ضحكاتٌ متبادلة وعبارات “معسولة” ولغة سلام خيّمت على مشهد اللقاء الأول منذ 2017 بين الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان برئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، في العاصمة أثينا.
ورغم أن الصور والتسجيلات التي نقلت هذا الواقع غالبا ما تكون اعتيادية خلال الزيارات الدبلوماسية التي يجريها مسؤولو الدول الكبار، فإنها تكاد تكون “استثنائية” في الظرف الحالي وعند التطرق إلى العلاقة التي تجمع تركيا باليونان، أو بالنظر إلى ماهية الخطاب الذي عكس مواقف الطرفين خلال السنوات الماضية.
في مايو 2022 أطلق إردوغان عبارة شهيرة قائلا: “لم يعد هناك أي شخص يسمى ميتسوتاكيس في كتابي”، وفي أكتوبر من ذات العام أتبعها بأخرى مهددا بكلمته الشهيرة: “قواتنا قد تصل فجأة ذات ليلة وعلى حين غرّة”.
لكن “ميتسوتاكيس” الذي حذفه إردوغان من كتبه قبل قرابة العام اجتمع معه في أثنيا وأعلنا سوية وسط تبادل الضحكات عن اثنتي عشرة اتفاقية تعاون في مجالات التجارة والطاقة والتعليم.
كما أعلنا عن خارطة طريق للمشاورات المستقبلية رفيعة المستوى التي تهدف إلى تجنب الأزمات.
وبينما أعرب الرئيس التركي عن أمله في تدشين “عهد جديد” أضاف ميتسوتاكيس: “شهدت علاقاتنا الثنائية اضطرابا كان في بعض الأحيان يهدد بشكل خطير”، مخاطبا إردوغان بكلمات من قبيل: “رئيسي العزيز”، “السيد إردوغان”، “عزيزي طيب”.
على مدى عقود مرّت العلاقات بين تركيا واليونان بمدٍ وجزرٍ، بدءا الحرب التركية اليونانية التي اندلعت في عام 1897 ووصولا إلى الحرب التركية اليونانية (الرابعة من نوعها بين البلدين)، والتي حصلت ما بين عامي 1919 و1922، أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وهو ما يستعرضه موقع “الحرة” في الآتي.
“إزمير – سميرنا”
في نهاية الحرب العالمية الأولى شعرت اليونان أنه مع ضعف تركيا الواضح أصبح الوضع ملائما لبسط سيادتها في آسيا الصغرى، حسب ما يورده الموقع الرسمي لـ”اللجنة الدولية للصليب الأحمر”.
وبناء على ذلك نزلت قوة استكشافية يونانية في “سميرنا” (مدينة إزمير) في مايو 1919 وانطلقت لغزو المناطق النائية متوغلة في قلب الأناضول، وذلك قبل أيام من وصول مصطفى كمال أتاتورك إلى بلدة سامسون الساحلية على البحر الأسود، مطلقا شرارة “حرب الاستقلال التركية”.
نجح أتاتورك في دحر الجيش اليوناني الذي كان يحتل مناطق في الأناضول، ودخل إلى إزمير في سبتمبر 1922، لتنتهي الحرب بعقد هدنة مودانيا ومعاهدة “لوزان” التي نصت على تبادل للسكان بين تركيا واليونان، وألغت معاهدة “سيفر” التي وقعتها الدولة العثمانية في أغسطس 1920 مع قوات الحلفاء.
حددت “لوزان” الحدود الوطنية لكلا البلدين (تركيا، اليونان)، والتي تظل كما هي حتى يومنا هذا، ونظمت حقوق الأقليات وحددت غير المسلمين الذين يعيشون في تركيا كأقليات.
وفي المقابل منحت المعاهدة الجالية التركية في تراقيا الغربية في اليونان وضع الأقلية، وتم بموجبها تبادل للسكان على أسس دينية، حيث غادر أكثر من مليون مسيحي أرثوذكسي تركيا إلى اليونان، وغادر 500 ألف مسلم اليونان إلى تركيا.
وبناء على “لوزان” أيضا تنازلت تركيا لليونان عن مطالبتها بـ”الجزر الاثني عشر” في بحر إيجه، إلى أن أقرت سيطرتها الكاملة عليها بموجب معاهدة باريس عام 1947، وفق شرط “عدم تسليحها”، وهو ما شكّل نقطة صدام امتدت لسنوات طويلة وما تزال قائمة حتى الآن.
