لا يبدو أن رحلة رفع أسعار الفائدة من جانب الفدرالي الأميركي وبنوك مركزية عالمية أخرى ستنتهي عما قريب.
وضع يثير مخاوف كثيرة لدى المستثمرين والمستهلكين على حد سواء، ويشي بأن معدلات التضخم العالمية ربما لم تصل بعد إلى ذروتها خاصة في ظل ارتفاع أسعار الطاقة، عصب الاقتصاد على وجه الأرض.
هل حُلت معضلة التضخم؟
لكن هناك من يرى أن ارتفاع أسعار الفائدة ومعدلات التضخم سيكون مؤقتا، ولن يتحول إلى وضع طبيعي جديد. وهذا ما يذهب إليه الكاتب بول كروغمان في مقال صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية.
وما يجعل الكاتب يعتقد بأن الأسوأ بدأ يتلاشى وأن معضلة التضخم قد حُلت هو تلك البيانات التي تأتي من منطقة اليورو والتي تشير إلى أن تراجع التضخم بات ينتشر، وإن كان ذلك سيستغرق بعض الوقت قبل أن يجرؤ بنك الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) ونظراؤه في الخارج على إعلان ذلك.
ففي ألمانيا مثلا أظهرت بيانات رسمية أن التضخم تراجع في سبتمبر/أيلول الماضي إلى أدنى مستوى له منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية إلى 4.3% على أساس سنوي، مقابل 6.4% في أغسطس/ آب المنصرم.
ويتزامن ذلك مع توقعات لاقتصاديين استطلعت رويترز آراءهم بأن يكون معدل التضخم في الدول الـ20 التي تستخدم اليورو قد انخفض إلى 4.5% الشهر الماضي مقابل 5.2% في أغسطس/ آب السابق له.
وفي بريطانيا تراجع التضخم السنوي لأسعار المستهلكين على غير المتوقع، إلى 6.7% في أغسطس/ آب الماضي.
ماذا عن أميركا؟
يرى رئيس تنفيذي الإستراتيجيات بشركة فورتريس للاستثمار وتطوير الأعمال مصطفى فهمي أن مسار رفع الفائدة سيبقى مرهونا بعدد من العوامل التي أثرت عليه سابقا وعلى رأسها أسعار الطاقة والغذاء.
ويقول للجزيرة نت: “كلما شهدنا ارتفاعات في أسعار الطاقة أثر ذلك على التضخم نحو الأعلى، وهذا ما تسعى الاقتصادات المتقدمة لمواجهته الآن”.
ويعتقد فهمي “أننا في ذروة سياسة التشديد النقدي (رفع أسعار الفائدة)، ولن تستطيع البنوك المركزية الكبرى الاستمرار على وتيرة الرفع السابقة نفسها في الفترة المقبلة، بسبب انعكاساتها السلبية على العديد من القطاعات داخل هذه الدول مثل القطاع العقاري، بجانب ارتفاع نسب التعثر داخل المؤسسات المالية وتعرض بعضها للإفلاس وتراجع معدلات الاستهلاك”.
لكن فهمي لم يستبعد أن يُقدم الفدرالي الأميركي على رفع جديد لأسعار الفائدة خلال اجتماعه المقبل، غير أنه “ربما يبدأ في النصف الثاني من العام 2024 في سياسة الخفض”.
وشهر سبتمبر/ أيلول الماضي أبقى البنك المركزي الأميركي على أسعار الفائدة بلا تغيير عند نطاق %5.25-5.50%، لكنه تمسك بموقفه إزاء التشديد النقدي، وسط توقعات بأن يرفع سعر الفائدة مجددا بحلول نهاية العام، وأن يشدد السياسة النقدية حتى 2024 بشكل أكبر من المتوقع سابقا.
ويتوقع صناع السياسات في البنك المركزي في المتوسط أن يبلغ سعر الفائدة القياسي ذروته هذا العام، في نطاق يتراوح بين 5.50% و5.75%، أي ربع نقطة مئوية فوق النطاق الحالي.
وقال رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول وقتها إن المسؤولين سيواصلون عقد اجتماع تلو الآخر بشأن أسعار الفائدة، وأنهم مستعدون لرفع أسعار الفائدة أكثر إذا كان ذلك مواتيا.
وتبقّى للمجلس الفدرالي الأميركي اجتماعان هذا العام لمناقشة أسعار الفائدة، الأول سيعقد في 31 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، والثاني سيعقده يومي 12 و13 ديسمبر/كانون الأول المقبل.
