غزة- رغم طبيعتها الخلابة، يفكر سكان قطاع غزة “كثيرا” قبل اتخاذ قرار الانتقال إلى السكن في قرية “وادي غزة” أو ما تعرف محليا باسم “جحر الديك” والتي تعد من أكثر المناطق خطرا خلال الحروب والمواجهات، لالتصاقها بالسياج الأمني الذي أقامته إسرائيل على طول الحدود.
وتفصل هذه القرية بين شمال القطاع ووسطه وهو ما يجعلها بوابة الاجتياحات الإسرائيلية، ومن أوائل المناطق التي تُدَمَّر.
وما إن تظهر أولى مؤشرات أي عدوان إسرائيلي مرتقب على القطاع، حتى يسارع سكان القرية إلى حزم أمتعتهم فارين من منازلهم ومزارعهم قبل تدميرها من قبل قوات الاحتلال، وهو ما حدث بداية الحرب الوحشية المروعة التي تشنها إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
ورغم غياب كافة المقومات اللازمة لنجاح الكفاح المسلح فيها، وتمركز قوات كبيرة من قوات الاحتلال على أراضيها منذ وقت مبكر من هذه الحرب، تشهد القرية العديد من العمليات الناجحة التي تشنها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس وهو ما يثير استغراب المراقبين.
ونشرت كتائب القسام العديد من الفيديوهات لعمليات شنها مقاتلوها داخل جحر الديك، وأسفرت عن مقتل وجرح العشرات من جنود الاحتلال وخاصة خلال الأسبوع الجاري.
وتبعد جحر الديك عن غزة جنوبا نحو 8 كيلومترات، وتتميز بطبيعتها السهلية وتبلغ مساحة نفوذها نحو 6200 دونم، ويبلغ عدد سكانها نحو 5 آلاف نسمة.
سر نجاح المقاومة
يفسر الكاتب والمحلل السياسي ياسر أبو هين من غزة نجاح كتائب القسام -في توجيه هذه الضربات المتتالية والموجعة للاحتلال داخل ثكناته الحصينة في جحر الديك- بالعديد من العوامل. ويقول للجزيرة نت إن أول هذه العوامل هو “إيمان المقاتلين بحقهم وبأنهم يدافعون عن أرضهم وعرضهم وشرفهم”.
العامل الثاني هو “إدراك كتائب القسام مبكرا لخطورة هذه المنطقة، حيث إنها تعد خاصرة رخوة وضعيفة للقطاع، وعليه فقد جُهزت بالكثير من مقومات القوة وخاصة الأنفاق الهجومية والمعقدة”.
أما ثالث العوامل -بحسب أبو هين- فتتمثل في كون هذه المنطقة معقلا لحركة حماس، مستدلا بالقول “تاريخيا، هناك العديد من الكوادر الفاعلة للقسام ينتمون إلى القرية وهو ما جعل لحماس وجودا راسخا وقويا فيها”.
وبشكل عام، يرى أبو هين أن أداء المقاومة في منطقة صغيرة ومحدودة “وساقطة عسكريا” كجحر الديك يعطي نموذجا لما تقوم به المقاومة في المناطق الأخرى وخاصة المأهولة بالسكان وبها بنية تحتية قوية من أنفاق وأماكن للاختباء.
إمداد من المناطق المحيطة
ويحاول الكاتب والمحلل السياسي وسام عفيفة أن يقدم تفسيرات إضافية لتمكن القسام من توجيه هذه الضربات الموجعة داخل هذه القرية.
ويقول للجزيرة نت “في تقديري أن جحر الديك تتلقى إمدادات من مناطق قريبة وخاصة حي الزيتون جنوبي مدينة غزة ومخيمي البريج والنصيرات وسط القطاع”.
وتابع عفيفة “موقع القرية بين وسط وشمال القطاع ساعدها على تنقل عناصر من القسام من غزة والمحافظة الوسطى إليها لمساعدة المقاتلين في القرية”.
وكان جيش الاحتلال قد أمر يوم الجمعة الماضي سكان مخيم البريج وقرية المغراقة ومناطق محاذية بإخلاء منازلهم فورا، وبدأ بشن غارات وقصف عشوائي.
وتابع عفيفة “يبدو أن الاحتلال يحاول تقليل قدرة المناطق الأخرى على دعم وإمداد جحر الديك”.
امتصاص الضربة الأولى
ويقدم عفيفة تفسيرا ثانيا لقوة المقاومة بالقرية يتمثل في اعتماد خطط تعتمد على امتصاص الضربة الأولى للاحتلال، وخاصة الأحزمة النارية و”سياسة الأرض المحروقة الهادفة إلى القضاء على المقاومة أو طردها”.
ويضيف “بعد أن امتص القسام الضربة الأولى، وتوغلت قوات الاحتلال في المنطقة ودمرتها، انطلق المقاتلون ليفاجئوا العدو، ويضربونه في مقتل، ويستهدفون غرف القيادة والسيطرة الخاصة به”.
وثمة تفسير آخر يقدمه عفيفة وهو أن المقاتلين استفادوا من إبعاد القوة الجوية الإسرائيلية خلال الغزو البري، حيث إنها لا تعمل بالشكل المعتاد خشية إيقاع الأذى بقوات الاحتلال على الأرض بالنيران الصديقة.
وتابع “هذا الإبعاد ساعد المقاتلين من الاقتراب من آليات وجنود الاحتلال، وتحولوا إلى ما يشبه الأشباح فيخرجون للاحتلال من حيث لا يحتسبون”.
الأنفاق الهجومية المعقدة
ورغم أهمية العوامل السابقة، يرى عفيفة أن السبب الرئيسي لقوة المقاومة قد يتمثل في “امتلاك القسام شبكة أنفاق فريدة من نوعها ذات طريقة تصميم خاصة تساعدها على تحقيق أهدافها”.
ويضيف “من الواضح أن القسام استفادت بشكل كبير من إمكانات الأرض وخاصة الأنفاق لتعويض غياب المنازل في المناطق الزراعية التي تستخدمها قاعدة انطلاق في مناطق سكنية أخرى”.
وتابع “معظم مشاهد الفيديو التي أصدرتها القسام تظهر انطلاق المقاتلين من باطن الأرض، وليس من منازل مدمرة وهو ما يشير إلى أنهم يمتلكون أنفاقا هجومية معقدة”.
وضعوا الرصاص في رأس الجنود الصهاينة..
مشاهد قوية تظهر جانباً من المعركة التي قضى فيها مجاهدو كتائب القسام على 10 جنود والانسحاب بسلام في جحر الديك شرق المنطقة الوسطى في قطاع غزة. #طوفان_الأقصى pic.twitter.com/DeOXclL1Zv
— رضوان الأخرس (@rdooan) December 16, 2023
صمود السكان الأسطوري
ويقول “أبو محمد” -الذي ورث بستانا تبلغ مساحته نحو 40 دونما في القرية اشتراه والده خلال حقبة سبعينيات القرن الماضي- إن بقاء السكان رغم إجراءات الاحتلال هو “قصة صمود أسطورية”
ويذكر أن أراضيهم ومنازلهم تتعرض في كل حرب أو تصعيد للتدمير، لكنهم يعودون إلى تعميرها مجددا.
وقال المواطن -الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملا، للجزيرة نت- إن أرضه تعرضت للتدمير 4 مرات بداية من حرب 2008 وحتى الحرب الحالية.
وأوضح أن الاحتلال دمر عام 2014 منازل القرية بشكل كامل وجرف معظم أراضيها.
وأضاف “أبو محمد” أن جحر الديك شهدت فترة ازدهار عقب حرب 2014 حيث أعاد السكان تعميرها بالإضافة إلى بناء حي سكني بتمويل من تركيا، لكن “عاد الاحتلال خلال هذه الحرب، ودمر كل شيء”.