة، والعجز عن التنبؤ بخططهم على المدى البعيد وحتّى القريب مما سينعكس على شكل اضطراب عند إعداد الموازنات العامة والخطط الإستراتيجية للدفاع والعسكر والأمن، إذ يعتمد إعداد الموازنات والخطط على توفّر معطيات واقعية أو قريبة من الواقع حول واقع العدو وإمكانياته وخططه
- وبالتأكيد، لن تكون الجبهة الداخلية بمعزل عن وحل اللا يقين الذي سينعكس في تفشي مشاعر القلق والخوف وانعدام الأمان فيها، والذي سيظهر في البداية على شكل انعدام ثقة عالية بالقيادة ولن ينتهي عند تآكل قدرة إسرائيل -التي تبدو كأرض القلق والدم أكثر مما تبدو كأرض اللبن والعسل- على جذب المزيد من المستوطنين إن لم تغدو طاردة للمستوطنين الحاليين.