يحتل موضوع “إنعاش الاقتصاد” صدارة المشهد السوري بعد أن تعرض لأضرار جسيمة في موارده وأصوله المادية، وحوّلته الحرب خلال العقد الأخير إلى اقتصاد هش يعاني -بحسب المؤشرات العالمية- من تفتت وانتكاسات، أثرت بشكل سلبي على معدلات النمو والإنتاج والتجارة وتدفقات رأس المال.
وبينما تحاول حكومة النظام السوري اتخاذ إجراءات عديدة لإنعاش قطاعات الإنتاج والاستثمار والنقد، وهي أكثر القطاعات تأثرا بالصراع، مستفيدة من الهدوء النسبي التي تشهده جبهات الحرب، رغم غياب الموارد الداعمة وانعدام السلام والأمن والاستقرار، يرى محللون أن تلك الإجراءات مجرد حلول تعويضية، الغرض منها تعويض الخسائر التي منيت بها قطاعات النفط والتجارة والسياحة والصناعة، وكان لها تأثيرات ضخمة على موارد الدولة والتي استثمرتها الآلة العسكرية، وليست حلولاً لمشكلة الاقتصاد الذي يعاني من خلل بنيوي وهيكلي منذ عقود.
في حين وصف آخرون الاقتصاد السوري بالهجين، الذي يفتقر إلى هوية لاعتماده على إستراتيجيات منتقاة وسياسات متضاربة، فشلت في تحقيق معايير النمو وعدالة توزيع الثروة والدخول، وساعدت طبقة متنفذة على احتكار غنائمه وتأسيس إمبراطوريات مالية، حققت عائدات ضخمة غير مشروعة في غياب سلطة القانون.
تعافٍ دون موارد داعمة
من جهته، توقع كنان ياغي وزير المالية السابق في نظام الأسد أن يحقق النمو الاقتصادي نسبة 1.5% هذا العام، لافتا إلى أن العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أعاقت وصول التحويلات المالية، في وقت يحتاج فيه الاقتصاد -الذي بلغت خسائره نحو 300 مليار دولار وفق أقل التقديرات- إلى الدعم والقروض لإعادة بناء البنية التحتية، بحسب قوله.
وأوضح في تصريحات متلفزة، خلال مشاركته في الاجتماع السنوي للهيئات والمؤسسات المالية العربية الذي عقد في القاهرة في مايو/أيار الماضي، أن الهدف الذي تعمل الحكومة عليه هو البحث عن محركات النمو الذاتي من خلال تنمية القطاع الخاص، على اعتبار أن الاقتصاد بدأ بمرحلة التعافي، وهناك حاجة لبعض الوقت كي تظهر النتائج الإيجابية على أرض الواقع.
في المقابل، استبعد الخبير الاقتصادي عبد الستار دمشقية أن تكون الإجراءات التي اتخذتها الحكومة خلال السنوات الثلاث التي مضت قد أسهمت في حماية الاقتصاد من استمرار تدهوره، واعتبرها “مجرد تحرك محدود أو معالجة وقتية تفتقر إلى إستراتيجية واضحة، وتحدد الهوية الحقيقية للاقتصاد ومساره المستقبلي”.
ووصف القول بإمكانية تعافيه ونموه في ظل غياب الموارد الداعمة، وغياب الأمن والاستقرار وسيادة القانون، بكونه “تكهنات مبالغا فيها”.
وأوضح دمشقية، في حديثه للجزيرة نت، أن الاقتصاد السوري منذ ثمانينيات القرن الماضي يعاني من اختلالات واضطرابات وتشوهات، تفاقمت بشكل كبير أثناء الحرب، حيث تكبد خسائر إضافية، تدرجت من دمار أصوله المادية وتراجع حجم رأس المال الأجنبي والاستثمارات الخارجية، إلى تدهور أرقام الإنتاج المحلي، بشقيه الصناعي والزراعي، والاعتماد كليا على الاستيراد والمعونات الخارجية لردم الفجوة الحاصلة.
ووفق دراسة أعدها المركز السوري لبحوث الدراسات:
- بلغت خسائر الاقتصاد نحو 530 مليار دولار، أي ما يعادل 9.7 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 بالأسعار الثابتة.
- بلغت نسبة الدمار في البنية التحتية نتيجة المعارك في البلاد نحو 40%.
- كشفت الدراسة عن ارتفاع الدين العام للبلاد لنحو 208% نسبة إلى الناتج المحلي.
- وفق الدراسة، فقدت العملة المحلية نحو 97% من قيمتها.
- بلغت معدلات البطالة نسبة 42%.
وفي السياق ذاته، تفيد دراسة أخرى، أجرتها وكالة المعونة الدولية “وورلد فيجين” بمشاركة “فرونتير إيكونوميكس”، بأن الكلفة الاقتصادية للصراع بعد 10 سنوات بلغت نحو 1.2 تريليون دولار أميركي. وحتى لو انتهت الحرب اليوم، وفق الدراسة، فإن تكلفتها ستستمر في التراكم لتصل إلى 1.7 تريليون دولار في عام 2035.
أي نموذج اقتصادي الآن؟
خضعت منظومة الاقتصاد السوري لتحولات عميقة خلال العقود الخمسة التي مضت، وعانى من تزاوجٍ غير متناسب بين هويته “الاشتراكية” التي تضمنها الدستور، وهويته “الليبرالية” بحكم الواقع.
فقد تمت تسميته في دستوري 1971 و1973 بـ”اقتصاد اشتراكي مخطط”، لكن السياسات والقوانين الاقتصادية التي توالت مع صدور قانون الاستثمار رقم 10 عام 1991 أعطت انطباعا مغايرا.
وانتقدت لمياء عاصي وزيرة الاقتصاد السابقة في حكومة ناجي عطري هذا الخلل، وقالت على صفحتها في منصة رقمية “من غير المنطقي أن يقود اقتصاد البلد مجموعة من الآراء المتضاربة، التي تستند إلى مرجعيات مختلفة، واحد ليبرالي وآخر اشتراكي وثالث لا هوية له غير أهوائه الشخصية ومصالحه”.
لكن المزاوجة انتهت، بحسب الباحثة رشا سيروب، عندما فقد الاقتصاد هويته مع صدور دستور 2012، وبات يفتقر إلى سمة محددة دستوريا بعد أن أُلغيت “الاشتراكية” الملازمة له وحلّ مكانها القطاع الخاص شريكًا للقطاع العام في الاقتصاد الوطني.
وتساءلت في ختام بحثها حول هوية الاقتصاد السوري “ما هي طبيعة الأيديولوجيا الاقتصادية للدولة بعد أن تم التخلي عن الاشتراكية دستوريا؟ مع أن الدستور ليس وثيقة قانونية فحسب، بل أيضا وثيقة اقتصادية تعبّر عن التطلعات الاقتصادية للدولة”.
لماذا فشلت التجارب الثلاث؟
يقود الخلط بين مصطلحات غير مترادفة إلى أداء مشوش على صعيد الواقع ومخرجات سالبة، بدت تأثيراتها المجتمعية واضحة خلال العقدين الأخيرين، بحسب الخبير دمشقية، إذ قال إن التحول عن طريق الصدمة من اقتصاد اشتراكي (مخطط ومدار مركزيا) إلى اقتصاد سوق ليبرالي أحدثَ ثلاث صدمات (تنموية وإنتاجية واجتماعية) نتج عنها غياب العدالة في توزيع الثروة وفقر (عادي ونقدي ومدقع) غير مسبوق، ارتفع معدله بشكل كبير مع انسحاب الدولة من القيام بدورها الاجتماعي.
دمشقية أوضح أن اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي تم تبنيه بوصفه أيديولوجية في سنوات الانفتاح التي شهدتها سوريا في الفترة 2005-2010، مهّد الطريق لظهور طبقة شابة من أبناء قيادات الصف الأول في النظام، والمنتفعين من مراكزهم الإدارية، بنت ثروات غير قانونية وبيّضت أموالها في مشاريع خدمية وترفيهية ومالية، وتحكمت لاحقا في قطاع التجارة الداخلية والخارجية، بمشاركة فاعلين اقتصاديين جدد، انضموا إلى شبكة الزبائن التي قادها النظام خلال الحرب.
وأرجع فشل الاقتصاد السوري في مختلف المراحل التي مر بها لعدة أسباب، منها:
- تبني مصطلحات على سبيل التجارب بصرف النظر عن ملاءمتها.