“محطة 1930”
عقب تلك الفترة (بعد لوزان) أبدت قيادتا تركيا واليونان تصميمهما على تطبيع العلاقات بينهما. وبعد مفاوضات دامت سنوات، تم التوقيع على اتفاق عام 1930 زار بعدها رئيس الحكومة اليونانية اليفثيريوس فينيزولوس إسطنبول وأنقرة.
مهّدت الاتفاقية حينها الطريق لاتفاقيات أخرى وزيارات رفيعة المستوى، بما في ذلك زيارة رئيس الوزراء التركي عصمت إينونو إلى أثينا في عام 1931، وهو الذي يعرف بأنه “رفيق سلاح أتاتورك”، وفق ما يورد مقال تحليلي لألبير جوشكون الذي عمل دبلوماسيا في سفارة تركيا بأثينا.
تبع ذلك إقامة حلف البلقان الذي شاركت فيه كل من اليونان وتركيا ويوغسلافيا ورومانيا، في فبراير 1934.
وفي عام 1941، كانت تركيا أول دولة ترسل مساعدات إنسانية إلى اليونان التي كانت تعاني من مجاعة خطيرة إبان الاحتلال الألماني، بحسب ما قال المدير العام للهلال الأحمر التركي إبراهيم ألتان، في مقابلة مع وكالة الأناضول.
بقيت حالة الهدوء والتقارب التي فرضها اتفاق 1930 قائمة وازدادت مع ظروف الحرب الباردة في خمسينيات القرن الماضي، وبعدما حاربت تركيا واليونان في الحرب الكورية انضمتنا سوية في 1952 لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
وفي عام 1954، شكلت كل من تركيا واليونان ويوغسلافيا حلفا بلقانيا هدفه التصدي للاتحاد السوفيتي، لكن بعد ذلك وبحسب ما يشير جوشكون توترت العلاقات مرة أخرى في منتصف خمسينيات القرن الماضي “عندما عادت الأعمال العدائية إلى الظهور فيما يتعلق بقبرص”.
ماذا حصل في قبرص؟
في 15 من يوليو 1974 وقع انقلاب في العاصمة القبرصية نيقوسيا قاده مطالبون بالوحدة مع اليونان بمساندة النظام العسكري الذي كان يحكم أثينا آنذاك، وسرعان ما أطاحوا برئيس الجمهورية، رئيس الأساقفة مكاريوس، ونصّبوا حكومة “دمية” برئاسة الصحفي، نيكوس سامسون، بحسب موقع ” Greek Reporter”.
وكان هدفهم هو توحيد الجزيرة مع اليونان، من منطقة أن الاتحاد يمثل “فكرة قومية لبعض اليونانيين، وكذلك لبعض القبارصة”، وفق ذات الموقع، وبعد خمسة أيام غزا الجيش التركي قبرص وبقيت قوات الاحتلال التابعة له في الجزء الشمالي من الجزيرة حتى يومنا هذا.
وفي أعقاب ذلك أعلن الشطر الشمالي المحتل قيام “جمهورية شمال قبرص التركية” التي لا تعترف بها سوى أنقرة. ويصف مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة “جمهورية شمال قبرص” بأنها “غير شرعية”.
ولم تفضِ محاولات الأمم المتحدة في السنوات الماضية إلى أي نتيجة على صعيد طوي النزاع القبرصي، والذي بقي مثار شد وجذب بين اليونان وتركيا.
“أزمة كارداك – إيميا”
لم تتوقف الأزمات التي اشتعلت بين تركيا واليونان في أعقاب فترة الهدوء التي فرضها اتفاق 1930 على ما حصل في قبرص فحسب، ليشتعل التوتر مجددا في عام 1996، حول نتوءين صخريين غير مأهولين في بحر إيجه، والمعروفين باسم إيميا باللغة اليونانية وكارداك باللغة التركية، كما يقول ألبير جوشكون، عندما كان دبلوماسيا مبتدئا في السفارة التركية بأثينا.
تبعد الجزر عن بعضها حوالي 1000 قدم وتبلغ مساحتها مجتمعة حوالي 10 أفدنة، وهي جزء من اليونان ولكن على بعد أميال قليلة فقط من شبه جزيرة بودروم التركية.
واندلعت المواجهة بعد أن جنحت سفينة شحن تركية في إحدى الجزر، وسرعان ما تصاعد الخلاف حول مطالبة الإنقاذ إلى حادثة دولية، مع رفض تركيا سيادة اليونان على الجزر.
وبعد انتشار أخبار الخلاف، أقدم كاهن يوناني على زيارة الجزيرة وزرع وزرع العلم اليوناني فوقها مع عدد من الأشخاص، وردا على هذا الفعل المعلن استبدله صحفي تركي بالعلم التركي بعدما تمكن من الوصول إلى “كارداك”، كما يروي جوشكون وتؤكده مصادر متقاطعة.
ومع تصاعد الضغوط الشعبية على الجانبين، قام كلا البلدين بتحريك القوات البحرية نحو “كارداك – إيميا”، وأرسلت اليونان قوات عمليات خاصة هناك، وحذت تركيا حذوها بعد فترة وجيزة.
وكانت القوات المتعارضة على بعد بضع مئات من الياردات فقط، واستمرت المواجهة عدة أيام بينما كان البلدان، وكلاهما عضوان في الناتو، يحشدان من أجل الحرب.
وكان يُنظر إلى السياسات الداخلية في كلا البلدين، فضلا عن المشاعر القومية الطويلة الأمد، على أنها عوامل دافعة في ذلك الوقت، لكن الأزمة كانت حقيقية للغاية، وفي النهاية حالت الدبلوماسية الأميركية والضغوط السياسية دون اندلاع الصراع، كما جاء في مقال لموقع “بزنس إنسايدر”.
“استفزاز تلاه تحسن”
رغم أن محطة 1996 كانت الأخيرة بخصوص وصول تركيا واليونان إلى حد المواجهة المباشرة لم ينقطع التوتر و”الاستفزازات” والهجوم الكلامي فضلا عن التحرش العسكري بين البلدين على مدى السنوات التي أعقبت ذلك.
وواصلت تركيا إثارة مخاوفها من قضية تسليح الجزر في بحر إيجه من جانب اليونان، وتوسعت الدائرة شيئا فشيئا لتنسحب إلى حد إبداء مخاوفها من منظومة “إس 300” التي سبق وأن أعلنت أنقرة أنها اعترضت لها طائرة تركية، في أغسطس 2023.
وتنظر تركيا إلى الجزر من “زاويتين”، الأولى من خلال معاهدة لوزان عام 1923، التي رسمت الحدود الحالية بعد الحرب اليونانية-التركية، بينما منحت اليونان السيطرة على “ليسبوس، خيوس، ساموس، إيكاريا”.
أما الزاوية الثانية فترتبط بمعاهدة باريس عام 1947، بعد الحرب العالمية الثانية، وحينها تنازلت إيطاليا عن جزر دوديكانيسيا لليونان. ودعت هاتان المعاهدتان إلى أن تكون الجزر منزوعة السلاح.
في المقابل تقول اليونان مرارا إن وجود قواتها على الجزر يرتبط بـ”ضرورة الدفاع عن النفس”، من زوارق الإنزال المتمركزة على الساحل الغربي التركي.
كما تثير أثينا دائما مخاوفها ورفضها لعمليات التنقيب التي تقوم بها تركيا “بشكل غير قانوني” عن النفط في شمال بحر إيجة، وذلك منذ عام 1973.
ولا يقتصر التوتر الذي وصل إلى حد “العداء” بين البلدين خلال الفترة الأخيرة على ما سبق، بل غالبا ما كانت مخلفات الحروب التي جرت بأوقات متفرقة بعد العالمية الأولى وما قبلها.
إردوغان: تركيا واليونان تحاولان تطوير التعاون بمجال الطاقة النووية
نقلت وسائل إعلام عن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، قوله، الجمعة، بعد اجتماعات في أثينا يوم الخميس إن تركيا تريد تطوير التعاون مع اليونان في مجال الطاقة النووية، مضيفا أنه يأمل أن تفتح زيارته صفحة جديدة في
العلاقات بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي.
وكثيرا ما انزلق مسؤولو البلدين على رأسهم إردوغان ورئيس الوزراء اليوناني إلى تبادل للانتقادات اللفظية اللاذعة بشأن نزاعات حديثة أو قديمة أبرزها التفرقة ضد المسلمين في شمال اليونان إلى الوجود العسكري التركي في قبرص والتفسيرات الفضفاضة لمعاهدة دولية رسمت الحدود بين البلدين.
