شكّل إطلاق القمر الاصطناعي السوفياتي الأول “سبوتنك-1” عام 1957 بداية حقبة جديدة لغزو الفضاء، استطاع الإنسان بعدها إرسال الآلاف منها في مجال الاتصالات ومراقبة الأرض والملاحة والأبحاث العلمية، وإلى عشرات المركبات الفضائية والمستكشفات الروبوتية والمراصد الفلكية لاستكشاف الكواكب والكويكبات والأجرام السماوية الأخرى، وسبر أعماق الكون، وبناء محطات فضائية عائمة في الفضاء مأهولة بالبشر.
وساهمت هذه الاكتشافات في تطوير فهمنا للكون، وإجراء دراسات معمقة في الفضاء بهدف تحسين حياتنا على الأرض، كما أسهمت آلاف الأقمار الاصطناعية التي تدور حول الأرض في تحقيق قفزة هائلة في تقنيات الاتصال، وتسريع التحول الرقمي وتحسين تقنيات الاستشعار عن بعد لتجنب الكوارث البيئية والمناخية التي تواجه كوكبنا.
غير أنه، وعلى نحو مماثل لما خلفته الأنشطة البشرية من ملوثات ونفايات من أعمق نقطة في المحيطات إلى أعلى مستوى في الغلاف الجوي، على كوكب الأرض، أرسلت آلاف المخلفات إلى الفضاء -بفعل النشاط البشري خارج الغلاف الجوي- وباتت تشكل خطرا محتملا في حال سقوطها على الأرض أو اصطدامها بأجسام صناعية أخرى في الفضاء.
وفي خطوة هي الأولى من نوعها منذ بدء غزو الفضاء قبل أكثر من 6 عقود، فرضت لجنة الاتصالات الفدرالية الأميركية مؤخرا غرامة قدرها 150 ألف دولار على شركة “ديش نيتورك” بسبب تركها مخلفات في الفضاء الخارجي.
ووجد تحقيق لجنة الاتصالات الفدرالية أن هذه الشركة قد انتهكت قانون الاتصالات وشروط الترخيص بالتخلص من القمر الاصطناعي “إيكو ستار-7” بعد انتهاء مهمته، في مدار أقل بكثير من الارتفاع الذي تتطلبه شروط ترخيصه، مما يمكن أن يثير مخاوف بشأن الحطام المداري على مثل هذا الارتفاع المنخفض.
ما المخلفات الفضائية وكيف تنشأ؟
المخلفات الفضائية أو الحطام المداري هي “النفايات” التي تدور حول كوكب الأرض والتي يتركها البشر في الفضاء.
ويمكن أن تكون هذه المخلفات الفضائية أقمارا اصطناعية معطلة أو متروكة بعد انتهاء مهمتها، أو ناتجة عن انفجار الأجسام المرسلة إلى الفضاء، مثل مخلفات المراحل العليا للصواريخ التي تحمل المركبات الفضائية والأقمار الاصطناعية إلى المدار الخارجي، كما يمكن أن ينتج بعض الحطام الفضائي عن اصطدام الأقمار الاصطناعية ببعضها البعض، أو انفصال بعض أجزاء المركبات الفضائية أثناء إقلاعها أو هبوطها.
وتختبر العديد من الدول -بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والهند- استخدام صواريخ للتدرب على تفجير أقمارها الاصطناعية، وهو ما يولد آلاف القطع الجديدة من الحطام الفضائي الخطير.
كما تُركت بعض المخلفات الفضائية من المركبات المأهولة والروبوتات المستكشفة على سطح القمر أيضا.
وتدور معظم الأقمار الاصطناعية العلمية، المخصصة لمراقبة الأرض في المدار الأرضي المنخفض، على ارتفاع 160 إلى ألفي كيلومتر تقريباً، وبالمقارنة فإن معظم الطائرات التجارية تحلق على ارتفاعات لا تتجاوز 14 كيلومترا تقريبا، لذلك فإن هذا المجال في أدنى مستوياته يكون بعيدا بما فيه الكفاية عن سطح الأرض لتجنب قوى السحب الناتجة عن الجاذبية الأرضية.
ولكن يمكن لبعض الأجسام الموجودة في المدار الأرضي المنخفض أن تعود بسرعة، إذا ما دخلت الغلاف الجوي للأرض مرة أخرى، وهي غالبا ما تحترق في الغلاف الجوي قبل وصولها للأرض، وفي حال بقاء بعض الأجزاء دون احتراق فإنها غالبا ما تسقط في البحار والمحيطات التي تشكل أكثر من 70% من سطح الكوكب الأزرق، أو في مناطق غير مأهولة تشكل معظم مساحة اليابسة.
أما الأقمار الصناعية المخصصة للاتصالات ومراقبة الطقس فإنها تحلق عادة في المدار الأرضي المرتفع، على ارتفاعات تصل إلى 36 ألف كيلومتر، ويسمى هذا المجال بالمدار الجغرافي المتزامن حيث تبقى الأقمار الاصطناعية ثابتة بالنسبة للأرض كونها تدور بنفس اتجاه حركتها، وتستغرق دورتها المدارية نفس المدة الزمنية اللازمة لدوران الأرض حول نفسها، ويمكن للحطام الفضائي أو الأقمار الاصطناعية المتروكة في مثل هذه الارتفاعات أن تستمر بالدوران حول الأرض لمئات أو حتى آلاف السنين.
