“سلام أميركي بلا أرض”.. عندما فتح إدوارد سعيد النار على أوسلو والسلطة الفلسطينية

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

رغم أن المفكر الفلسطيني-الأميركي إدوارد سعيد (1935-2003) كان من أوائل المؤيدين لحل الدولتين وصوّت سنة 1988 لصالح إقامة دولة فلسطين -في جلسة المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر الذي كان عضوا فيه بين 1977 و1991-، وشارك بنفسه مع الشاعر الراحل محمود درويش في صياغة “وثيقة إعلان دولة فلسطين” لكنه استقال من المجلس 1991 احتجاجا على اتفاقية أوسلو وشروطها التي رآها غير مقبولة.

ندد سعيد باتفاقية أوسلو 1993 في كتابه “سلام بلا أرض” متنبئا بأنها “لن تقود إلى إقامة دولة فلسطينية حقيقية”، واعتبر أن منظمة التحرير الفلسطينية “حولت نفسها من حركة تحرر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الحفنة من الأشخاص في القيادة”، وفي المقابل حظرت السلطة بيع كتبه في أراضيها عام 1995 لكن العلاقات تحسنت بعد سنوات قليلة خاصة بعد إشادة سعيد برفض عرفات توقيع أي اتفاقية في كامب ديفيد عام 2000، وانتهاء القمة دون اتفاق.

كتاب “أوسلو 2.. سلام بلا أرض” جاء تكملة لكتابه “غزة -أريحا: سلام أميركي” الصادر عن دار المستقبل العربي وعبر فيه أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا عن مجمل انتقاداته لاتفاق أوسلو، ملقيا باللائمة على من سماهم “الفلسطينيين المتعقلين” ومزاج اليأس والاستسلام السائد في أوساطهم وشعورهم بالعجز التام كما تلخص ذلك مقولات مثل “ليس ثمة بديل آخر”.

وكان سعيد -المولود في القدس والمتوفي في نيويورك- ناشطا وباحثا ومؤلفا وناقدا أدبيا وموسيقيا، وتعامل جل طلاب العلوم الإنسانية في الولايات المتحدة مع إرثه، ومهد كتابه “الاستشراق” الطريق لثورة في دراسة الأدب والتاريخ والسياسة.

مشروعية النقد

ويقول الباحث في الأدب الاستعماري ودارس ميشيل فوكو وجاك دريدا إنه من غير المنطقي القول بأنه ليس هناك بديل لأشياء مثل انعدام الكفاءة والدكتاتورية، فالبدائل معروفة، لكن شعور “أنصار الوضع القائم والسلطة الفلسطينية بالحاجة إلى الرد على مقالات أمثالي من الجالسين في لندن ونيويورك، بل واعترافهم في ردودهم بتفشي ظواهر انعدام الكفاءة والتسلط، لهو برهان أكيد على أن عملية النقد تشكل مساهمة فعلية”.

ويرى في مقدمة كتاب “أوسلو 2.. سلام بلا أرض” أنه عندما ينشأ وضع ما يسمح لشخص واحد بالإمساك بكافة مقاليد الأمور وتسييرها على هواه، فهناك دوما مجال للجهر بأن هذه دكتاتورية سافرة، مضيفا أن الاعتراف العلني بذلك من قبل عدد متزايد من الناس الآن يبرهن على صحة الانتقاد والحاجة إليه، فلا معنى -بحسب سعيد- لتضامن مع القضية الفلسطينية قبل أن يسبقه النقد ويصاحبه “أن الكل معرض للخطأ حتى ياسر عرفات”.

وتزداد أهمية الدور الذي يلعبه النقد والتذكير بالنواقص في غياب نظام قانوني أو دستوري متكامل، ولا يصح هذا الأمر في حالة غزة والضفة الغربية فحسب، بل ينطبق أيضا على أي مكان في العالم العربي، كما يقول المفكر الفلسطيني-الأميركي الذي يرى نقد السلطة واجبا أخلاقيا بينما الصمت والانصياع أو اللامبالاة أمور تنم عن انعدام الحس الأخلاقي.

والذي يزيد الطين بلة، كما يرى الأكاديمي الراحل، هو نجاح السلطة الفلسطينية في إخضاع أو إجبار غالبية منتقديها على التخلي عن الشكوى أو التنظيم، إذ تشير تركيبة السلطة إلى أن “عرفات تمكن من شراء أو إخافة غالبية معارضيه. فهاهي الشخصيات التي كانت تبدو مستقلة قبل بضعة أشهر، تأتي إلى مكتبه حاملة العرائض، أو تجلس في الصفوف الأمامية لتصفق له عاليا. وعرفات بالطبع عبقري في توظيف المصالح الشخصية والقوة التي توفرها له أجهزته الأمنية لكي يعطي الانطباع أن الجميع يسانده” كما قال.

ويستطرد سعيد -الذي صدرت حديثا سيرته بعنوان “أمكنة العقل”- فيقول إنه لا أحد يجرؤ على الجهر بالقول بأن “السلطة الفلسطينية في عمقها تتسم ببعض سمات المافيا، حيث يقوم عديد من رجال السلطة بعقد مختلف أنواع الصفقات التي تعود بالنفع على الحلقة الضيقة من رجال عرفات وخبرائه وهو أمر يستبعد بالضرورة أصحاب الكفاءة والشرفاء”.

“جوهر القضية”

تتسق كتابات المفكر الفلسطيني مع مفهومه عن الصراع في فلسطين، فهو برأيه “حرب تصورات وأفكار” بقدر ما هو مسألة تتعلق بالسياسة والسياسات.

ويرى سعيد -الذي عاش طفولته بين القدس والقاهرة قبل مصادرة أملاك عائلته وتحولهم للاجئين- أن مصير اللاجئين الذين أجبرتهم إسرائيل على المغادرة في عام 1948 هو “جوهر القضية الفلسطينية، فقد قامت الحركة الصهيونية منذ بداية القرن إلى الآن، بكل ما في وسعها لضمان بقاء غالبية الفلسطينيين خارج وطنهم. أما أولئك الذين تمكنو من البقاء في الداخل، فقد سعت لتقليص وجودهم السياسي للحد الأدنى”.

ويرى المفكر -الذي توفي بعد عشرة أعوام من الصراع مع مرض اللوكيميا (سرطان الدم) سنة 2003- أن المضي في أسلوب التفاوض الفلسطيني الذي يتسم بسوء التنظيم والافتقار إلى خبراء حقيقيين ومعلومات دقيقة (من بينها خرائط موثوقة وإحصاءات ومعرفة دقيقة بالتغييرات التي قامت بها إسرائيل على الأرض منذ 1948 و1967) يعني تكرار نفس الأخطاء، مؤكدا عدم قدرة عرفات ومن سماهم “الحلقة الضيقة من الموالين له” على التعامل مع التعقيدات الشديدة للوضع الفلسطيني في شموله.

ويعتبر سعيد -الذي عمل أستاذا زائرا للأدب المقارن في جامعة هارفرد- قبول الفلسطينيين بنصيحة من سماهم “إستراتيجيي الأمر الواقع” بمثابة خسارة مفاوضات الوضع النهائي قبل دخولها، ويردف “نحن فلسطينيو الشتات نحتاج للنهوض من سباتنا لأن السلطة المنشغلة بإدارة الحكم الذاتي والاحتلال الإسرائيلي لا تستطيع الاهتمام بمصالحنا” كما أنها لا تمثل الفلسطينيين في بيروت وعمان ودمشق وأوروبا وأميركا الشمالية رغم النفوذ الفكري والسياسي والاقتصادي والأخلاقي لدى أهل الشتات، كما أشار سعيد.

ويضع المؤلف الراحل خطة للحل مشيرا لضرورة إحصاء عدد الفلسطينين في الخارج وما خسروه من الممتلكات وإصلاح المجلس الوطني الفلسطيني وممارسة نشاطه عبر معايير الكفاءة والتمثيل الديمغرافي، وبناء مؤسسة تجمع أفضل العقول العملية والتقنية تضم خبرات حقيقية، وتكون المهمة من وراء ذلك كله وضع منظومة من المبادئ لا تراجع عنها ولا مساومة حولها.

ويتعرض سعيد -الذي خدم والده في الحرب العالمية الأولى في فرنسا ضمن القوات الأميركية- لموقف العديد من المثقفين الذين يضمنون بقاء السلطة بعيدة عن أية مساءلة رافعين شعار “دع القيادة تفعل ما يحلو لها” منتقدا ما سماه “الأفكار الرنانة عن البراغماتية والواقعية التي يطلقها دفاعا عن عملية السلام كبار المفكرين والإستراتيجيين العرب في عمان أو القاهرة، لأنها لا تعدو أن تكون ترديدا معيبا لأيديولوجية سائدة، يقوم بصياغتها وترويجها العديد من مثقفي الطبقة الوسطى، الذين يستخدمهم الطغاة في كافة أنحاء العالم كخبراء لتبرير استمرارهم في تخريب بلادهم عن طريق العنف والفساد”.

التعويضات

ويقول سعيد -صاحب كتب “القضية الفلسطينية” (1979) و”سياسة التجريد” (1994) و”نهاية عملية السلام” (2000)- إن عرفات بدا لا مباليا بمبدأ المساءلة من قبل الشعب الفلسطيني واستند “لسيطرة شعور السلبية والهزيمة على أبناء شعبه، وهو الشعور الذي أسهم هو إلى حد بعيد في خلقه” مشيرا لاستحالة أن يستطيع شخص واحد استيعاب كل تفاصيل 400 صفحة من التعقيدات القانونية.

ويعتبر سعيد -الذي شارك في تأسيس “المبادرة الوطنية الفلسطينية” لتكون قوة ثالثة منافسة لفتح وحماس- أن قضية التعويضات لم يهتم الفريق الفلسطيني المفاوض بإثارتها.

ونوه إلى ضرورة قيام هيئة فلسطينية بجمع المعلومات والإحصاءات عما تم خلال أعوام 1948 و1967 وصولا إلى منتصف التسعينيات “حيث لم تكتف إسرائيل خلال هذه الأعوام بسرقة وتدمير الممتلكات بل وخططت عمدا للتخلف التنموي للفلسطينيين وليس من تعامل فاعل مع النزف الذي يبدو بلا نهاية لمواردنا (وهي عملية لم توقفها السلطة بل فاقمت منها) إلا عن طريق علماء في الاقتصاد السياسي، يخضعون للمساءلة، من مجلس تمثيلي منتخب”.

إن الفريق المفاوض، كما كتب سعيد، ينبغي أن يمثل المصالح الوطنية لكافة الفلسطينيين (وليس المصالح البلدية أو المحلية) في مفاوضات تلتزم بوقف أي تنازلات حول قضايا المستوطنات والسيادة والموارد المائية والطبيعية وحق الدخول والخروج والقدس مع ضمانات ضد تصرفات إسرائيل الخارقة عن القانون، مشددا “اللاتفاوض أفضل من تقديم تنازلات لا نهاية لها، الأمر الذي ينتهي بإدامة الاحتلال الإسرائيلي”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *