يحتاج الفيلم السويدي “شكر واعتذار” (Thank You, I’m Sorry) -للمخرجة ليزا أشان- إلى شجاعة كبيرة من المشاهد، إذا أراد أن يتجاوز كونه عملا ترفيهيا كئيبا، كما قد يتوقع أي شخص من سينما المخرج الأشهر أنغمار بيرغمان، الذي يعد الأب الروحي لها، فقد طبع بأفلامه الـ50 أجواء الإنتاج الفيلمي السويدي بالكآبة والعمق، وأيضا الجمال الذي يكمن في الحكاية نفسها.
ولم تبتعد أشان عن أجواء “أنغمار” كثيرا، إذ يدور الفيلم حول “سارة” الحامل في شهرها الثامن، التي تعيش مع زوجها دانييل وابنتها إيليون في هدوء، لكنها تفاجأ بالزوج يتحدث إليها بشكل غامض مؤكدا أنه سوف يهجرها بعد ساعات، وقبل مرور تلك الساعات، تفاجأ مرة أخرى به ميتا في سريره نتيجة أزمة قلبية.
فسارة، التي لا يساعدها حملها على خدمة ابنتها، تسقط في مآزق عدة، لكن أقساها هو حاجتها للرعاية من شخص يملك التفاني والصبر الذي يجعله يضحي راضيا، فقد أنهت علاقتها بأسرتها منذ وفاة والدتها. أما أسرة زوجها، فهي لا تعرفها من الأصل إلا عبر دانييل نفسه. وتظهر شقيقة سارة فجأة، في محاولة لإعادة التواصل مع شقيقتها.
وتقدم كل من المخرجة والبطلة سانا ساندكويست في “شكر واعتذار” درسين في الإبداع السينمائي أولهما في إدارة الممثل وثانيهما الأداء الظاهر الذي ينقل بدقة الحالة الذهنية والنفسية، بل ويحكي قصة الشخصية نفسها.
أداء مفاجئ
على عكس المقولة الشائعة عن ذلك “البرود” في مشاعر الأشخاص بالغرب، فإن انفعال الغربي وشعوره لا يقلان عن الشرقي، ويكمن الاختلاف الحقيقي في التعبير عن ذلك الانفعال وتلك المشاعر، وهو أمر يتعلق بالسيطرة لا العواطف.
والمفاجأة الأولى في “شكر واعتذار” هي ذلك الأداء الذي يصح أن نطلق عليه “الأداء المتصلب” فهو بخيل جدا في استخدام الأطراف الأربعة للإنسان، وملامح الوجه أيضا. ورغم ذلك، فإن تراكم الانفعالات إلى حد الانفجار يمكن أن يدفع سارة إلى قذف حماتها بهاتف محمول يؤدي إلى جرح عميق في جبهتها، أو ضرب شقيقتها الكبرى أكثر من مرة.
ولكن العنف في سلوك سارة لن يترك ذلك الأثر العميق في مشاعر المشاهد مثلما يترك ذلك البله الذي ظهر على وجهها حين أبلغها زوجها أنه سيتركها، ومن ثم نظرتها الجامدة نحو بطنها الممتد في إشارة إلى الهم القادم.
وبعيدا عن الأداء الحركي، تبقى الرسائل الكامنة في عيني سانا ساندكويست هي الأقوى والأكثر قدرة على أسر المُشاهد، فقد أرسلت كميات محددة من تلك الطاقة السحرية، كانت كفيلة بسحر المشاهد في إطار شفاف من الشجن، ومن ثم فاجأته في النهاية بتلك الطاقة تنتج بهجة وراحة نفسية تتعلق بالمشاهد أولا، ثم بالفيلم.
والشقيقة الأكبر ليندا والتي لا تبدو كذلك، يظهرها الفيلم -في البداية – امرأة مستهترة، وغير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، لكنه يكشفها بالتدريج من خلال الأحداث، ومن خلال حوار شديد الذكاء والوعي، فهي لا تختلف مع أي شخص ولا مع أي رأي، وهي مطيعة وراضية إلى حد أمومي يستدعي نموذج بعض السيدات اللاتي ربما لا يملكن ترف مناقشة الرجل، لكن ليندا أكثر ضعفا.
والتكوين الجسدي للممثلة شارلوتا بيورك -التي جسدت دور ليندا- يكاد يكون مثاليا للدور، فهو غير منتظم أيضا، وهي متورطة في علاقة استغلال مع شخص غير متزن نفسيا، فرض عليها أن يعيش في بيتها ويستغلها ماديا، بعد أن ربحت أكثر من نصف مليون كرونة في لعبة اليانصيب السويدية (55 ألف دولار أميركي).
وتنصاع ليندا للجميع وتغفر لكل من يسئ إليها، فهي لا تعرف اختيارا آخر، لأن نشأتها وطبيعتها جبلت على العطاء، وهي تشبه في ذلك والدتها التي طلقت من والدها السكير الخائن بعد معاناة طويلة.
