“أحد آباء الأدب الجزائري الحديث”.. وفاة الناقد الكبير عبد الملك مرتاض

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

توفي الناقد والباحث الجزائري عبد الملك مرتاض عن عمر يناهز 88 عاما يوم الجمعة الماضي بعد صراع طويل مع المرض، ونعاه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون على منصة “إكس”، واصفا إياه بأنه كان “أحد أعمدة اللغة العربية في الجزائر ومربي الأجيال. رحل الرجل ويبقى الأثر”.

ويعدّ مرتاض أحد الوجوه البارزة في المشهد الثقافي العربي، إذ أسهم في إثراء المكتبة العربية بمؤلفات نقدية ودراسات لغوية وأعمال إبداعية في غاية الأهمية.

المولد والتعليم الأولى

ولد عبد الملك مرتاض في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول 1935 في بلدية مسيردة العليا بولاية تلمسان غربي الجزائر، وفيها تعلم القراءة والكتابة وأصول اللغة العربية، قبل أن ينتقل إلى المغرب حيث درس المرحلة الابتدائية في وقت كان فيه الاحتلال الفرنسي يمنع تعليم الجزائريين.

في سنة 1954 عاد مرتاض إلى الجزائر ليلتحق بمعهد ابن باديس بقسنطينة قبل أشهر قليلة من اندلاع الثورة الجزائرية، التي كانت سببا في إغلاق السلطات الفرنسية المعهد، مما اضطره للعودة إلى المغرب حيث التحق عام 1955 بجامعة القرويين، قبل تعيينه في العام التالي مدرِسا في مدرسة ابتدائية في مدينة أحفير المغربية.

وفي 1963 حصل على شهادة الإجازة من كلية الآداب في جامعة الرباط، قبل أن يتخرج في العام نفسه من المدرسة العليا للأساتذة.

المناصب والوظائف

بعد عودته مجددا إلى الجزائر عام 1963، عُين عبد الملك مرتاض مدرّسا للأدب العربي في ثانوية ابن باديس، ثم مدرسا للأدب العربي في جامعة وهران بعد حصوله عام 1970 على شهادة دكتوراه الطور الثالث في الآداب من جامعة الجزائر عن رسالته “فن المقامات في الأدب العربي”، وهي أول درجة علمية تمنحها الجامعة الجزائرية بعد الاستقلال، قبل أن ينال شهادة دكتوراه دولة في الأدب بمرتبة الشرف من جامعة السوربون الثالثة في فرنسا.

تقلد عبد الملك مرتاض عدة مناصب وطنيا وعربيا، إذ عُيّن مديرا لمعهد اللغة العربية وآدابها لدى استحداثه أول مرة في جامعة وهران عام 1974، ثم نائبا لمدير الجامعة بين عامي 1980 و1983، بالتزامن مع توليه منصبَ مدير الثقافة والإعلام لولاية وهران الذي شغله إلى غاية عام 1986، وهو العام الذي رُقيّ فيه إلى درجة بروفيسور.

شغل مرتاض منصب رئيس المجلس العلمي بمعهد اللغة العربية وآدابها بين عامي 1986 و1998، ثم عيّن رئيسا للمجلس الأعلى للغة العربية، وتقلد عضوية المجلس الإسلامي الأعلى، وهي هيئة دستورية تابعة لرئاسة الجمهورية الجزائرية.

أما عربيا فقد انتخب الدكتور عبد الملك مرتاض عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بدمشق عام 2002، وشغل قبل ذلك عضوية الهيئة الاستشارية لمجلة كتابات معاصرة في بيروت، وعضوية الهيئة الاستشارية لمجلة “أصوات” بصنعاء، بالإضافة إلى عضوية الهيئة الاستشارية لمؤسسة البابطين للإبداع الشعري في الكويت. كما كان عضوا ضمن لجنة تحكيم مسابقة أمير الشعراء التي تقام سنويا في أبو ظبي.

أسس مرتاض عدة مجلات، وشغل منصب رئيس تحريرها على غرار مجلة “دراسات جزائرية” ومجلة “اللغة العربية” التي يصدرها المجلس الأعلى للغة العربية، بالإضافة إلى مجلة “الحداثة” التي يصدرها معهد اللغة العربية وآدابها في جامعة وهران، وله عشرات الكتب في النقد من بينها: “القصّة الجزائرية المعاصرة”، و”فن المقامات في الأدب العربي”، و”في نظرية الرواية.. بحث في تقنيات السرد”، و”بنية الخطاب الشعري”، و”الثقافة العربية في الجزائر بين التأثير والتأثر”، بالإضافة إلى أعمال روائية نذكر منها “دماء ودموع” و”صوت الكهف” و”حيزيّة”، ومجموعة قصصية بعنوان “هشيم الزمن”.