- عدم وجود إستراتيجية تحدد هوية الاقتصاد وطريقة أدائه.
- وجود فجوة على صعيدي الإدارة (حكم القانون، وحماية حقوق الملكية، ومستوى الفساد) والمساءلة العامة (مستوى المشاركة، واحترام الحريات العامة، وشفافية الحكومة).
- اتباع سياسة التفضيل والزبائنية في نطاق مصالح اقتصادية شخصية وفئوية محمية بقوة السلطة والفساد.
الأسد يعيد تفسير الاقتصاد الاشتراكي
وبعد 5 سنوات من بداية الصراع، ظهرت وجهات نظر مختلفة لمسؤولين وأساتذة اقتصاد حول الطريقة التي يمكن عبرها إنقاذ ما تبقى من الاقتصاد، بعد أن اعترف رئيس الحكومة السابق عماد خميس، في كلمة له أمام مجلس الشعب أواخر عام 2016، بأن البلاد تحولت إلى مزرعة لبعض تجار الأزمة. وربط عجز حكومته عن تلبية مطالب شعبها بأربعة أسباب: الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد، والحرب، وتجار الأزمة، والفساد.
لكن أبرز وجهات النظر ما ورد مؤخرا على لسان الرئيس الأسد في مناسبتين متتاليتين (اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث الحاكم، ولقائه أساتذة الاقتصاد البعثيين في الجامعات السورية)، حيث طرح مجددا مصطلح الاقتصاد الاشتراكي بوصفه طريقا مقترحا يمكن العمل به بعد أن أعاد تفسيره على النحو التالي:
- الاشتراكية بالنسبة لنا حسب ما نفهمها هي العدالة الاجتماعية، لا نستطيع أن نعود للتعاريف المكتوبة والأكاديمية والنظريات القديمة بأنها الملكية الكاملة للقطاع العام وإلغاء القطاع الخاص، بهذا التعريف وبهذا الشكل عمليا سوريا لم تكن في يوم من الأيام اشتراكية.
- الأيديولوجيا أساسية في نهج حزب البعث ولا يمكن التخلي عنها، وعندما نقول أيديولوجيا فهي الاشتراكية وهي الجانب الاجتماعي.
- إيجاد توازن بين القواعد الاقتصادية والقواعد الاجتماعية، وهذا يعني أن نسير بخط دقيق لا يكون فيه الجانب الاقتصادي مجردا على حساب المجتمع لأننا في هذه الحالة سوف نتحول إلى حزب رأسمالي، ولا يمكن أن نسير بالعكس باتجاه الجانب الاجتماعي بشكل مجرد لأننا عند ذلك سوف نكون دولة مفلسة.
- رؤيتنا لمصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي مبسطة، السوق هو منافسة، والعملية هي عملية تطوير للاشتراكية لا أكثر ولا أقل، ولكن لو أبقينا كلمة السوق لوحدها فهذا يعني أننا تحولنا إلى اقتصاد السوق المتوحش، فكلمة الاجتماعي هي التي تحافظ على النهج الاشتراكي مع الحفاظ على المنافسة بالنسبة للسوق.
- الدولة التي يحكمها حزب البعث هي دولة لكل أبنائها، فإذن ما هو البرنامج أو النهج الذي يمكن أن يتبناه حزب البعث ويعبر عن تقاطع المصالح بين مختلف الشرائح؟ علينا أن ننظر إلى الطبقة الكادحة أو الفقيرة نظرة اقتصادية قبل أن ننظر نظرة اجتماعية، لأن النظرة الاجتماعية تحوّل الحزب إلى العمل الخيري، أما النظرة الاقتصادية فتحوله إلى العمل الاقتصادي.
ما الجديد في تفسير الأسد؟
بحسب الخبير الاقتصادي أحمد سلامة، لم تقدم نظرية الاقتصاد الاشتراكي المعدلة أي جديد إذا عدنا سنوات إلى الوراء. فقد تم الحديث عنها منذ عام 2005 عندما اختارت الحكومة اقتصاد السوق كطريق بعد فشل تجربتها الاشتراكية، وألحقته بعبارة “الاجتماعي” لتهدئة مخاوف الاقتصاديين والباحثين في الشأن العام ومختلف شرائح المجتمع، الذين وجدوا فيه إعلانا رسميا لعزم الدولة التخلي عن دورها.