توريث الأزمات
الحماة أو والدة الزوج الميت شخصية صنعها التوازن المجتمعي الحتمي، فالأب “الحمو” يبدو عاطفيا لدرجة مرهقة، لم يتوقف عن البكاء، ويميل للعب مع “الطفلة إيليوت” بينما زوجته الثكلى تدير الأمور بشكل عادي كما لو كانت تنظم حفلا، وتهتم بمستقبل أرملة الابن وطفلتها في حوارها معها، لكن المشاهد المتتالية تنقل واقعا آخر، إذ تقوم الحماة بالإشراف، بينما تقوم سارة الحامل في شهرها التاسع بالعمل المجهد.
وتفاجئ ليندا شقيقتها في جنازة زوجها، وبينما يرتدي الجمع ملابس سوداء، فهي ترتدي معطفا أقرب إلى الأزرق (وهو لون الورد الذي يهدى في حالات الوفاة لأهل المتوفى) وتأتي مصطحبة كلبها، وتقابلها سارة ببرود أقرب إلى النفور.
وبعد انتهاء العزاء، تحاول ليندا مقابلة شقيقتها، لكنها ترفض، فتفرض نفسها عليها، وتتعرض للطرد، لكنها تسمح لها بالبقاء في النهاية، ومن هنا تبدأ في تشكيل ملامح دور لرعاية ابنة شقيقتها.
وهنا يفرض السؤال نفسه بقوة: ما الأزمة التي جعلت الأداء في العمل يشبه حالة تشنج لا تنتهي؟
وتتكشف الإجابة تباعا عبر مشاهد العتاب المتواصل من الأخت الصغرى (سارة) التي جعلها الهم تبدو أكبر من شقيقتها، وهي لفتة تحسب للمخرجة. فقد طلق الأبوان، بينما كانت الصغرى قد ارتبطت بشقيقتها الكبرى، في أسرة مفككة بين أب سكير مستهتر وأم حزينة خاضعة، واختارت ليندا أن تعيش مع الأب، وهو ما اعتبرته سارة خيانة لها ولمشاعر الطفلة بداخلها، لذلك قالت لها بعد عزاء الأم “لا أريد أن أراك مرة أخرى”.
وأطاعت ليندا المطيعة دائما شقيقتها، لكنها علمت بوفاة زوجها، فأتت، وتركت والدها في دار المسنين يعاني من ألزهايمر. وفي مشهد بديع يستدعي معارك الطفولة، تشتبك الأختان الكبيرتان في معركة بالأيدي، يبدو فيها الحب أكثر من الغيظ أو الحقد.
وتعترف سارة أنها تشبه أبيها، وأن ليندا تشبه أمها. ولعلها مفاجأة العمل الذي استطاع أن ينفذ إلى عمق الأزمة التي تعانيها سارة: إنها تكره نفسها، ولا تقبل ذلك التكوين النفسي الذي يذكرها بأب ظالم وقاس وخائن، ولكن هل الأب -بالفعل- يحمل هذه الصفات؟
ولا يحاول الفيلم الإجابة، فالمطلوب هو الغفران، والتجاوز واستئناف الحياة، والتمسك بما هو أكثر قيمة وأعظم تأثيرا (الرباط الأسري) الذي يعد حائط الصد الأخير أمام تقلبات الحياة والأزمات التي لا يمكن توقعها.
الحماة
يبقى دور الحماة هيلين، الذي جسدته الممثلة لانغا هامر، وقد بذلت جهدا واضحا في محاولاتها لأداء دور المرأة القوية التي تتجاوز مشاعر الفقد، وتصمد أمام الأزمات، وتقوم بدور الشخص القوي في وجود زوج ضعيف وعاطفي إلى حد مزر، ولكنها لا تخلو من الصورة النمطية للحماة التي تحاول السيطرة على أرملة ابنها وأسرته وتلجأ في ذلك للوقيعة بين الأختين، وتستعين بخبرتها كمعالجة نفسية، لكنها تخضع للعلاج النفسي في النهاية وتتحول إلى داعمة لترميم العلاقة بين الأختين في تحول مفاجئ لم يتم إشباعه بالقدر المقنع للمشاهد.
وقد قدمت أشان عملها الرابع بعد “فتيات القرود” (Apflickorna) عام 2011، و”الشعب الأبيض” (Det vita folket) عام 2015، و”اتصل بماما” (Ring mamma!) عام 2019، لتؤكد استحقاقها لما تلقته من ثناء وجوائز بمهرجانات تريبيكا وغوتنبرغ وبرلين، وتكون نبؤة للسينما السويدية التي قدمها بيرغمان للعالم ودفع بها إلى صدارة سينما العالم يوما ما.