ألقت مشكلة شح الدولار نتيجة الأزمة الاقتصادية في مصر بتأثيراتها على صناعة الدواء، مما زاد القلق بشأن السلعة الإستراتيجية وسط وجود نقص حاد بالأدوية في السوق المصري في العديد من المجالات الدوائية، وغياب دور الشركات الوطنية للأدوية.
ووفق دراسة حديثة، تعد مصر أكبر مستهلكي الأدوية في المنطقة، مع وصول عدد سكانها إلى 106 ملايين مواطن، فيما تستحوذ شركات القطاع الخاص على نصيب الأسد من إجمالي إنتاج الأدوية المصرية، مع تراجع دور القطاع الحكومي، إذ تستحوذ 10 شركات على ما يفوق 85% من إجمالي حجم المبيعات، تتصدرها شركة نوفارتس التي تستحوذ على أكثر من 7% من الحصة السوقية.
وسجّل سعر الدولار 30.95 جنيها، وفق البنك المركزي المصري، مع تأرجحه في السوق الموازية بين 50 جنيها إلى ما يفوق 60 جنيهًا، مما أثّر على القدرة الشرائية للمرضى، وهدد الصيادلة وشركات الإنتاج، وهو ما رصده معنيون بالأزمة تحدثوا لـ “الجزيرة نت”، محذرين من القادم.
أزمة اقتصاد لا أزمة دواء
يقول رئيس مركز حماية الحق في الدواء، محمود فؤاد لـ”الجزيرة نت” إن سوق الدواء في مصر، قديم وعريق وله اسمه في القارة الأفريقية، ويشمل 188 شركة تمتلك مصانع، و22 شركة أجنبية بعضها يمتلك مصانع، وحوالي 1200 شركة تجارية لا تمتلك مصانع، وتصنع أدويتها لدى غيرها، و8 شركات عامة حكومية، مشيرا إلى أن مبيعات السوق المصري للدواء في 2023 تجاوزت 3.25 مليارات دولار، وهي الأكبر في المنطقة بعد السعودية.
ويضيف فؤاد أن الأدوية سلعة إستراتيجية حيوية في مصر، يوجد منها 13 ألف صنف دواء، ينتج فعليًا منهم، 8 آلاف بصورة دائمة، لكنها ترتبط بمشكلتين: أولاهما: أن 95% من خاماتها تُستَورَد من الخارج، مما يجعلها مرتبطة بالدولار، وثانيهما: أن الدواء آخر سلعة تخضع للتسعيرة الإجبارية في مصر، وآخر تسعيرة تمت كانت في عام 2017، حين كان الدولار يساوي 18 جنيها مصريا، لكنه الآن ارتفع مما يدفع صناع الدواء إلى الإحجام عن الإنتاج.
ويصف رئيس مركز حماية الحق في الدواء الأزمة الحالية بأنها أزمة اقتصاد ونقد وليس أزمة صناعة دواء، مشيرا إلى أن صناع الدواء ناشدوا الحكومة في الأيام الأخيرة، توفير الدولار، لاستلام الأدوية المحتجزة في الموانئ، من دون حل، محذرا من أنه إذا جاء شهر أبريل/نيسان المقبل، من دون إيجاد سيولة دولارية فإن الأزمة ستكون أخطر مع استنزاف البدائل المتوافرة في السوق.
ويلفت فؤاد الانتباه إلى أن قطاع شركات الأدوية الوطنية يعاني، ولا يستطيع حل الأزمة، موضحًا أن عدد الشركات الوطنية حتى عام 1998، كان 12 شركة عامة تنتج 77% من إنتاج السوق كله، لكن في عهد الرئيس حسني مبارك تم خصخصة بعضها، فتراجع عددها إلى 8 شركات، صارت تنتج 10% من سوق الدواء فقط، مما جعل شركات الدواء الخاصة تتحكم في السوق كله.
ويضيف فؤاد أن شركات الدواء تحاول الضغط على الحكومة حاليًا بتقليل خطوط الإنتاج، والعمل بحوالي 60% من طاقتها من أجل الضغط لتحرير سعر الدواء الذي يخضع للتسعيرة الإجبارية في ظل رفع الحكومة لأسعار الكهرباء وباقي الخدمات، رغم أن الشركات في كل الحالات تكسب أضعاف المكسب العادل، ولكنها تريد الحفاظ على النسبة ذاتها من المكاسب المعتادة، على حد قوله.
القرار 499
يتفق القيادي النقابي وعضو نقابة الصيادلة بمصر، د.إسلام عبد الفاضل في حديث لـ”الجزيرة نت” مع الرأي السابق في أن الأزمة الحالية في سوق الدواء تكمن في شح الدولار، موضحًا أن القرار الوزاري رقم 499 يربط التسعيرة الإجبارية للدواء بقيمة قديمة للدولار، مما جعل الأزمة تتفاقم، مرجحًا أن تنتظر الشركات استقرار سعر الدولار حتى تضخ أدوية مناسبة ولا تتعرض لخسائر.
