“الحب المنسي”.. فيلم يقف على حافة الميلودراما

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

تناولت السينما علاقات الحب بمختلف أطيافها، وخاصة الغرام بين الرجل والمرأة، لكن القليل منها تناول العلاقة بين الأب وابنته، ذلك الحب الغائر في أعماق الروح، الذي تلعب القيم المجتمعية دورا كبيرا في صياغة تجلياته.

في مجتمعات الشرق، قد يكون من الصعب إظهار هذا الحب إلا في مناسبات الولادة والزواج والنجاحات الدراسية، حيث يعبر الأب عن فرحته، وفي مرض الأب أو تعرضه لمكروه، حين تعبر الابنة عن حزنها واهتمامها.

في فيلم “الحب المنسي” (Forgotten Love) الذي يعرض حاليا على شاشة نتفليكس، يطرح المخرج ميشيل غازدا رؤية لذلك الحب الذي تحول من مشاعر تنمو من خلال الحياة اليومية إلى مشاعر هائلة تعقل وتتخذ القرارات نيابة عن العقل العاجز والذاكرة المهترئة، لتعيد التئام علاقة بين أب وابنته افترقا أكثر من 15 عاما.

 

استطاع المخرج ميشيل غازدا أن يعيد قراءة رواية “البروفيسور ويلكزور” (Profesor Wilczur) للروائي البولندي دوليغا-موستوفيتش، التي نشرت عام 1939، ليعيد تصوير النص الروائي في تلك المرحلة الزمنية.

استعان المخرج بأكثر من 1700 شخص في التصوير لإعادة أجواء ما قبل منتصف القرن الماضي من حيث المنازل والحانات والشوارع والملابس والحقول، لكن الأهم والأكثر بلاغة في العمل السينمائي الرائع هو تلك التفاصيل الصغيرة في حوارات العمل أو مفاصله الدرامية.

نقل العمل أيضا طبيعة الصراع الاجتماعي والقيمي بين طبقات وفئات المجتمع البولندي، كما نقلت بدقة تقاليد تلك المرحلة بشكل يكشف الهوة الهائلة بين اللحظة الراهنة وتلك التي عاشها المجتمع البولندي منذ أقل من 100 عام.

تدور الرواية حول قصة الجراح الشهير رافاي ويلكزور -الذي يجسد دوره الممثل ليزيك ليشوتا- الذي اكتشف ذات يوم أن زوجته غادرت المنزل مع ابنتهما ماريسيا، ويحاول البحث عنها، لكنه يقع ضحية لقطاع الطرق.

بعد تعرضه للضرب المبرح يعاني من فقدان الذاكرة، ويتجول في القرى، ويعمل في مهن غريبة ليحصل على طعام ومأوى.

يعيش ويلكزور باسم أنتوني كوسيبا، ويبدأ عمله كمعالج دون شهادة علمية أو ترخيص بالعمل كطبيب، وبعد إجراء عملية جراحية ناجحة لشاب مقعد، يكتسب شهرة باعتباره معالجا عظيما.

قرار درامي

يلتقط ميشيل غازدا الخط الدرامي الخاص بالزوجة الهاربة مع ابنتها الطفلة، ليبدأ في تشكيل نسيج درامي سينمائي، يحتوي على مزيج من الإثارة التي يحدثها بحث الأب والابنة عن بعضها، بينما يلتقيان دون أن يعرف كل منهما الآخر.

يتضمن الميلودراما أيضا التي يحدثها تعرض الابنة لحادث مع إصابة قاتلة، ثم تعرض الأب للسجن، وفي لفتة قاسية، يقوم صاحب الفيلم بتغير الخط الروائي الخاص بالطبيب المنافس الذي لا تربطه علاقة بالبروفيسور ويلكزور في الرواية، ليكون صديق عمر للبروفيسور، ومرافق دائم له في العمل السينمائي.

ذلك الصديق الذي استغاث به البروفيسور، فذهب إليه مسرعا، ليجده يتعرض للضرب المبرح، فيخذله ويقف ليشاهده حتى يسقط بلا حراك، ثم ينصرف، ليؤكد في المشهد التالي أن الدكتور ويلكزور رئيس الجراحين قد قتل. لم يكن ما ارتكبه الصديق خذلان فقط، ولكنه فعل يرقى لدرجة الخيانة.

