برلين- رغم أن جل المجالس والمراكز الإسلامية الألمانية تؤكد رفضها الإرهاب و”معاداة السامية” ووقوفها ضد كل أنواع الكراهية فإن ذلك لم يجنبها حملات كبيرة من الاتهامات من جهات ألمانية سياسية وإعلامية.
ويقف عدد من هذه الجهات عند كل كلمة تصدر في بيانات المراكز الإسلامية أو من قادتها للبحث عن ثغرات معينة يمكن من خلالها التشكيك في نيات هذه المؤسسات، وهو ما ظهر في الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة.
بدأ الأمر بضغوط كبيرة منذ إعلان حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عملية “طوفان الأقصى”، وسط مطالب واسعة من الطبقة السياسية الألمانية لهذه المجالس الإسلامية بإدانة سريعة وواضحة لحماس ولهجومها يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والاتساق مع الموقف الألماني الرسمي الذي يصنف الحركة في “دائرة الإرهاب”.
توجهت الأنظار بشكل كبير إلى المجلس الأعلى للمسلمين ورئيسه أيمن مزيك الذي يعد مخاطبا رئيسيا للسلطات الألمانية في ما يتعلق بالحوار مع المسلمين.
غضب كبير
ورغم أن المجلس الأعلى أدان في بيان له “هجوم حماس على المدنيين” فإن دعوته “جميع الأطراف إلى التوقف عن القتال بشكل فوري لمنع وقوع خسائر بين المدنيين” خلقت غضبا كبيرا في أوساط ألمانية إعلامية وسياسية، لدرجة أن منها من طالب الحكومة الفدرالية بعدم استضافة المجلس مجددا.
وتوحدت الأصوات المنتقدة لبيان المجلس بين يسار الوسط كالحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، وكذلك الأحزاب اليمينية، سواء المصنفة في الوسط أو اليمين الشعبوي.
وتفننت صحف موالية لإسرائيل في انتقاد المجلس، إضافة إلى أصوات شخصيات محسوبة على الإسلام الليبرالي، وهو تيار يروج لإسلام “منفتح” يتماهى مع توجهات السياسة الألمانية.
وطالت الانتقادات كذلك الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية (ديتيب) الفاعل في ألمانيا، وهو الذي أدان “إطلاق حماس الصواريخ، والعنف ضد المدنيين” وناشد كل الأطراف وقف “العنف”، لكن ذلك لم يشفع له أمام الانتقادات التي لم تتوقف رغم وقوع آلاف الضحايا المدنيين في غزة.
ويشير الأمين العام للمجلس الأعلى للمسلمين عبد الصمد اليزيدي في حديث للجزيرة نت إلى “أصوات تحاول الضغط على المجلس ووضعه في خانة التطرف تارة، وأحيانا في خانة معاداة السامية، وذلك لأسباب لها علاقة بالدرجة الأولى بكراهية الإسلام والمسلمين والعداء لهم داخل المجتمع الألماني”.
اتهامات مجانية
ويضيف اليزيدي أن هذه الضغوط تأتي كذلك من هيئات رسمية أُسست لحماية المواطن الألماني، لكنها باتت تشكل خطرا عليه باتهامات مجانية للمسلمين ومؤسساتهم في البلاد، لافتا إلى وجود دوائر في ألمانيا “تشتغل لتشويه صورة المسلمين بدافع العداء للإسلام، لكنها تغطي ذلك بنقد مزعوم لعمل المؤسسات الإسلامية”.
ويوضح “عدد من هؤلاء يصورون أنفسهم مدافعين عن حق اليهود، لكن ذلك مجرد مناورة لتغطية عدائهم للمسلمين، فمن يدافع عن حق مجموعة دينية لن يقوم بذلك على حساب مجموعة دينية أخرى”.
ويضيف اليزيدي أن المجلس الأعلى للمسلمين قد تحدث في آخر بياناته عن “عقاب جماعي للمدنيين في غزة، وأن قصف المدنيين الأبرياء في القطاع تعدى كل الحدود”.
وبعد هجوم حماس كتب وزير الزراعة والغذاء الألماني جيم أوزديمير “صمت مدوٍ من الجمعيات الإسلامية بشأن الإرهاب ضد إسرائيل أو حتى كتابة كلمات ذات طابع نسبي”، مضيفا “يجب إنهاء السذاجة في التعامل مع الجمعيات الإسلامية”.
واستغل الوزير الظرف لتصفية حسابات مع الهيئات الإسلامية رغم انتمائه إلى حزب الخضر الذي ينادي بالتعايش، وهو ما رد عليه الأمين العام للمنظمة الإسلامية التركية “الرؤية الوطنية” علي ميتة بالقول “كمجتمع إسلامي نقول إن الجرائم يجب العقاب عليها أيا كان من يرتكبها”.