آباء الأدب الجزائري الحديث

ويقول البروفيسور أحسن تليلاني إن عبد الملك مرتاض قامة أدبية وثقافية سامقة جدا، فهو واحد من أهم آباء الأدب الجزائري الحديث الذين بفضلهم تأسس وجود هذا الأدب، فتجلى في كتاباتهم ودراساتهم، وهؤلاء الآباء الستة هم الدكاترة: صالح خرفي، ومحمد مصايف، وأبو القاسم سعد الله، ومحمد ناصر، وعبد الله الركيبي، وعبد الملك مرتاض.

ويضيف تليلاني، الأستاذ الجامعي المختص في الأدب الجزائري، للجزيرة نت “إذا كان لكل واحد من آباء أدبنا الجزائري جهوده وأفضاله التي قد نتفق أو نختلف بشأنها، فإن المتابعين للشأن الثقافي والأدبي الجزائري يجمعون على أهمية الجهود التي بذلها أستاذنا المرحوم الدكتور عبد الملك مرتاض من حيث كونه ناقدا ألمعيا، وباحثا حصيفا، وروائيا مقتدرا، قدم للمكتبة الجزائرية والعربية أكثر من 40 كتابا تعد مصادر مهمة جدا لأدبنا الجزائري والعربي عامة”.

ويؤكد تليلاني أن الراحل مرتاض نموذج المثقف الجزائري الأكاديمي الذي انتزع اعتراف كل النقاد والمثقفين الجزائريين والعرب، “بل تفوق عليهم بعلمه الغزير، وامتلاكه ناصية اللغة العربية امتلاكا عجيبا يذكرني بهمة الشيخ البشير الإبراهيمي، وهضمه لكل آثار الأولين من تراث العرب شعرا ونثرا، إضافة إلى إحاطته التامة بكل المدارس النقدية في أوروبا، مما جعله صاحب مشروع نقدي خاص به لم يطاوله فيه أحد. وما يعجبك فيه تواضعه الجم وأخلاقه العالية”.

ويختم تليلاني حديثه بالقول “لقد رحل أستاذنا عبد الملك مرتاض تاركا لنا آثارا جمة من المؤلفات والكتب القيمة جدا، كما ترك عشرات الطلبة والباحثين من الذين أشرف على بحوثهم وتأثروا بفكره ومنهجه، وترك أيضا مواقف تشرف مساره كمثقف أصيل وعالم جليل، ومن رحل تاركا كل هذا الرصيد هو في الحقيقة لم يمت، بل إنه سيعيش بيننا ومعنا وفي جامعاتنا وبين طلابنا”.

مدرسة نقدية ولغوية مستقلة بذاتها

من جهته اعتبر الأكاديمي والناقد الجزائري لونيس بن علي أن رحيل عبد المالك مرتاض خسارة للساحة النقدية العربية، فهو آخر الأساتذة الموسوعيين بالنظر إلى تعدد اختصاصاته.

أستاذ الأدب المقارن بجامعة بجاية لونيس بن علي

ويضف بن علي -أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن بجامعة بجاية- في حديث للجزيرة نت “لقد ألف مرتاض في كل حقول الأدب واللغة، وكتاباته تمثل مصادر لا مراجع، وكوّن أجيالا من أساتذة الجامعة والباحثين والكتّاب إما على نحو مباشر، وإما من خلال مؤلفاته الغزيرة. كما أن مرتاض أديب، له روايات أدبية، ولو أنّي شخصيا أجده في النقد أكثر قوة وإقناعا منه في الأدب”.

وتابع “ما يعجبني شخصيا في كتابات مرتاض هو اللغة النقدية التي كتب بها مؤلفاته، فهي لغة أخذت الكثير من فصاحة التراث وغريب لفظه، ونجح في تكييفها بمتطلبات الدرس النقدي المعاصر، وعلى الرغم من أنه من الذين كتبوا في مناهج النقد الغربية، فإن أسلوبه كان واضحا في نحت المصطلحات واقتراحها لتكون مختلفة عما يتداوله النقاد لاسيما المشرقيين منهم”.

وأعرب لونيس بن علي عن أمنيته في أن يعاد نشر كل مؤلفات مرتاض في كتاب جامع لأنّه “ليس مجرد ناقد أو دارس للأدب واللغة، بل هو مدرسة نقدية ولغوية مستقلة بذاتها”.