وأضاف، في حديثه للجزيرة نت، أن الدلالات اللفظية لوجهة النظر التي قدمها الأسد تعكس العودة مجددا لتجربة قديمة، لم يستفد من عدالتها بشكل فعلي سوى حاشية النظام وضباط الجيش والمخابرات ورجال الأعمال والتجار عندما منحتهم المزاوجة بين الاشتراكي والليبرالي تحت عنوان الاجتماعي فرصة تسيير مصالحهم، وتعظيم أرباحهم على حساب 92% من السكان حينذاك، كان عدد من يعيشون منهم تحت خط الفقر وفق تقريرٍ لبرنامج الأمم الإنمائي في عام 2005 نحو 2.2 مليون فرد، وعدد الذين لا يمكنهم توفير احتياجاتهم الأساسية 5.3 ملايين آخرين يعانون الفقر إجمالًا.
وأشار إلى أن دراسة تحليلية للميزان التجاري، أصدرها مركز أبحاث شبه حكومي عام 2016، أفادت بأن الميزان التجاري عانى عجزًا على مدى 21 عامًا، مما وضع الناتج الإجمالي المحلي في حالة قصور وعجز عن تلبية الطلب الداخلي (إجمالي الإنفاق على الاستثمار والاستهلاك) وقوّض فرص النمو.
ورأى سلامة أن العمل بهذه النظرية المعدلة أفشل الاقتصاد سابقا في 3 اختبارات رئيسية:
- على مستوى السياسات المالية العامة، لم تحقق البرامج الحكومية أي نمو مستدام.
- على مستوى الإنفاق الاجتماعي، فشل نظام الأسد في تحييد الأثر السلبي لسياساته الاقتصادية على الطبقات التي كانت تفتقر إلى شبكة أمان اجتماعي.
- فشل موازنة سوق العمل وتوزيع الدخول عندما ارتفعت نسب البطالة لمعدلات عالية، وتحول حملة الشهادات إلى الاقتصاد الموازي للعمل بمهن لا تحتاج إلى كفاءات كاختصاصاتهم الدراسية.
الطريق الرابع للتنمية والإعمار
وبهذا الصدد، يرى الخبير الاقتصادي منير الحمش أن التجارب التاريخية في أغلب بلدان العالم الثالث أثبتت أن التنمية المستقلة هي الطريق السليم للوصول إلى نخبة حقيقية، وأشار إلى أن التوجه نحو اقتصاد السوق والليبرالية الاقتصادية قبل أحداث 2011 أدى إلى إحداث تحولات في الهياكل الإنتاجية، نجمت عنها اختلالات هيكلية، تعمقت منذ بداية الحرب وحتى الآن، نتيجة الاضطراب والفوضى اللذين حصلا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية.
ودعا، في حلقة نقاشية أقامتها جمعية العلوم الاقتصادية مؤخرا، إلى اعتماد نموذج تنموي يتجاوز النماذج المجربة (النموذج الاشتراكي والليبرالي والتعويضي) أسماه “الطريق الرابع للتنمية والإعمار” يقوم على سياسة المزاوجة بين آليات السوق وآليات التخطيط، بهدف رفع المستوى المادي والثقافي للمواطنين وتحسين أوضاعهم المعيشية.
ولفت إلى ضرورة أن يطرح هذا النموذج برنامجا يحقق مكافحة الفقر والقضاء على فروقات الدخل والثروة ومعالجة البطالة والجهل، ويحقق النمو الاقتصادي المطرد الذي يترافق مع عدالة التوزيع، وبالتالي تحقيق العدالة الاجتماعية.
وأشار منير الحمش إلى أن برنامج العمل لمرحلة ما بعد الأزمة لا بدّ له من مواجهة قضيتين مهمتين:
- الأولى: عدالة ما بعد الأزمة ومعالجة الشروخ الاجتماعية.
- الثانية: مسألة هوية الاقتصاد الوطني، وهذه المسألة يحددها الدستور، ورغم أنه حدد هوية الاقتصاد بأنه اقتصاد حر، وكان من المفترض أن تتدخل الدولة، فإن هذا التدخل لم يكن مخططا، بل غالباً ما كانت السياسات الاقتصادية عبارة عن ردود فعل من دون دراسة علمية تفرضها الوقائع العملية في السوق.