في الثالث من ديسمبر/ كانون أول الجاري يستضيف مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب 28) في دبي لأول مرة “يوم الصحة” كجزء من مفاوضات المناخ، الأمر الذي يضع على طاولة النقاش مشكلة طالما أشار إليها العلماء، وهي أن التغير المناخي بات قريبا من أجسادنا إلى حد لا نتصوره.
ويعتقد الشخص العادي في أية دولة حول العالم أن التغير المناخي يعني فقط ارتفاع متوسط درجة الحرارة، لكن ذلك أبعد ما يكون عن الصحة، حيث يؤثر تغير المناخ في كل شيء فيرفع من معدلات الحالات المناخية المتطرفة مثل الموجات الحارة وموجات الجفاف والفيضانات.
وإلى جانب ذلك، فإن احترار الكوكب يؤثر في صحة البشر، بل ووصفت منظمة الصحة العالمية تغير المناخ بأنه أكبر تهديد صحي يواجه البشرية، وحذرت المنظمة من أن تصاعد متوسط درجات الحرارة عالميا يجب أن يقف عند هدف اتفاقية باريس المتمثل في 1.5 درجة مئوية لتجنب الآثار الصحية الكارثية ومنع ملايين الوفيات المرتبطة بتغير المناخ.
وبحسب المنظمة، فإن الأبحاث في هذا النطاق تشير إلى أنه من المتوقع أن يتسبب تغير المناخ بين عامي 2030 و2050 بنحو 250 ألف حالة وفاة إضافية سنوياً، وستقدر تكاليف الأضرار المباشرة على الصحة بسبب تغير المناخ بما يتراوح بين 2 و4 مليارات دولار أميركي سنويا بحلول عام 2030.
إجهاد حراري
ويؤثر تغير المناخ في صحة الإنسان بطرق مباشرة وغير مباشرة، حيث يمكن لموجات الحرارة الشديدة مثلا أن تتسبب بارتفاع معدلات الإجهاد الحراري، وهو عدم قدرة الجسم على التكيف مع الحرارة الشديدة.
ويتسبب الإجهاد الحراري بمشكلات طبية تبدأ بأعراض العطش والجفاف وقد تصل إلى صدمة حرارية يصاب خلالها الشخص بصداع شديد، لتنتهي بفقدان كامل للوعي مع اختلاج، وإذا لم يتم التعامل مع الحالة فإن الأمر قد يتطور للوفاة. ويؤثر الإجهاد الحراري بشكل خاص على الفئات التي تعمل في الخارج على اتصال مع الشمس، مثل عمال البناء ورجال المرور.
وقد أظهرت دراسة نشرت في دورية “إنفيرومنتال ريسيرش ليترز” عام 2020 أن الإجهاد الحراري الناجم عن الحرارة والرطوبة الشديدتين سوف يؤثر سنويا على مناطق يسكنها الآن 1.2 مليار شخص بحلول عام 2100، على افتراض ثبات انبعاثات الغازات الدفيئة على المستوى القائم حاليا.
قلب معتل
ويمتد تأثير ارتفاع متوسط درجات الحرارة على الصحة لما هو أبعد من ذلك، وكانت دراسة قد صدرت في دورية “ريسك أناليسيز” جمعت بيانات درجة الحرارة القصوى في ولاية مينيسوتا الأميركية وقارنتها بالوفيات في الولاية نفسها بين عامي 1998 و2014، وزيارات قسم الطوارئ من عام 2005 إلى عام 2014، لتجد علاقة بين العاملين.
واتضح بحسب الدراسة أن هناك ارتباطا بين التغير المناخي وخطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز التنفسي، والتي يمكن أن تتطور للوفاة.
وهذا ليس بجديد، فقد تم تسجيل أكثر من 70 ألف حالة وفاة إضافية أثناء موجة الحر التي حدثت في صيف عام 2003 في قارة أوروبا. وبحسب دراسة أجراها معهد برشلونة للصحة العالمية فإن عدد الوفيات المرتبطة بالحرارة خلال صيف 2022 في أوروبا بعد موجة الحر القاتلة تجاوز 70 ألف حالة، وجانب من هذه الحالات كان على علاقة بأمراض القلب والأوعية الدموية.
ووفقا لتقرير “ذا لانسيت كاونت داون” الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فإن عدد الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما ولقوا حتفهم بسبب الحرارة ارتفع بنسبة 85% في الفترة من 2013 إلى 2022، مقارنة بالفترة من 1991 إلى 2000.
أمراض معدية
ويصل الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يمكن للتغيرات في درجات الحرارة وهطول الأمطار أن تغير من نمط حياة وتوزيع وسلوك الحشرات الناقلة للإصابات البكتيرية، والتي عادة ما تنشط في طقس أكثر رطوبة وحرارة، مما قد يؤدي إلى تغيرات في خرائط الأمراض المعدية بشكل غير متوقع.
وبحسب المركز الأميركي للسيطرة على الأمراض فإن فصول الشتاء المعتدلة والصيف الأكثر دفئا تجعل من السهل على هذه الأمراض المعدية وغيرها التوسع في مناطق جغرافية جديدة وإصابة المزيد من الناس. ويضرب المركز مثالا على ذلك بما حصل في عام 2012، حيث مهّد الشتاء المعتدل وأوائل الربيع والصيف الحار الطريق لتفشي مرض فيروس غرب النيل في الولايات المتحدة، مما أدى إلى إصابة أكثر من 5600 شخص بالمرض و286 حالة وفاة.
ويحدد المركز عددا من الأمراض التي يتوقع أن تصبح أكثر شيوعا بسبب الاحترار العالمي، ومنها الجمرة الخبيثة والالتهابات المقاومة للمضادات الحيوية وحمى الضنك والجيارديا وفيروس هانتا وداء السلمونيلات ومرض فيروس غرب النيل، وغيرها.
قلق واكتئاب
ولا يتوقف الأمر عند حدود الصحة الجسدية فقط، بل يمتد إلى الصحة النفسية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن ما نسبته 20 إلى 50% من الأشخاص الذين يعيشون في ظروف مناخية متطرفة معرضون بشكل أكبر للإصابة بالقلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات النوم، بل والتفكير في الانتحار.
ويشير الباحثون في هذا النطاق إلى أن نسب القلق بشأن الآثار البيئية والسياسية والصحية لتغير المناخ، والمعروف أيضا باسم “القلق المناخي”، ترتفع عاما بعد عام، حيث تتطور لدى الناس مشاعر شديدة من عدم اليقين والقلق والحزن واليأس بشأن المستقبل.
ويؤثر التغير المناخي في كل جوانب الصحة العامة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وللأسف فإن الأماكن ذات البُنى التحتية الصحية الضعيفة ومعظمها في البلدان النامية، ستكون الأقل قدرة على التحمل ما لم تحصل على المساعدة اللازمة للتأهب والاستجابة لتلك الكوارث المناخية.