ما أسباب التشديد النقدي؟
لم يكن رأي الخبير الاقتصادي نوفل الناصري بعيدا عن التوقعات حيث لم يستبعد أن يبقي الفدرالي الأميركي على أسعار الفائدة مرتفعة، ويستمر في سياسة التشديد النقدي خلال العام المقبل.
وقال للجزيرة نت “من المحتمل رفع سعر الفائدة نهاية هذا العام لأسباب عدة، أهمها استمرار الضغوط التضخمية نتيجة زيادة أسعار النفط على خلفية قرار أوبك بلس خفض الإنتاج، بالإضافة إلى التحديات الجيوإستراتيجية الأخرى”، في إشارة إلى الحرب الروسية الأوكرانية.
وتحدث الناصري أيضا عن أسباب أخرى لاحتمالية استمرار التشديد النقدي من جانب المركزي الأميركي، من بينها قوة الدولار وارتفاع عائدات السندات الأميركية، وهي أسباب تزيد الضغوط على أسعار المواد الاستهلاكية وتدفع التضخم نحو الأعلى.
كما تحدث عن عامل آخر يتعلق بقوة الاقتصاد الأميركي، وقوة سوق العمل التي لم تتأثر كثيرا بإجراءات التشديد النقدي، مما يجعل صناع القرار في أميركا أكثر جرأة على الاستمرار في رفع أسعار الفائدة.
وقالت السعودية الأربعاء إنها ستواصل الخفض الطوعي لإنتاجها النفطي بمقدار مليون برميل يوميا خلال الشهرين المقبلين، وبدأ تطبيق الخفض في تموز/يوليو الماضي.
كما قالت روسيا إنها ستبقي على الخفض الطوعي للصادرات بمقدار 300 ألف برميل يوميا حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول المقبل
وتحوم أسعار النفط في الوقت الحالي حول 90 دولارا للبرميل، مع توقعات بأن تصل إلى 100 دولار أو أكثر.
وتخفض “أوبك بلس” -التي تضم منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) وحلفاء رئيسيين من بينهم روسيا- الإنتاج منذ العام الماضي، وتقول إن الإجراء استباقي للحفاظ على استقرار السوق.
ماذا عن أوروبا وآسيا؟
وعلى صعيد أوروبا، فإن موقفها- يقول مصطفى فهمي- ربما يكون أكثر صعوبة لأن هناك دولا تواجه تراجعا في معدلات النمو، على رأسها ألمانيا وبريطانيا، ويضيف أن الموقف الأوربي له معطياته الخاصة.
أما بخصوص الدول الأخرى، فإن الصين تواجه تحديات كبيرة، كأزمة القطاع العقاري وتراجع ثقة المواطن الصيني في الاقتصاد وانخفاض معدلات الإنفاق الاستهلاكي والمنافسة المحتدمة مع الولايات المتحدة، لذلك- -يتابع المتحدث ذاته- سيكون سلوكها المالي أكثر تيسيرا، شأنها في ذلك شأن الهند.
ماذا عن الدول العربية؟
بخصوص الدول العربية -يقول فهمي- إنها ستظل تتحرك بشكل متواز مع الفدرالي الأميركي بسبب ربط أغلبها عملاتها بالدولار.
ويحذر مصطفى فهمي من أن الاقتصاد العالمي سيبقى تحت وطأة وضغط أسعار الفائدة حتى مع الميل نحو التوقف عن رفع أسعار الفائدة، ويعزو ذلك إلى تحديات أسعار الطاقة والغذاء وسلاسل الإمداد، بالإضافة إلى ما أسماه بحرب المعادن التي ستزيد وتيرتها في عام 2024، حسب اعتقاده.
ماذا عن المواطن؟
يؤكد الخبير الاقتصادي نوفل الناصري أن الدول العربية غالبا ما تقتفي أثر الفدرالي الأميركي في قراراتها بشأن أسعار الفائدة، خاصة الدول التي تربط عملاتها بالدولار.
ويستعرض الآثار السلبية لرفع أسعار الفائدة على المواطن وعلى الاقتصادات العربية، ويقول إن سياسة التشديد النقدي تدفع أسعار المواد الاستهلاكية نحو الأعلى مما يؤثر على القدرة الشرائية للمواطن ويزيد من الفوارق الاجتماعية.
ومن شأن رفع سعر الفائدة أن يؤدي إلى:
- زيادة تكاليف الاقتراض من البنوك.
- دفع مزيد من الأموال مقابل الحصول على الخدمات الحيوية.
- دفع المزيد للحصول على قروض الاستثمار والسيارات.
- دفع المزيد على القروض العقارية.
- رفع الفائدة يدفع المودعين إلى إيداع أموالهم بالبنوك كأداة استثمار للحصول على عوائد مرتفعة.