وعي نقدي

ومن جهته، قال الناقد عبد القادر فيدوح إن “الحديث عن مكانة عبد الملك مرتاض في الوعي الثقافي العربي والإنتاج الأدبي والنقدي طويل سلَّمه، عميق مرامه، دقيق سؤاله، غني في تجاربه، راسخ في أصالته، ماجد في هويته، متجذر في إنسانيته. وفوق ذلك سوف يبقى إنتاجه الغزير معبرًا عن مكانته العلمية، ماكثا في الوعي الفكري والنقدي، على مر العصور، مثل الأعمال الخالدة في ثباتها”.

الناقد والأكاديمي عبد القادر فيدوح (مواقع التواصل)

وأردف في حديثه للجزيرة نت “إذا كنت قد بدأت بما يستوجبه علي ضميري في حق أستاذنا، المغفور له بإذن الله، بهذا الطرح، فلأنني من الجيل الثاني بعد استقلال الجزائر الذين رأوا في أستاذنا عبد الملك مرتاض تواضع العلماء في عطائهم الفكري المستنير، والباحث النيِّر، والمفكر الجاد، والعالم الخبير، والمجدد المتقِن؛ لذلك آليت على نفسي أن أقوم بواجب ما تمليه علي علاقتي به، وفي كل مرة أحاول فيها تلبية الضمير تقودني ذاكرة كلماتي إلى مذكرة أخرى تنبئني بحفر جديد في بئر يفيض منها عبد الملك مرتاض بماء رَوِيٍّ، وبما جادت به خبراته وأفكاره النيرة، وفي كل حين يتخذ نهجًا جديدًا بذاكرة جديدة، ورؤية حصيفة تُبلِج المألوف”.

ويتابع “هكذا يتجدد نشاطه في كل مرة بمظهر من مظاهر التحرر في أعماق تجلياته، وهو ما أجمعت في حقه مختلف التلقيات التي نعرفها عنه، وانتقيناها من مصادرها، وبالتحديد فيما يتعلق بالرؤية الفكرية وملحمية الحس التأملي في تجربته مع المتلقي”.

ويسترسل الناقد فيدوح “يشكل الوجدان الأصيل عند عبد الملك مرتاض مرجعية فنية ومعرفية، يستمد منها المثقف والأديب معينه الفني والوطني، ومواجهة النواقص الاجتماعية، ومجابهة المتناقضات الأيديولوجية، واستنهاض الهمم المحلية والعربية، والمسعى إلى طلب التجديد، والعمل على تنوير الفكر، والرغبة في إصلاح الخلل الاجتماعي، من خلال رواياته على وجه الخصوص. وبتنوع الموضوعات والأغراض، يمتد مسعى عبد الملك مرتاض ليشمل طموحات المواطن الجزائري، الأمر الذي يعكس فخره بانتمائه لوطنه، مما جعل أرضيـته الأدبية فضاء خصبًا وامتدادًا حقيقيا للأدب الجزائري ـ خصوصاـ شكلا ومضمونا”.

ويعتبر فيدوح أن التجربة الإبداعية عند مرتاض كانت صوتا للمجتمع، إذ “إن ارتباط عبد الملك مرتاض بهموم المواطنة هو في صميم الارتباط الوجداني، فكما شكل الواقع الجزائري ـمنذ الاستقلال حتى نهاية السبعينيات من القرن العشرين- مادة للامتصاص الأدبي، كذلك تحولت التجربة الإبداعية لديه صوتا للمجتمع، وقد نلمس هذا الاتجاه بوضوح في إنتاجه الفني الذي يكاد يكون وقفًا على تلك الموضوعات في أسلوب يغلب عليه طابع التأسيس للأدب الجزائري الحديث، رغبة في تحفيز العزم القوي، وعلو همم الأديب الجزائري الواعد، تباعًا”.

لقد كان وعي عبد الملك مرتاض -حسب فيدوح- بكثافة تاريخ الجزائر وإلمامه بالواقع دافعا جوهريا لتفجير الوجدان المحلي والوجدان العربي في كتاباته، و”إذا أضفنا إلى ذلك طريقة تصوره الأحداث والمواقف بلغته العذبة، فإن موضوعاته كانت تتحصن بالمضمون الفكري المطعم بالثقافة الأصيلة، وهو توجه قد يبدو للبعض أيديولوجيا، غير أنه في منظورنا توجه إنساني جعل من الهوية، والوجدان العربي، والوجدان المحلي، تمثلا أعلى لوجدان الإنسان العربي، وانتصاره على اليأس والخيبة والغربة النفسية”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *