بلسانٍ عربي يحاول جاهدا أن يكون مُبينا؛ يطل أفيخاي أدرعي على جمهوره عبر منصات التواصل الاجتماعي والفضائيات العربية التي تستضيفه لاستطلاع موقف الجيش الإسرائيلي في المعركة، ولا يسرني اليوم أن أقول إن هذا الاسم صار أشهر من نار على علم في الأوساط العربية، والسبب هو قدرته على التحدث بالعربية! فهو رئيس قسم الإعلام العربي، والناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي.
قد تتعجب من كثرة المتابعين له من العرب والناطقين بالعربية على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه الفضول أو ربّما الرغبة في رؤية أكاذيب الصهاينة وألاعيبهم في نقل الحقائق.
يوظّف أدرعي اللغة العربية لإرسال رسائل علنية وأخرى ضمنية، ويتفاعل مع متابعيه ويحتمل ما يأتيه منهم من انتقادات، وما ذلك إلا شكل من أشكال الدبلوماسية لتحقيق هدف واضح يرمي إلى كسر الحاجز النفسي بين المتابعين والتطبيع مع ما يفترض أنه العدو الصهيوني.
وإذا ما دققت في لغته التي ينقل بوساطتها الأحداث الراهنة بعيون صهيونية؛ تجد لديه كثيرا من المصطلحات والتعابير التي من شأنها أن تترك انطباعات معاكسة للحقيقة، وستلحظ بدون أدنى شك استخدامه لكلمتي (الإرهاب) و(المخربين) بكثرة، قاصدا بذلك أي حركة تقاوم إسرائيل وشرورها، وأي مقاومين يدافعون عن الأرض والأهل والعرض ضدّ إسرائيل!
أهداف أدرعي من وراء استخدام العربية في خطاب المتابعين له
يستخدم أدرعي اللغة العربية لخدمة أمرين رئيسين؛ الأول: تحقيق التطبيع الشعبي بين الجماهير العربيّة والناطقة بالعربيّة من المسلمين والكيان الصهيوني، وهو يُمهّد لذلك بالتطبيع النفسي واعتياد التعامل والتفاعل مع شخصية صهيونية عسكرية، أما الهدف الثاني فهو تمرير روايات الاحتلال الصهيوني عامة، وفي أثناء المعركة خاصة، وذلك في إطار الحرب النفسيّة والإعلاميّة التي تجنّد لها دولة الاحتلال ميزانيّات طائلة.
وفي سبيل تحقيق هذين الهدفين يستخدم أفيخاي أساليب مختلفة من اللغة العربية والخطاب العربي، ويقصد أن تكون هذه الأساليب متنوعة ومتعددة في أسلوب ممنهج. وسأعرض باختصار بعض هذه الأساليب التي يعتمدها مع التدليل عليها ببعض الأمثلة، لا سيما من معركة طوفان الأقصى التي تدور رحاها الآن على أرض غزّة.
الأسلوب الأول: اللغة الساخرة والتهكمية
يعتمد أدرعي أسلوب السخرية بكثرة في خطاباته، فهي بوّابته لزيادة حجم التفاعل معه عبر منصات التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال السخرية والسخرية المضادة التي يرد بها عليه متابعوه، ونراه يلجأ إلى الخطاب الساخر في اتجاهات عدة؛ منها السخرية من قيادات المقاومة التي “تختبئ” في الأنفاق على حد تعبيره، أو في فنادق قطر، أو السخرية من قناة الجزيرة وتغطيتها للحرب، أو السخرية من صواريخ المقاومة وعدم فاعليّتها وتأثيرها.
ففي 23 نوفمبر/تشرين الثاني، تشرين الأول الجاري بث مقطع فيديو وعلّق عليه بقوله: “من الجزائر سألني صديق: ماذا يعني جهاد الفنادق؟ فالجواب بالفيديو التالي”.
وسخر في المقطع المرئي من قادة المقاومة المقيمين في قطر مع عرض صور عادية لهم، لكنه وظّفها في سياق السخرية، لكن ما يلفت النظر هو أنّه بدأ المقطع بقوله: “سألني صديق من الجزائر” وذلك لخدمة هدف التطبيع، واختيار الجزائر تحديدا لم يأت عبثا، فهو من أكثر البلدان مناصرة شعبية للفلسطينيين ورفضا للتطبيع، فلا بأس عند أفيخاي من محاولة هزِّ صورته الذهنية الرافضة للتطبيع لدى الجماهير.
