استقبلت دول أوروبية ملايين اللاجئين السوريين ممن قَدموا إليها باحثين عن ملاذ آمن وفرص أفضل للحياة على خلفية الأزمة الإنسانية والحرب التي عصفت ببلادهم 12 عاما، مواجهين تحديات عديدة بداية برحلة الهجرة المحفوفة بالمخاطر والمسائل القانونية المرتبطة باللجوء، وليس انتهاء بتحديات الاندماج في مجتمعات الدول المضيفة بما في ذلك تعلم اللغة والتكيف والبحث عن فرص للعمل.
ورغم الصعوبات التي واجهت السورية هناء مكية (29 عاما) منذ لجوئها إلى هولندا في عام 2015 رفقة زوجها محمد وأطفالهما، فقد تمكنت، خلال 9 سنوات من السعي الجاد والعمل الدؤوب، من الفوز بلقب “أفضل قادم جديد” إلى هولندا عن فئة رواد الأعمال لعام 2024 عن مشروعها (Bee Candy Shop) وهو متجر لبيع العسل الطبيعي.
مما دفع موقع منظمة “أفضل القادمين الجدد” (Beste nieuwkomer) الهولندية إلى وصف هناء بـ”نحلة العسل” التي تنشر الحلاوة، إذ لم يقتصر تميزها في مجال ريادة الأعمال، بل تجاوزه إلى التميز في العمل ضمن المجال التطوعي، قبل أن تؤسس هناء متجرها الخاص في خريف عام 2022، وتحصد لقب “أفضل قادم جديد” إلى البلاد بعد رحلة طويلة تحولت فيها التحديات إلى فرص والأحلام إلى حقيقة.
العسل من حاجة منزلية إلى الأسواق الأوروبية
وولدت فكرة مشروع (Bee Candy Shop) من حاجة هناء وأفراد أسرتها لمادة العسل الطبيعي الخالي من السكريات والمواد الحافظة والملونات، والذي تعذر عليهم إيجادها في الأسواق المحلية الهولندية، ولكن بحكم اعتيادهم في سوريا على استهلاك العسل “الأصلي الغني بالمعادن والأحماض ومضادات الأكسدة والمسؤول عن بناء المناعة” كان لا بد لهم من البحث عن المادة خارج هولندا، ومن هنا جاءت فكرة المشروع.
فقررت هناء وزوجها محمد افتتاح مشروع يعتمد على استيراد وإعداد العسل الطبيعي وتقديمه للناس بأنفسهم، فتقول هناء للجزيرة نت “كانت الخطوة الأولى هي البحث عن أفضل أنواع العسل، زرنا مزارع في هولندا والنمسا وألمانيا والسويد والدانمارك، ليقع نهاية اختيارنا على إحدى الغابات الإسكندنافية الدانماركية غزيرة الأمطار كثيرة الزهور”.
وكان سبب اختيار تلك الغابة هو خلوها من المواد الكيميائية المسؤولة عن حفظ النباتات، إلى جانب عدم اعتماد مزارعيها على السكر والأكياس الغذائية المخصصة لتغذية النحل، فالنحلة ضمن هذه الغابة “تتغذى على الزهور بشكل طبيعي” كما تقول هناء.
وانطلق مشروع هناء بطرح 3 منتجات من العسل الطبيعي الذي حرصت على إعداده صافيا وخاليا من السكريات، وهي “عسل موسم الصيف” و”عسل موسم الربيع” و”عسل زهرة الهيذر الدانماركية”، قبل أن تبدأ في مراحل متقدمة من المشروع بإعداد خلطات من هذه الأعسال مضافا إليها مواد تزيد قيمتها الغذائية.
ويقدم متجر هناء اليوم أنواعا متعددة ومتنوعة من الأعسال كـ”عسل الصيف المخلوط بحبة البركة والمحبّب للمسلمين، وعسل الربيع المخلوط بالمكسرات، وعسل الهيذر المخلوط بالجينسينغ لمشاكل الهرمونات وضعف البنية، وعسل الهيذر المخلوط مع العكبر المخصص لمشاكل الإنجاب والجهاز الهضمي” وغيرها من أنواع الأعسال الطبية والطبيعية.
وخلال أقل من عامين على انطلاقة المشروع توفّرت منتجات المتجر في العديد من الأسواق الأوروبية، لا سيما في هولندا وبلجيكا وألمانيا، وسط إقبال كبير على شرائها من الزبائن العرب والأجانب كما تشير هناء في حديثها للجزيرة نت.
وعن سبب رواج منتجاتها تضيف هناء “إنّنا نقدم منتجا موثوقا يجعل من متجرنا معتمدا عند مختلف أنواع العملاء”.
