غزة- جثث ممزقة أشلاء، ومنزوعة فروات الرؤوس، وأخرى مقطوعة الرؤوس، من بين نحو 70 جثة لشهداء حررتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعد خطفها من أماكن مختلفة في مدينة غزة ومدن شمال قطاع غزة، ترجح السلطات المحلية التي تديرها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ومنظمات حقوقية، أنها انتُهكت بسرقة أعضاء أو أجزاء منها.
وخطف جيش الاحتلال عددا غير معلوم من جثث الشهداء من ثلاجة الموتى ومقبرة جماعية داخل مستشفى الشفاء في مدينة غزة والمستشفى الإندونيسي في شمال القطاع، ومن ممر النزوح على شارع صلاح الدين الواصل بين شمال القطاع وجنوبه.
ويوم 26 ديسمبر/كانون الأول الماضي، أفرج جيش الاحتلال عن مجموعة من جثث الشهداء وُضعت داخل 70 كيسا بلاستيكيا، وكانت مكدسة داخل حاوية نقلتها شاحنة من معبر كرم أبو سالم التجاري جنوب شرقي مدينة رفح إلى مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار بالمدينة، بالتنسيق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
“مجهولة الهوية”
وقالت مصادر رسمية وحقوقية متطابقة -للجزيرة نت- إن هذه الأكياس احتوت على عدد غير محدد بدقة من جثث الشهداء، إذ ضم بعضها جثثا كاملة، وأخرى كان بها أنصاف أجساد، إضافة إلى أكياس لأشلاء ممزقة، تُعقّد من مهمة حصرها، فضلا عن تعنت جيش الاحتلال ورفضه تقديم معلومات عنها للمساعدة في تحديد هويتها، فتم دفنها “مجهولة الهوية” في مقبرة جماعية غرب مدينة رفح.
وما زال جيش الاحتلال يحتجز عشرات الجثث الأخرى التي خطفها من مستشفيات ومقابر وشوارع مدينة غزة وشمال القطاع، عقب توغله البري يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وحالة هذه الجثث والرائحة الكريهة المنبعثة منها -جرّاء عبث جيش الاحتلال بها والاحتفاظ بها لفترة طويلة من دون إجراءات سليمة- عقّدت من تمكّن السلطات الصحية من إخضاعها للفحص الطبي الدقيق.
وحسب رئيس لجنة الطوارئ الصحية ومدير مستشفى الشهيد أبو يوسف النجار الدكتور مروان الهمص، فإن “رمالا وديدانا كانت تغطي هذه الجثث”.
ولم تستطع الطواقم الطبية فتح هذه الأكياس في المستشفى، وتوجهت بها مباشرة إلى المقبرة، وبالفحص قبل الدفن، تبين أنها تضم 17 جثة مقطوعة الرأس، وقد وُضع الرأس إلى جانب الجثة في كيس واحد، في حين كانت بعض الجثث بلا رأس تماما، وفي أكياس أخرى، جثث بدت الجمجمة ظاهرة وقد نُزعت عنها فروة الرأس وُوضعت مع الجثة.
يقول الهمص -للجزيرة نت- إن جثث الشهداء كانت متعددة ألوان البشرة، بيضاء وسوداء وقمحية داكنة، ومتنوعة الجنس والأعمار، لرجال ونساء، بينهم أطفال وشباب وكبار سن، أحد هؤلاء الأطفال كان رأسه ملفوفا برباط طبي ضاغط وكأن عملية أُجريت في رأسه.
وبداخل عدد من الأكياس جثث متفحمة يبدو لك وكأنك تنظر إلى رماد، حسب وصف الهمص، الذي يتابع بأن “بعض الجثث عبارة عن أنصاف أجساد، إما العلوي أو السفلي”.
ويضيف أن بعض الأكياس احتوت على عظام فقط لجثث متحللة منذ أكثر من عام، ولا يُعلم على وجه الدقة لمن تعود هذه العظام أو التوقيت والمكان الذي سُرقت منه، غير أن حديثه يؤكد أنها لا تعود لشهداء الحرب الإسرائيلية الحالية والمتصاعدة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وفي حين رفض الاحتلال الكشف عن المعلومات الخاصة بهذه الجثث، فإنه منح الأكياس أرقاما، ووثقت اللجنة -بإشراف الهمص- هذه الأكياس والجثث بداخلها بالفحص والتصوير ومنحتها أرقاما خاصة قبل الدفن.