ووفقا لأرقام مكتب الأمم المتحدة لشؤون الفضاء الخارجي، كان هناك 11 ألفا و330 قمرا صناعيا فرديا يدور حول الأرض نهاية يونيو/حزيران 2023، بزيادة بنسبة 37.94% منذ يناير/كانون الثاني 2022 حيث شهد العام الماضي إطلاق أكبر عدد من الأجسام إلى الفضاء في عام واحد، مع مغادرة 2474 جسما للكوكب.
كما شهد النصف الأول من عام 2023 بالفعل إطلاق 1354 جسما إلى الفضاء، ومع تطوّر تقنيات الأقمار الاصطناعية وانخفاض تكلفة بنائها وإطلاقها، فمن المتوقع زيادة هذا العدد بشكل كبير خلال الأشهر القادمة.
مخاطر محتملة
لم يصادف، لحسن الحظ، عبر تاريخ غزو الفضاء، أن أصيب إنسان بمخلفات من أجسام فضائية، فمن بين 29% من مساحة كوكب الأرض التي تشكل اليابسة، تشغل الغابات 32% منها، وتشغل الصحاري 30% أخرى، ويتوزع الباقي بين السهول والجبال والأراضي الزراعية والأراضي الجافة والقاحلة والتي في معظمها غير مأهولة، مع أن الخطر يبقى قائما.
وفي مايو/أيار 2020، عادت المرحلة الأساسية التي يبلغ وزنها 18 طنا من الصاروخ الصيني “لونغ مارش 5 بي” إلى الغلاف الجوي من المدار بطريقة خارجة عن السيطرة بعد استخدامه لإطلاق كبسولة تجريبية غير مأهولة، وسقط حطام جسم الصاروخ، بما في ذلك أنبوب بطول 12 مترا، على قريتين في ساحل العاج، وأدى ذلك إلى إلحاق أضرار بالعديد من المباني.
وبعد عام واحد فقط، وصلت مرحلة أساسية أخرى يبلغ وزنها 18 طنا من صاروخ من نفس الطراز السابق، بشكل غير متحكم فيه، إلى مدار أرضي منخفض، بعد استخدامه لإطلاق جزء من محطة الفضاء الصينية الجديدة. لكنها تحطمت هذه المرة في المحيط الهندي، وكانت هاتان المرحلتان الصاروخيتان من أثقل الأجسام التي تدخل مرة أخرى بطريقة غير منضبطة منذ سقوط محطة “ساليوت-7” الفضائية التابعة للاتحاد السوفياتي عام 1991 في مناطق غير مأهولة جنوب المحيط الهادي.
لكن الخطر الأكبر يتمثل في الأقمار الاصطناعية التي وضعها الإنسان في المدار، إذ يؤدي ارتطام هذه الأجسام بمخلفات فضائية إلى تدميرها وفقدان الاتصال بها، وبالتالي تتكبد الدول خسائر مادية وعلمية كبيرة.
فمثلا، اصطدم القمر الاصطناعي الصيني “يونهاي 1-02” في مارس/آذار 2021، بقطعة من حطام فضائي بعرض 10-50 سنتيمترا تبين أنها جزء من الصاروخ الروسي “زينيت -2” الذي أطلق قمر التجسس “تسيلينا 2” في سبتمبر/ أيلول 1996، سبقها حادثة تصادم في فبراير/شباط 2009 أدت لتدمير قمر اصطناعي تابع لشركة “إيريديوم ساتلايت” بسبب قمر اصطناعي روسي مستهلَك وخارج الخدمة.
ورغم أنها حوادث نادرة نسبيا قياسا إلى العدد الكبير من الأقمار الاصطناعية النشطة والمستهلكة في المدار، لكن ومع الازدياد الكبير بعدد الأجسام الفضائية التي تدور حول الأرض، تزداد احتمالية خروج العديد منها خارج السيطرة، وبالتالي تتشكل أطنان إضافية من المخلفات الفضائية التي قد تصيب المحطات المأهولة التي وضعها البشر في مدارات منخفضة، مثل محطة الفضاء الدولية التي تدور على ارتفاع 400 كيلومتر تقريبا عن سطح الأرض.
وتعرضت المحطة الفضائية بالفعل، في مايو/أيار 2021، لحطام مداري أصاب ذراعا آلية موجودة خارج المحطة وأدى لإحداث ثقب في ذراع الرافعة وغطائها الحراري دون أن يعطلها، وتقوم المحطة سنويا باتخاذ إجراءات مناورة لتجنب الاصطدام بالمخلفات الفضائية، وحدثت إحدى هذه المناورات في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، حينما عززت المحطة الدولية ارتفاعها لتجنب الحطام الناتج عن اختبار صاروخ روسي مضاد للأقمار الاصطناعية.
وينتقل الحطام في الفضاء بسرعة 10 كيلومترات تقريبا في الثانية، تعادل 300 مرة السرعة القصوى المحددة للسيارات على الطرق السريعة، مما يشكل خطرا كبيرا ليس فقط مع المخلفات كبيرة الحجم، لكن حتى النفايات الصغيرة مثل بقعة طلاء يمكن أن تشكل خطراً جما إذا انفصلت من مركبة فضائية.