الأسلوب الثاني: التكرار واللغة التوكيدية
إنّ التكرار من أهم أساليب التوكيد في اللغة، وقد اتفقت كلمة اللغويين في اللغات المختلفة لا سيما العربية أن التكرار يهدف إلى توكيد المعنى وترسيخه في ذهن السامع واستمالته إلى ما يريد المتكلم، إذ يقول ابن جني في كتابه الخصائص: “اعلم أنّ العرب إذا أرادت المعنى مكّنته واحتاطت له، فمن ذلك التوكيد، وهو على ضربين؛ أحدهما تكرير الأول بلفظه، والثاني تكرير الأول بمعناه، وهو على ضربين: أحدهما للإحاطة والعموم والآخر للتثبيت والتمكين”.
وفي المعنى نفسه قال “غوبلز” وزير الدعاية الألمانية النازية في زمن هتلر “إن سر الدعاية الفعّالة لا يكمن في إذاعة بيانات تتناول آلاف الأشياء، ولكن في التركيز على بعض الحقائق فقط، وتوجيه آذان الناس وأبصارهم إليها مرارا وتكرارا”.
وأدرعي هذا لا يألو جهدا في استعمال التكرار في خطاباته بالعربية، إذ يركّز على بعض المصطلحات والأفكار ويكررها باستمرار، فمن بداية معركة طوفان الأقصى لا يترك فرصة ليقول فيها “دواعش حماس”، ويكرر إلصاق صفة الداعشية بحركة المقاومة، تناغما مع فكرة رهاب الإسلام “الإسلاموفوبيا”، التي يحلو للغرب العزف عليها كلما أراد حشد نفورٍ شعبي أكبر تجاه الإسلام والعرب، إذ يقول أفيخاي: “حماس وداعش وجهان لعملة واحدة”، وكذلك يكرر عبارة “النصر الوهمي” في كل الحروب التي تشنّ على قطاع غزة واصفا بها إنجازات المقاومة. ومثل ذلك وصفه للجيش الإسرائيلي بـ”جيش الدفاع” تمهيدا لفكرة أحقيتهم في ردّ الأذى عن أنفسهم، وسعيا لجعل المتلقي مهيأ نفسيا للشعور أن ما تفعله إسرائيل محض ردّ فعل فحسب.
وكان جليا واضحا تكراره لِفِريَة احتجاز الرّهائن الإسرائيليين في أقبية المستشفيات واتخاذها مقرا لإدارة الأعمال العسكريّة والقتالية للمقاومة، كما كان من أمر السيناريو الذي رسموه حول مستشفى الشفاء.
الأسلوب الثالث: اعتماده أسلوب الثنائيات الضدية
إذ اتّكأ على المبالغة والتَّهويل في اللغة من جهة، والتّهوين والتّحقير من جهة ثانية، وهي من الأساليب اللغوية التي تؤثر في المتلقّي تأثيرا بالغا، وقديما قالت العرب “أعذب الشعر أكذبه” أي أكثره مبالغة.
ولا يفتأ أدرعي يعتمد على المبالغة واللغة التهويليّة في وصف قدرات الجيش الصّهيوني في المعركة، فهو يعرض باستمرار صورا للقبة الحديديّة وهو يصفها بقوله “القبة الحديديّة فخر الصّناعة الإسرائيليّة وإرادتنا أقوى من الحديد”.
وفي 22 من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري نشر على حسابه في منصة إكس “قوات جيش الدفاع تكشف منذ بداية القتال عن نحو 400 فتحة نفق وتدمرها. مقاتلو وحدة الهندسة الخاصة يلعبون دوراً مهماً في الكشف عن فتحات الأنفاق وتدميرها بوسائل متنوعة”. لا أظن أن ما قاله يحتاج إلى كثير تفرّس لنرى ما ينطوي عليه من تهويل ومبالغة.
وفي مقابل التهويل والمبالغة يعتمد أدرعي التهوين في لغته عند الحديث عن المقاومة، ويعمد إلى استخدام لغة تحقيرية لتسخيف آثار المقاومة وإنجازاتها على الأرض، ومن ذلك وصف صواريخ المقاومة بأنها “صواريخ عبثية”، ويُهوّن من شأن المقاومين حين يزعم أنهم يفرّون ويتراجعون أمام تقدم الجيش الإسرائيلي ويتركون المدنيين ليلاقوا مصيرهم.
الأسلوب الرّابع: تسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية
إنّ إطلاق المسميات وتكرارها على الأسماع يهدف إلى التصالح مع هذه التسميات، وذلك في اتجاهين؛ الأول تلميع الصورة الذاتية، والثاني شيطنة الخصم والعدو.
يعمد أدرعي إلى قلب الأسماء في اتجاهين؛ فهو يسمي الجيش الإسرائيلي “جيش الدفاع ” ويحرص على تكرار هذا الوصف وتأكيده، فهذه هي التسمية التي يطلقها الجيش الإسرائيلي على نفسه، ليظهر أن الإسرائيليين أصحاب حق، ومن البدهيّ أن يكون جيشهم خطا دفاعيا، فالمُهاجَم في عرف الإنسانية لا بدّ له أن يدافع ويردّ عن نفسه.
ومن ذلك أيضا وصف المقاومين “بالمخربين” ووصف حركات المقاومة “بالإرهابية”، فهو يتقصّد ألا يذكر أي حركة مقاومة بدون إلصاق تقييدها ووصفها بأنها “إرهابية”. وفي المعركة الأخيرة يحرص على وصف المقاومين بقوله “دواعش” لا سيما حركة حماس، إذ يقول “دواعش حماس”، ويُصرٌّ في خطاباته على استعمال “التنظيم الإرهابي” لوصف حركات المقاومة الإسلامية، فيرسخ بذلك العلاقة بين المقاومة والإرهاب وفقا للنظرة العالمية التي صارت كلمتا “التنظيم” و”داعش” عندها أشبه بتهمة الزَّندقة في أيام بني العباس.
ويهدف أفيخاي من وراء ذلك كله أن يبني وعيا جمعيا بوساطة اللغة لشيطنة المقاومة وتلميع صورة إسرائيل الغاصبة.
الأسلوب الخامس: التخويف واللغة الترهيبيّة
يحرص أفيخاي على استخدام لغة تتسم بالحزم والقوة إلى جانب اللغة الناعمة التي يستخدمها بكثرة، فاللغة الترهيبيّة تؤثر في معنويات الناس وتعد جزءا من الحرب النفسيّة. ففي 24 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي نشر على حساباته قائلا “يا سكان غزة، لن يُسمح بأي شكل من الأشكال بتنقل السكان من جنوب القطاع إلى شماله وإنما من الشمال إلى الجنوب فقط. ندعوكم إلى عدم الاقتراب من القوات العسكرية والمناطق شمال وادي غزة. استغلوا الوقت للتزود بالاحتياجات وترتيب أموركم. منطقة شمال القطاع هي منطقة قتال ويحظر البقاء فيها. الحرب لم تنته فنحثكم على الانصياع إلى التعليمات والتحذيرات من أجل سلامتكم”.
وفي اليوم التالي أعاد نشر التحذير باللغة التخويفيّة ذاتها إذ قال “رسالة مهمة لسكان غزة في فترة تعليق الأعمال العسكرية مؤقتا:
“انتقلوا إلى جنوب وادي غزة.. لا تحاولوا الانتقال إلى شمال القطاع.. ممنوع الدخول إلى البحر.. ممنوع الاقتراب لمسافة كيلومتر عن الحدود.. عشان سلامتكم قوموا بالانصياع إلى هذه التعليمات”.
هذه الأساليب الخمسة هي بعض الأساليب التي يحاول من خلالها أفيخاي أدرعي توظيف اللغة العربيّة لتكون سبيلا للتطبيع النفسي مع الكيان الصهيوني من جهة، ولتكون جسرا لتقديم الرواية الصهيونيّة في المعركة، وإن فهم هذه الأساليب مُهمٌّ لمواجهة الرواية الصهيونيّة من جهة، والتحصن من التطبيع الذي يراد له أن يغدو ثقافة شعبية، والذي يمثل توظيف اللغة إحدى أدواته؛ ولقد صدق الله تعالى القائل في كتابه العربيّ المبين: “وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ”.