حاولت هوليود في الأشهر الأخيرة من عام 2022 أن تتعافى من آثار الإغلاق العام الناتج عن جائحة كورونا (كوفيد-19)، الذي أدى إلى إغلاق الآلاف من دور العرض، ووقف إنتاج مئات الأفلام وتراجع إجمالي إيرادات الأفلام إلى أدنى مستوى وصل إليه في تاريخه، وبالدرجة نفسها من السوء، توقفت فرق تصوير وتنفيذ الأفلام عن العمل.
ومع بدء الإنتاج من جديد، وإعادة افتتاح نسبة كبيرة من دور العرض، تفاءل العاملون في صناعة السينما، ليس في هوليود وحدها، بل في العالم كله، وجاء استخدام الذكاء الاصطناعي في المحتوى الإبداعي، وفي العمليات الفنية لإنتاج العمل، ليسبب اندلاع الخلافات التي أدت بدورها إلى كارثة جديدة في الصناعة بالإضراب الذي استمر لما يقارب من 118 يوما، توقف الإنتاج خلالها، وتم تأجيل إنتاج وعرض عدد كبير من الأفلام، وهو ما سبب تراجعا يقدر بـ5% في معدل الإنتاج السنوي لعاصمة السينما في العالم، وهكذا خسرت الصناعة ما حاولت تعويضه خلال عدة أشهر تلت الجائحة.
وتبدأ هوليود عام 2024، محملة بكل أزماتها ومخاوف فنانيها وفنييها ومستثمريها، إذ تهدد منصات البث المباشر باختفاء دور العرض، التي تراجع عددها في الولايات المتحدة الأميركية نحو 41 ألفا إلى 39 ألفا بين عامي 2022 و 2023، وتبدو تحولات مزاج الجمهور إلى مشاهدة “الفيلم في المنزل” كابوسا حقيقيا، فضلا عن انخفاض معدل ومستوى الإنتاج الهوليودي لدرجة الفرح بنجاح فيلمين فقط هما “باربي” و”أوبنهايمر”، واعتبارهما سببا لإنقاذ السينما والعاملين فيها، كما صرحت الممثلة المخضرمة ميريل ستريب، بعيدا عن المستوى الفني لهما.
دور العرض
لم تبدأ أزمة تراجع أعداد دور العرض حديثا، ولم تطرأ على العقول الاقتصادية في هوليود مخاوف اختفاء دور العرض بشاشاتها الكبيرة، وتحولها إلى شاشات صغيرة موزعة على عائلات أو حتى على أفراد في الأعوام الأخيرة فقط، وإنما بدأت بلورتها بشكل واضح في مطلع الألفية مع انتشار كاميرا الديجيتال، وتأكدت النبوءة مع تحول أغلب دور العرض في العالم إلى نظام العرض الرقمي، لكن واقع البث المرئي عبر منصات البث، واقتطاع ما يصل إلى ثلاثة أرباع سوق المشاهدة لصالح نتفليكس ورفاقها مثل برايم فيديو، وديزني بلاس، وغيرهم، هو الإشارة القوية لوداع آخر أشكال المشاهدة الجماعية للفن السابع.
وجاءت جائحة كورونا (كوفيد-19) لتغلق أكبر شركات دور العرض أبوابها، وكانت “إيه إم سي” (AMC) أول مؤسسة كبرى تغلق دور العرض المملوكة لها في مارس/آذار 2020، أصدر-حينها- المخرج كريستوفر نولان نداء لإنقاذ دور السينما. وكتبت صحيفة واشنطن بوست “عندما تمر هذه الأزمة، فإن الحاجة إلى المشاركة الإنسانية الجماعية، والحاجة إلى العيش والحب والضحك والبكاء معا، ستكون أقوى من أي وقت مضى، فنحن بحاجة إلى ما يمكن أن تقدمه لنا الأفلام”.