شواهد وسوابق سرقة
ويعزز وصف وتشخيص الهمص من شواهد تسوقها جهات فلسطينية رسمية ومنظمات حقوقية تؤشر لارتكاب الاحتلال جريمة سرقة أعضاء أو أجزاء من جثث الشهداء.
وقال مدير عام “المكتب الإعلامي الحكومي” في غزة إسماعيل الثوابتة -للجزيرة نت- إن الاحتلال سلم الجثامين مجهولة الهوية ورفض تحديد أسماء الشهداء والأماكن التي سرقها منها، وبعد معاينتها، تبين أن ملامحها مُتغيرة بشكل كبير في إشارة واضحة إلى سرقة الاحتلال أعضاء حيوية منها.
ويجزم المسؤول الحكومي بأن الاحتلال تعمد إبقاء جثامين الشهداء لديه فترة طويلة، حتى تميل إلى الذوبان أو إلى الاقتراب من التحلل وأنه “سرق أعضاءهم ثم أغلق أجسادهم وتعمد تأخير تسليم الجثامين إلى حين اهترائها”.
ولا يستبعد الثوابتة أن يكون الاحتلال سرق منها أعضاء حيوية، مثل القرنيات والجلد وصمامات القلب والعظام وغيرها، معززا اعتقاده بجرائم سرقة سابقة ارتكبها الاحتلال وانتزاعه أعضاء من أجساد أسرى استشهدوا داخل سجونه.
والثوابتة بنفسه كان شاهدا على اختطاف جيش الاحتلال جثمان الشهيد عماد خليل إبراهيم شاهين من مخيم النصيرات (وسط القطاع)، الذي استشهد متأثرا بجروح أصيب بها قرب السياج الأمني الإسرائيلي، وسلم الاحتلال جثته سنة 2019 بعد احتجازها نحو عام.
ويقول الثوابتة: “قتلوه وخطفوه، ثم سلموا جثمانه بعد سنة كاملة، ولما ذهبنا لاستلام الجثمان، تفاجأنا أن جسده مثلج ولا يمكن أن يذوب عنه الثلج إلا بعد 3 أيام مثلما أخبر الطبيب، لأننا شككنا وقتها في سرقة أعضائه الداخلية، إذ كان جسده ممزقا وأعاد الاحتلال خياطته من أعلى الصدر حتى أسفل البطن بالكامل، وهذا مؤشر واضح على سرقة الأعضاء الداخلية منه”.
ويرى الثوابتة في سرقة أعضاء الشهداء جريمة تضاف إلى سلسلة الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال والتي تستدعي تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة تماما للتحقيق في اختطاف جثث الشهداء وسرقة أعضائهم الحيوية.
ويحمّل المتحدث ذاته اللجنة الدولية للصليب الأحمر المسؤولية وينتقد موقفها الذي وصفه بـ “الباهت والثانوي والمرتبك والبعيد عن الإنسانية والأخلاق”.
وأكد الثوابتة “كان مطلوب من اللجنة الدولية توثيق كيف تم تسلم الجثث ووصف حالتها ومطالبة إسرائيل بمعرفة مكان سرقتها وإذا ما حدثت تغيرات عليها، وإذا ما كان معها متعلقات شخصية أم لا وإذا ما كان حُدد أسماء الضحايا أم لا، ولكن الصليب الأحمر لم يقم بذلك ولم يفصح عنه، وهذه مشكلة لديه، عليه أن يستدركها وأن يقدم تقارير مفصلة عنها”.
ولم يتسن للجزيرة نت الحصول على تعقيب من اللجنة الدولية إزاء هذه الاتهامات.
تحقيق دولي مستقل
ويتفق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان مع “المكتب الإعلامي الحكومي” على ضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة للتحقيق في ما وصفها بـ”شبهات” سرقة جيش الاحتلال أعضاء من جثث شهداء احتجزها خلال حربه الحالية على غزة.
ووثق المرصد -في بيان تفصيلي- ملاحظات أدلى بها أطباء في غزة أجروا فحصا سريعا لبعض الجثث بعد الإفراج عنها ولاحظوا سرقة أعضاء، مثل قرنية العين، وقوقعة الأذن، والكبد، والكلى، والقلب.
وقال أطباء فلسطينيون -للمرصد الحقوقي- إن الكشف الظاهري الطبي الشرعي لا يكفي لإثبات أو نفي سرقة الأعضاء، لا سيما في ظل وجود تداخلات جراحية سابقة لعدة جثث، غير أنهم رصدوا عدة علامات تشير إلى احتمال سرقة أعضاء.
ولدى إسرائيل تاريخ حافل باحتجاز جثث الشهداء، إذ تحتجز في ثلاجات خاصة جثث 145 فلسطينيا على الأقل، إضافة إلى نحو 255 في مقابر الأرقام و75 مفقودا ترفض الاعتراف باحتجاز جثثهم، حسب المرصد.
ويضيف المرصد أن إسرائيل تحتجز جثث الشهداء وتدفنها في ما تسميها “مقابر مقاتلي العدو”، وهي مقابر سرية جماعية تقع في مناطق محددة مثل مناطق عسكرية مغلقة، ويتم فيها الدفن بشكل مجهول بأرقام محفورة على لوحات معدنية ملحقة بالجثث أو الرفات.
كما أشار المرصد إلى أنه سبق أن رصد تعمد الاحتلال الإفراج عن جثث شهداء في الضفة الغربية بعد مدة من احتجازها، وهي متجمدة بدرجة تصل إلى 40 تحت الصفر، مع اشتراط عدم تشريحها، وهو الأمر الذي يخفي وراءه جريمة السرقة.
وأفاد رئيس المرصد رامي عبدو -للجزيرة نت- بأن إسرائيل لجأت السنوات الأخيرة إلى إضفاء صبغة قانونية تتيح بلورة مسوغات لاحتجاز جثث الشهداء وسرقة أعضائهم، منها قرار المحكمة العليا في إسرائيل الصادر عام 2019 الذي “يتيح للحاكم العسكري احتجاز الجثث ودفنها مؤقتا في ما تعرف بمقابر الأرقام”.
وسن الكنيست الإسرائيلي نهاية عام 2021 تشريعا يخول الشرطة والجيش الاحتفاظ برفات شهداء فلسطينيين، ويقول عبدو: “خلال السنوات الأخيرة، تواترت تقارير عن استغلال غير قانوني لجثث شهداء محتجزة لدى إسرائيل يشمل سرقة أعضاء منها واستخدامها في مختبرات كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية”.
من جهتها، كشفت الطبيبة الإسرائيلية مئيرة فايس -في كتابها “على جثثهم الميتة”- عن سرقة أعضاء من جثث شهداء لزرعها في أجساد مرضى يهود، واستعمالها في كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية لإجراء الأبحاث عليها.
“سياسة ممنهجة”
لكن الأخطر من ذلك -حسب عبدو- ما أقر به يهودا هس، المدير السابق لمعهد أبو كبير للطب الشرعي في إسرائيل، بشأن سرقة أعضاء بشرية وأنسجة وجلد شهداء فلسطينيين في فترات زمنية مختلفة، من دون علم أو موافقة ذويهم.
وعام 2008، نشرت شبكة “سي إن إن” الأميركية تحقيقا يظهر أن إسرائيل تُعتبر أكبر مركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية بشكل غير قانوني، وأنها تورطت بسرقة أعضاء داخلية لشهداء فلسطينيين للاستفادة منها بشكل غير شرعي.
وقال عبدو إن إسرائيل -التي تعد الدولة الوحيدة التي تحتجز الجثث وتمارس ذلك كسياسة ممنهجة- تكتفي بتبرير هذه السياسة بأنها محاولة للردع الأمني، متجاهلة المواثيق والاتفاقيات الدولية التي تجرم ذلك.
وشدد المتحدث نفسه على أن رفض تسليم جثث الشهداء لعوائلهم لدفنها بكرامة، وتبعا لمعتقداتهم الدينية، قد يرقى إلى مستوى العقاب الجماعي المحظور في المادة 50 من لوائح لاهاي، والمادة 33 من معاهدة جنيف الرابعة.