ويؤكد عبد الفاضل أن ذلك أثّر سلبا على المستهلكين من المرضى، إذ يوجد شح في الدواء، ونقص بالغ في أنواع الأدوية، حتى وصل الأمر إلى أن شركات الأدوية تتعامل حاليا مع الصيدليات بنظام “الكوتة”، فصار لكل صيدلية حصة معينة لا تتخطاها، وبات الشائع أن لكل صيدلية علبتين من الدواء فقط، وهو ما دفع إلى وجود قصور في المخزون وأزمات في الصيدليات.
ويضيف القيادي النقابي بنقابة الصيادلة، أن الأزمة أثرت سلبًا على اقتصاديات الصيدليات، إذ تراجعت مبيعاتها بسبب استمرار التسعيرة الإجبارية القديمة من دون تغيير مناسب للأسعار وقيمة العملة، وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، مما تسبب في زيادة الركود وانخفاض المردود الاقتصادي، وتورط بعض ضعاف النفوس في بيع أدوية محظورة، بالتزامن مع خسائر في شركات توزيع الأدوية المتوسطة والصغيرة، التي باتت تحارب حتى لا تخرج كلها من السوق مع انزلاق عدد منها في الأزمة، مما يهدد الأمن القومي الدوائي، وفق قوله.
وحول تأثير الأزمة على المواطنين، يقول عبد الفاضل: “للأسف بدأت ممارسات غير طبية مرعبة من بعض المرضى، في توفير جزء من مخصصات الدواء لشراء احتياجات أساسية أخرى في بيوتهم، حتى طال ذلك النظام الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة، مثل الضغط والسكر، التي قلل بعض المرضى الجرعات من دون استشارة طبيب حفاظًا على العبوات المتاحة لديهم، ووصل الأمر إلى شراء بعضهم للدواء بالقرص، وليس بالشريط أو العلبة التي عادة تحتوي على شريطي دواء، فيما تراجعت تمامًا نسبة شراء المكملات الغذائية التي كانت رائجة في فترات سابقة”.
ثقب الدولار
من جانبه، أكد رئيس الوزراء المصري، مصطفي مدبولي الحرص على توطين صناعة الأدوية، والمستلزمات الطبية في مصر، فيما قررت وزارة الصحة المصرية حظر استيراد الأدوية المستوردة التي يوجد لها مثيل محلي، مع وضع أولوية لاستيراد المواد الخام اللازمة لصناعة الأدوية الأساسية، فيما أعلنت هيئة الدواء المصرية (تتبع مجلس الوزراء) في 14 فبراير/شباط الجاري، قيامها بحملات رقابية موسعة على المؤسسات الصيدلية لضبط سوق الدواء، مع الإعلان عن خط ساخن لذلك وفق بيان رسمي.
وفي حديث لـ”الجزيرة نت”، يرى وكيل وزارة الصحة المصرية الأسبق، مصطفى جاويش أن أزمة شح الدولار لم تكن إلا الثقب الذى أظهر عورات المنظومة الدوائية ككل، وهو المحطة الأحدث فى مسار محطات كبرى التدهورات المزمنة فى الأوضاع الوطنية للدواء، والتي تراكمت على مدى عقود، وفق تأكيده.
ويتفق جاويش مع سابقيه في التأثير السلبي لاستحواذ الشركات الخاصة والأجنبية على النصيب الأكبر من السوق، محذرًا من استمرار اعتماد صناعة الدواء المصرية على الاستيراد بنسبة 95%، وزيادة مديونيات وزارة الصحة لشركات قطاع الأعمال ونقص السيولة المالية لدى تلك الشركات، واستمرار مشكلة الزيادات العشوائية فى أسعار الدواء منذ صدور القرار 499 لسنة 2012، الخاص بالتسعيرة الإجبارية، وتراجع المخصصات الحكومية لدعم الدواء بنسبة 50% في ختام ميزانية 2022/2023، ومن قبلها بسنوات منذ عام 2014 .
ويقترح المسؤول الحكومي الأسبق إصدار مجلس الوزراء قرارًا بالإعفاء الجمركي للخامات الدوائية ومستلزمات التشغيل، وبعض الأدوية الأساسية، وتبلغ قيمتها 150 مليون دولار، حسب آخر تقرير رسمي معلن، واستصدار قرار جديد للتسعير حسب القواعد القياسية وإلغاء القرار 499، وإعادة ضخ التمويل الحكومى اللازم لدعم الدواء بصورة مناسبة، مع البدء في دعم البحوث الدوائية بالجامعات المصرية، وتنشيط مصانع مجمع شركة النصر لصناعة الكيميائيات الدوائية، وذلك لبدء صناعة الخامات الدوائية في مصر وعدم الاعتماد على الاستيراد.