وأغلقت شركات دور العرض “أركلايت هوليود” (ArcLight Hollywood) في لوس أنجلوس، و”ريغال يو إيه” (Regal UA) الدور التابعة لها، وعندما عادت دور السينما إلى العمل بعد انتهاء الجائحة، ظهر تردد رواد السينما في العودة إلى دور العرض واضحا في إيرادات أعمال مثل “قصة الحي الغربي” (West Side Story ) و”كابوس الزقاق” (Nightmare Alley)، والتي فشلت في تحقيق إيرادات في دور السينما، ونجحت حين عرضت عبر خدمات البث.
تفاعل اجتماعي
يشير عدد من خبراء السوق في تصريحات لمجلة “إنترتينمنت ويكلي” (EW) إلى أن اختفاء دور العرض بشكل تام هو أمر مستبعد، وهو ما يؤكده المخرج والكاتب الأميركي ذو الأصل الهندي إم. نايت شيامالان، الذي يرى أن العزلة التي اضطر إليها الناس لعامين بسبب الجائحة، أدت إلى زيادة الحاجة إلى التفاعل الاجتماعي.
ويستدل شيامالان، الذي يعد أشهر صناع أفلام الرعب النفسي، على ذلك بإيرادات فيلم “سبايدرمان-لا عودة للوطن” (Spider-Man: No Way Home)، التي بلغت أكثر من مليار دولار، ونجاح أفلام “مجهول” Uncharted و”باتمان” The Batman و”المدينة المفقودة” The Lost City، ورغم ذلك فإن تجاهل تأثير الانقطاع لعامين عن الشاشة الكبيرة وقدرته على تغيير عادات المشاهدة لدى الجمهور أمر يصعب قبوله.
وتعترف أنيتا جو منتجة فيلمي “الوداع” (The Farewell) و”هني بو” (Honey Bo) بسوء الوضع قائلة “نحن نعيد التفاوض بشأن علاقتنا بالسينما، لأنه من الواضح أن البث المباشر هو طريق المستقبل، لكنه لن يقتل العرض السينمائي. في الواقع، أعتقد أن مشاهدة الأفلام ستصبح أكبر حجما، حيث يشبه الذهاب إلى متنزه ترفيهي أو حفل موسيقي، عوضا عن تجربة المشاهدة المعتادة”.
ويحمل رأي أنيتا جو اقتراحا ضمنيا بتحويل دور العرض إلى متنزهات أو أجزاء من مراكز ترفيهية كبرى، ويضيف بعض الخبراء اقتراحات تتعلق بإنشاء دور عرض شديدة الفخامة، حيث يستطيع عاشق السينما أن يجلس دون أن يكون إلى جواره من يتحدث في هاتفه، أو يرسل رسائل نصية منه.
وتقول جين روزنتال المؤسسة المشاركة لمهرجان تريبيكا السينمائي والمرشحة لجائزة الأوسكار “دور السينما أصبحت أصغر فأصغر، وهو ما يدفع الشخص أحيانا إلى القول: حسنا، أفضل البقاء في المنزل، ما ينبغي فعله الآن هو الإضافة إلى دار العرض، وليس تضييقها، والأفضل هو التفكير في تطويرها لتصبح مكانا مناسبا للترفيه عن الأسرة كلها”
واقتراح آخر يتلخص في عدم تخصيص دور العرض للأفلام والانفتاح على عرض المسلسلات أيضا، كما يقول المخرج ستيرلين هارجو. ويشير إلى الطفرة الأخيرة في المسلسلات التليفزيونية التي يتم إنتاجها بكثرة والتي تحظى بمتابعة كبيرة “إذا تمكنت من مشاهدة مسلسل”صراع العروش” كل أسبوع في السينما مع أصدقائي، فسيكون ذلك مثيرا”.
وبالنسبة للجيل الأصغر من المتحمسين للثقافة (الذين تعتبر التقسيمات بين السينما والتلفزيون أقل صرامة بالنسبة لهم)، هناك كثير من الاستخدامات لغرفة كبيرة بها مقاعد قابلة للاستلقاء وجهاز عرض أولي. يقول سكوت ستوبر، رئيس الأفلام العالمية في نتفليكس “أعتقد أن المسارح سوف تتطور وتستضيف الأحداث الاجتماعية، وسوف يعقدون صفقات مع الدوريات الرياضية، حتى تتمكن من مشاهدة المباريات في عطلات نهاية الأسبوع. وسيذهب الأطفال إلى هناك لمشاهدة بطولات (الألعاب الإلكترونية).
الذكاء الاصطناعي معركة طويلة المدى
في حوار مع موقع “هوليود ريبورتر” يقول جون هاريسون، خبير الإعلام والترفيه “سبب الذكاء الاصطناعي قدرا كبيرا من الإثارة داخل الدوائر الإعلامية. فالشركات تستكشف بحذر، ولكن بنشاط إمكانات الذكاء الاصطناعي، وتنفذ مشاريع تجريبية وتشيكل فرق داخلية لوضع إستراتيجية لتكاملها. وينقسم التركيز إلى شقين: تعزيز الإنتاجية من خلال دمج الذكاء الاصطناعي في عمليات المكاتب الخلفية، والشق الثاني دفع النمو من خلال دمج الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية. يمكن الاستفادة منه لتحقيق مزيد من الكفاءة في التحرير والدبلجة وتخصيص توصيات المحتوى، خاصة لخدمات البث”.
ويبدو أن محادثات العمال في هوليود، والتي عكست المخاوف بشأن استبدال الذكاء الاصطناعي للأدوار الإبداعية، تتحول الآن نحو الإجماع على الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز العملية الإبداعية بدلا من استبدالها.
ويؤكد هاريسون على التطور السريع للذكاء الاصطناعي وقدرته على تحسين الكفاءة في صناعة يكون فيها التدفق النقدي أمرا بالغ الأهمية.
ورغم ما يحمله الذكاء الاصطناعي من آفاق، فإن إضراب الـ118 يوما للكتاب والممثلين في العام الماضي، والذي انتهى باتفاقات ارتضتها الأطراف المختلفة سواء المنتجون أو الكتاب أو الممثلون، فإن الذكاء الاصطناعي يحمل من الآفاق ما لا يعرف أحد عنه كثيرا، فقد جاء قلق الممثلين من تجسيدهم في أعمال دون الاستعانة بهم كأشخاص بصورة حقيقية، وجاء قلق الكتاب من استخدام الذكاء الاصطناعي في كتابة السيناريوهات، لكن هذه الاستخدامات لا تبدو إلا نقطة في بحر الإمكانات الواعدة بآفاق جديدة ومعارك لا تنتهي.
الاندماج والاستحواذ
في نهاية عام 2023، عقد المسؤولون في اثنتين من كبرى شركات هوليود جلسات تمهيدية لإبرام واحدة من كبرى عمليات الاندماج في تاريخ السينما العالمية بين شركتي “وارنر براذرز ديسكفري” و”باراماونت غلوبال”، ومن المتوقع أن تبلغ قيمة الصفقة 38 مليار دولار، وذلك بهدف مواجهة سيطرة منصات البث الحديثة على السوق العالمية.
وتهدف الشركتان من الاندماج الجديد إلى التقدم في التحدي الأكبر الذي تواجهانه مع منصات البث المباشر مثل “ديزني+” و”نتفليكس”. وتكافح منصات البث الحالية لكلتا الشركتين “باراماونت+” و”ماكس” للحصول على نصيب من المشتركين في سوق البث المباشر الذي تسيطر عليه “نتفليكس” و”ديزني +”.
وتسيطر الشركة المندمجة الجديدة على نسبة تبلغ 30% من سوق توزيع الأفلام في أميركا، وهي نسبة تفوق ما تملكه شركتا “يونيفيرسال” و”وديزني” معا، وتبدو الصفقة مناسبة تماما للمرحلة الجديدة، إذ تواجه الشركتان عواقب نجاح منصات البث، وأفول نجم دار العرض.
ويتفق جون هاريسون مع فكرة الاندماج مؤكدا أنها وسيلة فعالة لشركات الإعلام لتوسيع نطاق الشركات الرقمية العملاقة والتنافس معها. ومع ذلك، فهو يشير إلى التعقيدات التي تنطوي عليها مثل هذه الصفقات، بما فيها التحديات التنظيمية، خاصة في عام انتخابي مثل عام 2024.