تحولت في الأيام الأخيرة ولاية الجزيرة جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم، من “جنة آمنة” إلى منطقة تشهد دمارا كبيرا وتوقفا في الخدمات الطبية وموطنا لكارثة إنسانية وعمليات نزوح كبيرة، بعد امتداد المعارك إليها وسيطرة قوات الدعم السريع عليها بعد انسحاب قوات الجيش منها.
وفي ظل الأوضاع المأساوية، حذر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا”، من تأثير الصراع على الخدمات الصحية في البلاد، مشيرًا بالتحديد إلى تفشي وباء الكوليرا. كما أشارت مجموعة طبية إلى أن أكثر من 3 ملايين شخص يواجهون خطر الإصابة بالمرض.
وأوضح المكتب، في بيان الثلاثاء، أن عدد الحالات المشتبه بها ارتفع بنسبة تتجاوز مئة بالمئة خلال الشهر الماضي، حيث وصلت بلاغات عن حوالي 8300 حالة اشتباه وأكثر من 200 وفاة في تسع ولايات حتى 23 ديسمبر الحالي، وفق بيانات محلية وأممية.
ولاية الجزيرة شهدت وحدها أكثر من 1800 حالة اشتباه، في وقت يعيق القتال المستمر جهود الاستجابة ويعطل الوصول إلى الخدمات الصحية، التي تعاني بالفعل في ظل توقف أكثر من 70 بالمئة من المستشفيات في أنحاء السودان عن العمل.
وذكرت نقابة أطباء السودان (اللجنة التمهيدية)، أن تعطيل كافة الخدمات الصحية في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة يعرض حياة مئات المصابين بالكوليرا في مراكز العلاج المخصصة لهذا المرض للخطر، كما أضافت في بيان الأحد بعنوان “الحرب في زمن الكوليرا” أن أكثر من 3.1 مليون شخص معرضون لخطر الإصابة بالمرض في ولايات مختلفة.
وقال المتحدث الرسمية باسم النقابة، محمد بشير، في اتصال هاتفي مع “الحرة”، إن “الوضع الصحي في الجزيرة كارثي و80 بالمئة من المستشفيات العامة خارج الخدمة”.
الوباءان ينتشران
تقدمت قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، قبل نحو أسبوعين وسيطرت على قرية تلو الأخرى على الطريق السريع الرابط بين العاصمة الخرطوم ومدينة ود مدني في ولاية الجزيرة، وبالفعل في 15 ديسمبر هاجمت المدينة ما دفع أكثر من 300 ألف شخص إلى النزوح مرة أخرى بعدما كانت المدينة ملاذا آمنًا للفارين من الخرطوم لمناطق قريبة آملا في العودة بوقت قريب إلى منازلهم في العاصمة.
وحاليًا امتد الصراع إلى مناطق في ولاية سنار جنوب الجزيرة، وسارع الناس بالنزوح أيضًا إلى ولايات أخرى.
بدأ الشاب السوداني أحمد الصادق مبادرة شبابية مع اندلاع القتال في الخرطوم في مايو الماضي، حملت اسم “غرفة طوارئ سنار” لاستقبال النازحين إلى ولايته من العاصمة وتوفير الإقامة والطعام، لكن حاليا في الوقت الحالي، قال لموقع “الحرة”، إن “حركة النزوح بدأت بكثرة من المدينة بحثا عن مناطق أكثر أمنا”.
وأضاف: “أغلقت أغلب المستشفيات أبوابها، وارتفعت أسعار الغذاء وسط نزوح التجار والمواطنين”.
“نهبوا كل شيء”.. شهادات مروعة من داخل “الجزيرة” السودانية
نهب أفراد الدعم السريع “كل شيء” في العيكورة بولاية الجزيرة وسط السودان، وفق ما يقول أحد سكان القرية، مع تقدم هذه القوات نحو الجنوب وفتح جبهات جديدة في الحرب المستمرة منذ أشهر مع الجيش.
مع وباء القتال يبدأ النزوح بأعداد كبيرة وتغلق المؤسسات الصحية أبوابها، وينتشر وباء المرض، ويوضح بشير أنه “مع اندلاع الحرب في الخرطوم، باتت ود مدني مقرا للإمدادات الطبية ومعظم المنظمات الإنسانية، وتحولت إلى عاصمة جديدة، ونزح مئات الآلاف من المواطنين”.
تبدل الحال مع وصول قوات الدعم السريع واتساع رقعة القتال بدأت حركة النزوح إلى ولايات مجاورة، كانت في البداية سنار منها قبل أن يقترب القتال أكثر وأكثر، فبدأ المواطنين في الخروج نحو الشرق مثل ولاية القضارف ومنها إلى مناطق أخرى، وفق بشير.
