بدأ مؤخرًا عرض المسلسل التلفزيوني الأميركي “سقوط عائلة آشر” (The Fall of the House of Usher) على منصة “نتفليكس” الذي يتكون من 8 حلقات، ويخرجه ويشارك في تأليفه مايك فلاناغان الذي اشتهر بأفلام ومسلسلات الرعب الناجحة، ومنها “المُسْتَبْصِر” (Doctor Sleep) و”بيت التل المسكون” (The Haunting of Hill House).
يحمل المسلسل اسم واحدة من أشهر القصص الأميركية القصيرة التي كتبها الشاعر والقاص إدغار آلن بو في العام 1839، لكن على عكس ما توحي به هذه المعلومة لم يمثل المسلسل اقتباسًا صريحًا للقصة، بل اقتباسا من نوع خاص لأشهر أعمال الكاتب.
قصيدة في حب “بو”
تمثل معرفة تاريخ وأدب إدغار آلن بو مزية تزيد الاستمتاع بمسلسل “سقوط عائلة آشر”، إذ عاش الشاعر الأميركي بالقرن الـ19، ومزج طوال حياته بين الشاعرية والرعب، فتميزت عوالمه الأدبية بجو خاص من القتامة المختلطة بالحب والرومانسية، والتي استلهمها بالأساس من حياته الصعبة التي عاش جزءا كبيرا منها مع زوجته آنابيل لي التي توفيت في شبابها متأثرة بمرض في الرئة لم يستطع علاجها منه بسبب فقره الشديد، فكتب فيها قصيدة رثاء شديدة العذوبة.
تشبع الكاتب والمخرج مايك فلاناغان بتفاصيل هذا العالم الأدبي الخاص، وضفره بعناية في قصة مسلسلة شديدة العصرية، حملت كل حلقة من حلقاته اسم قصة من قصص بو الشهيرة، لتصبح مثل كلمة مفتاحية يستطيع المشاهد عبرها استنباط بعض من تفاصيل الحلقة القادمة.
تدور أحداث المسلسل في الفترة ما بين خمسينيات القرن الماضي والعام 2023، ونتعرف في الحلقة الأولى على العائلة الرأسمالية فاحشة الثراء وعلى رأسها رودريك آشر وأخته مادلين، وأبناؤه وبناته البالغ عددهم 6، ويحاول المدعي العام أوغستو دوبين إثبات تورط شركة العائلة المتخصصة بالصناعات الدوائية في موت ملايين حول العالم نتيجة للمسكن “ليغادون” المسبب للإدمان، وخلال المحاكمة يوحي المدعي العام بأن هناك خائنا في العائلة.
تنقلب الأسرة على بعضها، خصوصًا بعدما وضع رودريك آشر مكافأة قدرها 50 مليون دولار لمن يعرف من هو الواشي بين أبنائه، لكن قبل مضي بضعة أيام يتساقطون موتى بأفظع الطرق الممكنة واحدًا تلو الآخر. وفي محاولة أخيرة منه لإسكات ضميره، يأخذ المدعي العام دوبين إلى منزل العائلة المتهالك ويحكي له السبب الرئيسي وراء موت أولاده، وكيف ارتكب خطأ في الماضي تسبب في إنهاء نسله نهائيًا.
لم يستخدم المخرج والكاتب مايك فلاناغان أسماء قصص إدغار آلن بو فقط -أو حتى بعض تفاصيلها بل لغته الشعرية أيضًا، فنجد العديد من مقاطع قصائده على لسان الشخصيات المختلفة، أبرزها رودريك الأب والزوج السابق للمرأة الشديدة الطهر والبراءة آنابيل لي،التي تركته بعدما تيقنت من فساده.
ليظهر طوال الوقت “التناص” أو “التعالق النصي” -وهو مصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص-، بين عالم بو الأدبي وحياته الشخصية وبين تفاصيل المسلسل، ليتحول العمل التلفزيوني إلى ما يشبه قصيدة في حب الشاعر، وكل سطر كتبه، ويظهر مدى تشبع المخرج بهذا العالم الأدبي.