وأضاف ميتة “من الخطأ اتهام المسلمين في ألمانيا بالتورط في الجرائم التي تحدث في إسرائيل وفلسطين”.
ويركز الإعلام الألماني على موضوعي “معاداة السامية” والتنديد بحماس في استضافة شخصيات إسلامية، وهو ما ظهر في مقابلة قناة “زد دي إف” مع أيمن مزيك في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الحالي.
علاقة بالغة الحساسية
ورغم تأكيد رئيس المجلس الأعلى للمسلمين أيمن مزيك مرارا في لقاءات متعددة على تنديد المجلس بمعاداة السامية فإن السؤال يتكرر دوما مع ربطه هذه المرة بمظاهرات مساندة للفلسطينيين رغم أن عددا كبيرا منها يمر بشكل سلمي، شأنها شأن مظاهرات عديدة عبر العالم.
وإصرار المجلس على التنديد بـ”معاداة السامية” في كل وقت قد يظهر كما لو أنه محاولة منه لتقليل الضغوط عنه، خصوصا مع تعدد الهجمات عليه.
لكن اليزيدي يوضح أن المجلس عندما “يتحدث عن تأمين عيش اليهود في ألمانيا فهو يصرح بذلك عن قناعة وانطلاقا من تعاليمنا الدينية التي تؤسس لاحترام الآخر”.
من جانبه، يقول الباحث في قضايا الهجرة والثقافة والدين محمد عسيلة “لا بد من استحضار السياق التاريخي لألمانيا بحكم علاقتها بالغة الحساسية بإسرائيل، لكن هناك عوامل أخرى، منها قوة اللوبيات الضاغطة في ألمانيا وأوروبا، وتوفرها على ترسانة إعلامية كبيرة تؤثر في الرأي العام الألماني في ما يخص إسرائيل”.
ويضيف عسيلة للجزيرة نت “لذلك نرى تناقضا بين بنود الدستور الألماني الذي ينص على حرية الرأي والتعبير وبين التضييق على هذه الحريات المحفوظة دستوريا، ومن ذلك الضغط الإعلامي على المواطنين الألمان المسلمين والمؤسسات الإسلامية، إضافة إلى ضغوطات سياسية وحكومية حتى لو تعلق الأمر بالتنديد بمقتل الأبرياء أينما كانوا وحلّوا وارتحلوا”.
ويؤكد مسؤولون ألمان كثر -منهم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل– أن الإسلام ينتمي إلى ألمانيا التي يعتنق حوالي 6.7% من سكانها الإسلام، لكن ذلك لم ينعكس إيجابيا على أحوالهم، وسط ضعف تمثيلهم في الأحزاب والمؤسسات الألمانية، ثم ما أكده تقرير رسمي أشرفت عليه وزارة الداخلية الألمانية كون نصف الألمان يعادون المسلمين.
لذلك، تواجه المراكز الإسلامية تحديا في دعم القضية الفلسطينية، ويقترح عسيلة عليها “عدم المجازفة، والتعامل بذكاء، ومن ذلك البحث عن تحالفات مع المراكز اليهودية التي تؤكد على القيم الإنسانية وترفض كل السياسات والمقاربات المبنية على العنف والتطرف”، حسب رأيه.
ويرى أن التنسيق كذلك مع الأصوات الألمانية المستقلة والهيئات الحقوقية الإنسانية والفكرية والأدبية والقانونية، وتفهّم العلاقة الألمانية الخاصة مع اليهود سيتيحان لهذه المراكز التحرك بشكل أكبر، لكن مشاكل تعترض هذه الهيئات الإسلامية، منها تعددها وضعف تمثيلها للمسلمين في ألمانيا.
ويقول عسيلة إن “بعض هذه المؤسسات غير فعالة، وحضورها ضعيف وغير مؤثر، كما لا تتوفر على متحدثين سياسيين وإعلاميين مؤثرين، وقد ركزت في عملها على الشأن الروحي دون المساهمة في النقاش السياسي أو الحراك المجتمعي بما يدافع عن قضايا المسلمين كجزء من النسيج الألماني”.
من جهته، يقول اليزيدي “بدل أن نتهم دوما الآخرين علينا كذلك أن نقر بأن مسلمين كثرا في ألمانيا لا يهتمون بالانضمام إلى التجمعات الإسلامية ولا حتى بالمشاركة السياسية عموما، لذلك صوتهم منخفض في ألمانيا، ولا يمكن أن تقوم الهيئات الإسلامية بعمل أكبر إلا بدعم المسلمين في البلاد لها والعمل من داخلها وتقويتها وحتى تصحيح اختلالاتها”.