الصبر والتخطيط أهم عوامل النجاح
وفي وقت بات فيه من المألوف ارتباط مفهوم الريادة بقطاعات كالذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات والاتصال والتطبيقات الذكية والبرمجة وغيرها من القطاعات التقنية، لكن مشروع هناء اكتسب فرادته، وحقق ريادته عبر تقديمه منتجا غذائيا ذا جودة عالية، وبمواصفات غير متوفرة ضمن الأسواق الأوروبية، محققا بهذا شرطا أساسيا من شروط الريادة وهو الانطلاق من فكرة مبتكرة تلبي احتياجات السوق.
وعبر وضع خطة مدروسة لتطوير فكرة مشروعها، وإدارة مواردها بشكل متقن، تمكنت هناء من إنشاء متجرها الخاص متجاوزة جملة من العقبات والتحديات التي كان أبرزها مرتبطا بدراسة المشروع من النواحي المالية والتنظيمية والتسويقية، فتقول هناء للجزيرة نت “واجهنا صعوبات في إنشاء موقع المتجر، وتصوير المنتج بشكل جذاب، وإيجاد مخازن لتخزين العسل، ودراسة تكاليف الشحن للعملاء في هولندا وخارجها، فكل تفصيل كان يحتاج للدراسة والاطلاع”.
بينما شكل تصميم هوية بصرية فريدة للمتجر، واختيار الاسم وشعار المتجر (اللوغو) تحديا آخر لهناء، فتقول “كنا نبحث عن اسم جميل ولوغو فريد، وحاولنا أن يكون مظهر المنتج والهوية البصرية للمتجر مريحا للعميل، مما تطلب منا جهدا ووقتا كبيرين”.
ولمن يتساءل عن الوصفة السرية لنجاح المشاريع الريادية، فإن هناء توجزها بالقول “يكمن النجاح بالصبر وعدم الاستسلام ووجود خطة واضحة وأوراق نظامية، وهو ما يمنح صاحب المشروع أريحية وثقة عالية بالنفس” وهي العوامل التي ضمنت تنفيذ خطة المشروع بكفاءة عالية تضمن تحقيق أهدافه.
الجائزة مكافأة معنوية وليست شرطا للنجاح
وقطعت هناء شوطا طويلا لاستحقاق لقب “أفضل قادم جديد” إلى هولندا بعد 9 أعوام من العمل الشاق والجهد المتواصل سواء ضمن المجال التطوعي، أو في مجال عملها كمساعدة طبيب، أو من خلال تأسيس متجرها الخاص لبيع الأعسال.
وعن ذلك تقول للجزيرة نت “نحن جئنا إلى هنا مجبرين لا راغبين، بسبب ظروف الحرب في سوريا، وكان حصولي على الجائزة كأفضل قادم (وهي بالأساس أفضل لاجئ قبل تجميل الكلمة) داعما معنويا، إلى جانب أنه يعكس صورة إيجابية لجميع اللاجئين السوريين هنا في هولندا”.
وتؤكد هناء على أن الجائزة لا تعتبر شرطا من شروط النجاح فـ”نحن مستمرون بجائزة أو بدونها، وتكفينا آراء الناس التي تصلنا عبر البريد الإلكتروني للمتجر ومواقع التواصل عن سعادتهم بالمنتج وبمذاقه ومظهره، فالرسائل دائما إيجابية وهذا كاف، غير أن الجائزة مكافأة معنوية مهمة ودافع للاستمرار”.
واختارت هناء أن توجه نصائحها للشباب اللاجئ والوافد إلى أوروبا دونا عن غيرهم لما يواجهه هذا الشباب من تحديات مماثلة لتلك التي واجهتها في بداية رحلتها في هولندا.
فتقول إن “سبيل الشباب الوافد إلى أوروبا والراغب في الخوض في مجال ريادة الأعمال لا يكون إلا عبر تعلمه لغة البلد المضيف أولا، لأن ذلك عامل رئيسي لإنشاء أي مشروع ولفهم قوانين البلد المضيف وإثبات النفس، إلى جانب وضع خطة واضحة للمستقبل الدراسي والعملي، والبحث الدائم عن حلول في مواجهة العقبات، فالحلول دائما موجودة خاصة في البلد الأوروبي الذي يحتضن مؤسسات وجهات مسؤولة عن المساعدة”.
وكانت منظمة “أفضل قادم جديد” الهولندية غير الربحية، قد أعلنت عن المسابقة بنسختها الأولى عام 2021 بهدف تسليط الضوء على أبرز التجارب الناجحة والملهمة للاجئين والوافدين الجدد في جميع أنحاء هولندا.