تجسيد العبرة الأخلاقية
حملت حلقات مسلسل “سقوط عائلة آشر” مصيرًا مرعبًا لكل فرد من أفراد هذه العائلة في تطبيق واضح لمفهوم العدالة الشاعرية في الدراما، لكن بصورة لا تجعل المشاهدين يتعاطفون مع هذه الشخصيات المحكوم عليها بمصائر مخيفة، بل على العكس أتت تلك النهايات كعاقبة أخلاقية مثالية لهؤلاء الأبناء الذين استغلوا نفوذ أسرتهم وأموالها في إيذاء كل من حولهم دون اهتمام بتأثيرات أفعالهم، ويحميهم محامي الأسرة آرثر بيم.
وأتى العقاب من جنس العمل بالنسبة لكل واحد منهم، فالابنة التي استغلت مرضاها لتجربة علاج جديد لأمراض القلب ماتت مطعونة في قلبها، والأخرى التي عاشت مزهوة بنسبها وقوتها قتلتها مرآة مهشمة تعكس نرجسيتها الشديدة، والابن الذي جعله شكه في زوجته يعذبها جسديًا نهش جسده منجل حاد، ليتطابق العقاب من الناحية البصرية والجسدية مع أفعالهم نفسها.
ومرة أخرى استلهم صناع المسلسل من قصص بو هذه الخاتمات المروعة للشخصيات، بداية من دفن الجدة حية، وحتى الجثة المخفية وراء الجدار، والقطة السوداء التي يجلب قتلها نتائج وبيلة على قاتلها، والمنجل المعلق من السقف.
“سقوط عائلة آشر” من تصوير مايكل فيمونياري الذي تعاون من فلاناغان من قبل في عدة أعمال سابقة، مما جعله اختياره الأول لإحياء قصص إدغار آلن بو، وقد استطاع عبر الإضاءة والمؤثرات البصرية إضفاء طابع من الرعب الكابوسي على المسلسل على الرغم من أحداثه التي تقع الوقت الحاضر.
أسهم التصوير في التمييز بين الخطوط الزمنية الأربعة التي ينتقل المسلسل بسلاسة بينها، ما بين طفولة رودريك وأخته في الخمسينيات، وشبابهما في الثمانينيات عندما ارتكبا جريمتهما الأولى، ثم الماضي القريب الذي مات فيه الأبناء وحتى الحاضر الذي يفضي فيه البطل بكل ما قام به للمدعي العام.
فريق التمثيل أيضًا كان له دور أساسي في استقطاب المشاهدين، وقد اختار فلاناغان بعض الذين تعاون معهم أكثر من مرة، ومنهم زوجته كيت سيغيل والمخضرمة كارلا جوغينو التي قدمت شخصية شديدة التعقيد، بالإضافة إلى مارك هاميل في دور المحامي آثر بيم، بينما قدم أدوار رودريك ومادلين 3 أطقم من الممثلين في المراحل العمرية الثلاثة التي مروا بها، مما استدعى حسن اختيارهم والاهتمام -ليس فقط بالتشابه في المظهر- ولكن أيضًا بإدارة هؤلاء الممثلين لتوضيح تطور الشخصية رغم احتفاظها بنفس السمات الداخلية والخارجية.
شوهد مسلسل “سقوط عائلة آشر” 6 ملايين مرة في الأسبوع الأول من عرضه، ذلك ما يجعله المسلسل غير الوثائقي باللغة الإنجليزية الأعلى مشاهدة على “نتفليكس” في هذا الأسبوع، وثالث أكثر عمل مشاهدة بعد مسلسل “لوبين” (Lupine) الفرنسي، ومسلسل “بيكهام” (Beckham) الوثائقي، وفي الأسبوع التالي أصبح ثاني مسلسل مشاهدة على “نتفليكس”، وقد حصل على تقييم 90% على موقع “روتن توماتوز” النقدي.