مع اكتشاف مصر لحقل ظهر للغاز الطبيعي في البحر المتوسط، داعبتها آمال بتحقيق اكتفاء ذاتي من الغاز والتحول إلى مركز لتصدير الطاقة في شرق البحر المتوسط.
وقد تحقق الهدف الأول في عام 2018 مع تدفق الإنتاج من حقل ظهر، بينما لتحقيق الهدف الثاني وُقع اتفاق في العام ذاته بقيمة 15 مليار دولار لمدة 10 سنوات بين 3 شركات مصرية وإسرائيلية وأميركية لشراء الغاز الطبيعي من حقلي تمار وليفياثان الإسرائيليين، وتوريده إلى مصر لإعادة تصديره مرة أخرى بعد إسالته في محطتي إسالة الغاز بدمياط وإدكو.
وهو الاتفاق الذي وصفه رئيس الوزراء نتنياهو بأنه “يوم عيد” لأنه سيدر مليارات الدولارات للخزينة الإسرائيلية.
مخاطر
آنذاك حذرت بعض الأصوات من ربط السوق المحلي في مصر بما فيه من محطات كهرباء ومصانع أسمدة وإسمنت وغيرها من الصناعات الإستراتيجية بواردات الغاز الطبيعي من إسرائيل.
لكن وزير البترول المصري أكد أن الغاز المستورد من إسرائيل سيخصص للتصدير بعد إسالته دون وجود احتياج لاستهلاكه محليا، فيما طمأن الرئيس عبد الفتاح السيسي الشعب بعبارته المشهورة “جبنا جون يا مصريين في موضوع الغاز”.
عمليا، صدّرت مصر ما يعادل 270 ألف طن متري من الغاز فقط في عام 2020 الذي شهد انخفاضا في استهلاك الغاز بأوروبا على خلفية الإغلاق والانكماش الاقتصادي المصاحب لانتشار فيروس كورونا، ثم ارتفع حجم الصادرات إلى مليوني طن في عام 2021 مع بدء انتعاش الاقتصاد العالمي، ولكنها ظلت كمية محدودة مقارنة بالمأمول.
وناقشت الحكومة المصرية في عام 2021 عدة إجراءات لزيادة استهلاك الغاز محليا بدلا من المازوت والوقود المستورد، ومن أبرزها منع ترخيص أي سيارة جديدة إلا بعد تحويلها لتكون صالحة لاستخدام الغاز الطبيعي، فضلا عن مشروع لتحويل كافة المخابز التي تعمل بالسولار، والبالغ عددها 30 ألف مخبز، للعمل بالغاز الطبيعي.
حرب أوكرانيا
جاءت الحرب في أوكرانيا لتمثل هدية ذهبية لمصر وإسرائيل في ملف الغاز، حيث قررت الدول الأوروبية البحث عن بدائل للغاز الروسي الذي يمثل 40% من وارداتها الغازية.
سارعت الحكومة المصرية إلى تجميد مبادرة تحويل السيارات للعمل بالغاز، ومشروع تحويل المخابز للعمل بالغاز.
وضمن جهودها لتكثيف تصدير الغاز إلى أوروبا لجلب إيرادات بالعملة الصعبة، قررت في عام 2022 التوسع في استخدام المازوت والسولار لتشغيل محطات الكهرباء بدلا من الغاز بهدف تصدير 15% من الغاز المخصص لمحطات الكهرباء، وبالفعل صدرت مصر إلى أوروبا في عام 2022 ما يعادل 8 ملايين طن غاز، وهو ما جلب لها 8.4 مليارات دولار.
تلك الإيرادات الضخمة دفعت وزير البترول المصري طارق الملا للتصريح في عام 2022 بأن وزارته تعمل على رفع القدرة التصديرية القصوى إلى 12 مليون طن غاز سنويا بحلول عام 2025، وهو ما يتطلب زيادة واردات الغاز الإسرائيلية بهدف إسالته وتصديره.
وبالفعل وقّعت مصر مع إسرائيل والاتحاد الأوروبي في يونيو/حزيران الماضي اتفاقية لتصدير المزيد من الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا عبر منشآت إسالة الغاز المصرية، فيما تعهد الاتحاد الأوروبي بالمساعدة في تمويل تطوير البنية التحتية للطاقة بالدولتين.
أزمة مركبة
في عام 2022، أنتجت إسرائيل 21.9 مليار متر مكعب من الغاز حيث أنتج حقل ليفياثان 11.4 مليار متر مكعب فيما أنتج حقل تمار 10.2 مليارات متر مكعب، وصدرت إسرائيل 5.8 مليارات متر مكعب إلى مصر.
وقد أعلنت وزارة الطاقة الإسرائيلية في أغسطس/آب الماضي الاتفاق مع القاهرة على زيادة صادراتها إلى مصر بنسبة 31% اعتبارا من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وهو ما كان مفترضا أن يسد العجز في الغاز بالسوق المحلي المصري، والذي برز في منتصف العام الجاري مع تراجع إنتاج الغاز المصري من نحو 7 مليارات قدم مكعبة يوميا إلى 5 مليارات قدم مكعبة فقط.
وتزامن مع عزوف شركات الغاز الأجنبية عن التوسع في الاستثمار بعمليات تنقيب واستكشاف جديدة في ظل تراكم مستحقاتها لدى مصر بما يتراوح بين 3 إلى 3.5 مليارات دولار.
ومع اندلاع الحرب الحالية على غزة، طلبت وزارة الطاقة الإسرائيلية من شركة شيفرون المشغلة لحقل تمار الواقع على بعد 25 كيلومترا من غزة وقف الإنتاج، كما قررت وقف تدفق الغاز مؤقتًا عبر خط أنابيب غاز شرق المتوسط الذي يربط مدينة عسقلان الواقعة على بعد 13 كيلومترًا من شمال غزة بالعريش في شمال سيناء.
انعكست القرارات الإسرائيلية مباشرة على مصر، حيث أعلن سامح الخشن المتحدث الرسمي باسم رئاسة مجلس الوزراء في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي انخفاض حجم الغاز المستورد من 800 مليون قدم مكعبة غاز يوميا إلى صفر، مما أدى إلى انقطاع الكهرباء لمدة ساعتين يوميا في كافة محافظات مصر، فيما تصل الانقطاعات لـ4 ساعات في بعض القرى.
وصاحب ذلك تخفيض كميات الغاز الموردة لمصانع الإسمنت بنسبة 30%، وهو ما دفع السلطات المصرية للمرة الأولى لاستيراد شحنة غاز مسال من باكستان.
أمن الطاقة والماء
ورغم إشارة وكالة بلومبيرغ الشرق في 2 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري إلى ارتفاع واردات الغاز الإسرائيلي إلى مصر لنحو 350 مليون قدم مكعبة يوميا، فإن الكهرباء ما زالت تنقطع لمدة ساعتين يوميا في أنحاء مصر.
إن القرار الإسرائيلي بتصفير صادرات الغاز لمصر في وقت وجود أزمة بالسوق المحلي يوضح خطورة ربط أمن الطاقة المصري بالغاز الوارد من إسرائيل، وهو رهان يتوقع أن تزداد خطورته في حال استمرار نضوب الغاز المصري المنتج محليا، وهو ما تظهر مؤشراته مع تراجع إنتاج حقل ظهر من 2.76 مليار قدم مكعبة يوميا إلى 2.3 مليار قدم مكعبة، مع العلم أنه ينتج 38% من إجمالي إنتاج مصر للغاز.
وسيؤثر هذا سلبا على الصناعات الإستراتيجية كثيفة الاستهلاك للغاز مثل الإسمنت والأسمدة والألمونيوم، كما يؤثر على قدرات توليد الكهرباء، حيث يستهلكان على الترتيب 25% و57% من إجمالي استهلاك الغاز بمصر، فأي نقص في الغاز ينعكس سلبا على القطاع الصناعي وكافة الأنشطة الحياتية للمواطنين، مثلما يحدث حاليا مع انقطاع الكهرباء لساعتين يوميا على الأقل.
وضع حرج
عادة ما تربط الدولة أمنها للطاقة بدول صديقة أو محايدة، لأن الارتباط بدول يوجد معها تاريخ من العداء والخلافات، يتيح لتلك الدول ممارسة ضغوط سياسية واستخدام الإمداد بالطاقة أداة ابتزاز لتلبية مصالحها.
كذلك فإن اعتماد مصر على الغاز المستورد من إسرائيل للإسالة والتصدير للخارج، يربط مخطط مصر للتحول إلى مركز للطاقة بتل أبيب التي تبحث عن مصالحها الخاصة حيث تدرس حاليا مشاريع لبناء سفن لإسالة وتصدير الغاز مباشرة من حقول الاستخراج في البحر المتوسط إلى أوروبا، فضلا عن دراسة مشروع لبناء خط غاز مباشر بين إسرائيل واليونان وقبرص، وهو ما سيمثل حال تنفيذه تهديدا جوهريا للمصالح المصرية عبر إيجاد مسارات بديلة لتصدير الغاز.
إذا أضفنا ملف أمن الطاقة إلى ملف الأمن المائي الذي يتعرض لتهديدات وجودية على خلفية بناء سد النهضة الإثيوبي، فسنجد أن القاهرة في وضع حرج في الملفين، وهو ما يتطلب خطط إنقاذ عاجلة والبحث عن بدائل أكثر استدامة لتأمين احتياجات البلاد من مصادر طاقة ومياه دون الخضوع لابتزاز أو تقلب في المواقف من دول أخرى.