وكان ما سبق قد تترجم عندما زار إردوغان أثينا لأول مرة في عام 2017، وبعدما كانت خطوته بهدف “تعزيز العلاقات بين البلدين” اقترح قبل أن تهبط طائرته في اليونان، في تصريح لتلفزيون “سكاي” وصحيفة “كاثيميريني” اليونانيين مراجعة معاهدة لوزان الموقعة عام 1923 والتي رسمت حدود تركيا وبالتالي حدود اليونان.
وقال حينها: “هذه المعاهدة تشمل المنطقة بأكملها ولهذا السبب فقط اعتقد أنه مع الوقت يجب مراجعة جميع المعاهدات، ومعاهدة لوزان بحاجة… للمراجعة في ظل التطورات الأخيرة”.
وفي رد سريع قالت اليونان إن المعاهدة غير قابلة للتفاوض وإن اقتراحات إعادة النظر فيها لا تدعم مساعي بناء العلاقات. وقال المتحدث باسم الحكومة ديميتريس تساناكوبولوس في بيان: “تتوقع الحكومة اليونانية ورئيس الوزراء أن تشيّد زيارة (إردوغان) جسورا لا أسوارا”.
وفي حادثة منفصلة حصلت قبل عام ونصف اتهم رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، في يوليو 2022 دولت باهتشلي زعيم حزب “الحركة القومية” الشريك بالائتلاف الحاكم في تركيا باتباع ما وصفها بـ “سياسات توسعية” على خلفية صورة له مع خريطة تظهر جزرا يونانية على أنها تركية.
وظهر باهتشلي في الصورة إلى جانب خريطة يقدمها له شخص آخر هدية، وتظهر فيها جميع جزر شرق بحر إيجه، إلى جانب كريت أكبر جزيرة في اليونان، كأرض تركية.
لكن ومع بداية 2023 تحسنت العلاقات عندما أرسلت اليونان مساعدات إلى تركيا بعد زلزال مدمّر أودى بحياة 50 ألف شخص على الأقل.
وقبل هذه الخطوة كانت كل من أنقرة وأثينا قد سارتا بمحادثات “استكشافية” من أجل إعادة إصلاح العلاقات.
“التقارب ليس مستحيلا”
ويشي ظهور إردوغان و ميتسوتاكيس في اللقاء الذي حصل بأثينا وما تبعه من خطوات أبرزها إعلان سعي أنقرة إلى التعاون مع اليونان في مجال الطاقة النووية بأن “التقارب بين الطرفين ليس مستحيلا”، كما يرى محللون.
صحيفة “واشنطن بوست” تشير في تقرير لها الجمعة إلى أنه وعلى مدار الخمسين عاما الماضية دفعت النزاعات الطويلة الأمد أثينا وأنقرة إلى حافة الحرب ثلاث مرات.
وبالتركيز على الحدود البحرية وحقوق التنقيب عن الموارد في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط، حدث آخر تصعيد في عام 2020، عندما تعقبت سفن البحرية اليونانية والتركية بعضها البعض في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وتوضح الصحيفة أن “أهمية تحسين العلاقات تمتد إلى ما هو أبعد من العلاقات الثنائية ويمكن أن تساعد تركيا على إصلاح علاقاتها المتوترة مع الاتحاد الأوروبي والحلفاء الغربيين الآخرين”.
من جانبه يعتبر ألبير جوشكون الذي عمل دبلوماسيا في سفارة تركيا بأثينا في مقاله الذي نشر في مايو 2023 أنه “سيكون من الخطأ الاستخفاف بالخلافات اليونانية التركية”.
ويوضح أن “كلا الطرفين يعانيان من رؤية ضيقة عندما يتعلق الأمر بالخلافات بينهما، كما أنهما متشبثان بالكامل برواياتهما الوطنية، الأمر الذي يولد قدرا كبيرا من الجمود ضد التقارب”.
يقول جوشكون: “إن المعتقدات العميقة وعقلية المحصلة الصفرية السائدة تعيق أي من الجانبين عن رؤية تكلفة الفرصة البديلة الناجمة عن الاضطراب المتبادل المستمر بدلا من التكاتف وجني فوائد التعاون”.
ويضيف: “ينبغي على القادة أن يكونوا قدوة يحتذى بها وأن يدعوا إلى ثقافة التعاون. قد يكون من الصعب أن نتصور إمكانية تحقيق ذلك، ولكن كما أظهر فينيزيلوس وأتاتورك، فإن الأمر ليس مستحيلا”، في إشارة منه إلى اتفاق 1930.