ويوضح الطبيب السوداني: “مع النزوح يبدأ انتشار الأمراض المنقولة مثل الكوليرا، وفي ظل انهيار المنظومة الصحية تكون حياة المرضى على المحك.. معظم مرضى الكوليرا والسرطان والقلب كانوا يتلقون العلاج في ود مدني، ومع خروج المستشفيات عن الخدمة، حياتهم مهددة”.
من جانبها أوضحت المديرة العامة للقطاع الطبي في ولاية البحر الأحمر شرقي السودان، أحلام موسى، في تصريحات لقناة الحرة، إن “70 بالمئة من النظام الصحي خارج الخدمة نتيجة تدمير المؤسسات العلاجية خلال الحرب. عينا مهمة وتحدي كبير في توفير الخدمة الصحية لكل السودان”.
متلازمة الوباء والنزوح
وصفت منظمة الصحة العالمية ولاية الجزيرة بأنها كانت سلة الخبز للسودان وجنة آمنة للنازحين من الحرب في الخرطوم، وأوضحت في بيان هذا الأسبوع، أنها أسست مركز عمليات في ود مدني يخدم ولاية الجزيرة والخرطوم ومناطق محيطة أخرى، منذ اندلاع الصراع.
وأوضحت أن المركز تم تعليق العمل بع في 15 ديسمبر الماضي بسبب القتال، وأنها تعمل حاليًا مع الشركاء من أجل الوصول لآليات بديلة لمواصلة توفير الاستجابة والخدمات الصحية العاجلة للسودانيين.
أشارت المنظمة على أن تعليق الخدمات الصحية “يضع حياة المرضى على المحك وبينهم مئات المصابين بالكوليرا الموجودين في مراكز علاج الكوليرا، حيث ستنفد المواد الطبية من تلك المراكز قريبا”.
سجلت ولاية الجزيرة وحدها أكثر من 1800 إصابة بالكوليرا و26 وفاة، بحسب المنظمة، التي كشفت أن “المكاسب التي تحققت في مواجهة تفشي الكوليرا في الولاية ربما تذهب هباء، بسبب توقف عملية مكافحة المرض ووجود حالات نزوح كبيرة ما يهدد بانتشار المرض بشكل أكبر”.
الحرب في السودان.. عدد النازحين يتخطى 7 ملايين
أدت الحرب التي اندلعت في أبريل في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى نزوح 7,1 مليون شخص، وفق ما أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، واصفة إياها بـ”أكبر أزمة نزوح في العالم”.
واصل بشير حديثه للحرة، وقال إن من يتلقون العلاج من الكوليرا في ولاية الجزيرة بشكل عام حوالي ألفي شخص، مضيفًا “كان هناك 6 مراكز في الولاية لعلاج الكوليرا، ولكن أغلبها توقف عن العمل، وفي ظل عدم توفر العلاج خلال الفترة الماضية بالتأكيد هناك وفيات قد حدثت بين المرضى”.
لفت أيضًا إلى أن النزوح عملية ليست سهلة على المرضى، حيث “الارتفاع الكبير في أسعار الوقود ووسائل النقل، وفي ظل عدم وجود ممرات آمنة. هناك استهداف للمركبات وخصوصا سيارات الدفع الرباعي من جانب قوات الدعم السريع، ما يزيد خطورة رحلة الخروج للحصول عللا العلاج في مناطق شرق السودان”.
حتى في مناطق النزوح هناك معاناة، فتقول “جوليا آدم” النازحة من الخرطوم والموجودة في أحد مراكز اللجوء في بورت سودان شرقي البلاد، لقناة الحرة: “اصطحبت طفلتي الاثنتين إلى المستشفى، لكن عثمان طفلي الآخر حالته كانت صعبة وفي بداية الإصابة بالكوليرا، ولكن تم الاعتناء به في المستشفى”.
تعيش السيدة في مسكن جامعي تم تخصيصه للنازحين يقطنه حوالي ألف شخص، وأوضحت أن “معظمهم لا يهتم بالنظافة والصحة أو ليس بمقدوره فعل ذلك.
قالت الأمم المتحدة إن هناك أكثر من 7 ملايين نازح في السودان من بينهم 5.5 مليون داخليا و1.5 مليون آخرين في بلدان مجاورة.
وحول التهديد الذي يمثله الكوليرا لأكثر من ثلاثة ملايين سوداني، قال بشير إن هذا الرقم حددته نقابته “بدراسة الشريحة المجتمعية التي تعاني من سوء التغذية وتحديد الأطفال والنساء الحوامل وكبار السن، وبالتالي حال تفشي الأمراض والكوليرا تحديدا في سنار أو كسلا أو القضارف التي شهدت تفشيا منذ عدة أشهر، ومع الضغط على المنشآت الصحية وزيادة حركة النزوح فإن أكثر من 3 مليون شخص حياتهم مهددة”.
وأوضح أن حسابات نقابته فقط في ثماني ولايات هي سنار والقضارف وكسلا والنيل الأزرق والبحر الأحمر ونهر النيل والولاية الشمالية والنيل الأبيض.