وأضافت الدراما التي كتبها كل من السيناريست مارسين باكزينسكي وماريوس كوتزيفسكي بعدا جديدا للعمل، فقد أثرى الفيلم على مستوى شحنة المشاعر المتولدة عن الخذلان، وصنع غازدا إيقاعا موسيقيا تصاعديا للأحداث، حتى وصل إلى قمة التعقيد الروائي، حيث يسلم البروفيسور ويلكزور نفسه للشرطة معترفا بممارسة الطب دون ترخيص في سلوك نبيل محاولا إبعاد ابنته (التي لم يكن يعرف أنها ابنته حتى الآن)، بينما تهرب الابنة من القرية، حماية لأبيها (لم تكن تعرف أنه أبوها أيضا)، في حين يتم إخفاء مكان ماريسيا عن الكونت الذي كان قد تقدم لخطبتها بعد قصة حب قصيرة.

حين يصل الفيلم إلى هذه المرحلة، تبدأ الأزمات في التحلل، وتظهر الحلول، عبر تحولات في الشخصيات نفسها، وقد يكتسب الضعيف قوة شخصية تحوله إلى حل أو جزء من الحل بعد أن كان جزءا من الأزمة، وقد يستيقظ ضمير أحدهم، فيعترف وتنقلب الأمور، وقد يتذكر شاب ثلاثيني ما حدث من الدكتور ويلكزور منذ 20 عاما حين أنقذه من الموت ويذهب ليقدم شهادة براءته.

وقد حدثت كل تلك التحولات لشخوص العمل، وبعضها مصادفات ضعيفة، لكن أضعف ما في الدراما إجمالا هي تلك المصادفة التي تجعل من شخص فاقد الذاكرة، يعيش متجولا بين القرى يصادف ابنته في قرية جاءت لتعيش فيها مصادفة أيضا.

ذاكرة القلب

الإنسان في حقيقته ليس سوى ذاكرة تمشي على الأرض، وفي حال فقدها، يكون أقرب إلى جسد بلا هوية، ورغم أن الآخرين قد يتذكرونه جيدا، لكن تظل علاقته بالعالم هشة وغير حقيقية.

ويرى صناع الفيلم أن ثمة ذاكرة للقلب هي التي تسوق الجسد/الشخصية إلى من يحبهم، ويعرفهم القلب وحده دون الذاكرة العاجزة، ولأن الأبناء قطع من القلوب فلا غرابة في تذكر القلب للابنة.

وقد أجاد الممثل البولندي ليزيك ليشوتا أداء دور الشخص فاقد الذاكرة، خاصة بعينيه اللتين ظلتا في حالة نظر للاشيء منذ فقد ذاكرته، كما استخدم ملامح وجهه بمهارة شديدة فبدت رغم كل الانفعالات محايدة، كما لو أنها لا تنتمي لعالمها.

وعلى العكس من ليشوتا، لم تكن الممثلة ماريا كوالسكا التي قدمت دور الابنة ماريا جولانتا ويلكزور على مستوى الأداء المطلوب، رغم الميلودراما التي شكلت مساحة واسعة كان يمكنها تقديم أداء متميز فيها، لكن ماريا بدت في حالة أقرب إلى البرود.

وقد أثر ذلك الأداء للممثلة الشابة في المشهد الرئيسي (الماستر سين) بالمحكمة، حين تدخل ماريسيا إلى قاعة المحكمة لتعيد تعريف نفسها باعتبارها ابنة الدكتور ويلكزور ثم تندفع لتعانقه، فرغم أهميته بدا أقل من عادي بسبب ذلك الأداء الباهت لفتاة تعثر على أبيها الذي فقدته منذ الطفولة وتعرفت عليه بعد أن أنقذها من الموت بجراحة دقيقة في المخ ومغامرة كادت تدخله السجن.

ولعل ديكور وملابس الفيلم هي أكثر ما يميز هذا العمل المبهج، إذ استعاد المخرج أجواء الريف البولندي، وملابسه المميزة، وتفاصيل المنازل والحياة اليومية للفقراء وللأغنياء أيضا، كما أخلص المخرج ميشيل غازدا لشخصيات عمله، فلم تظهر أي منها مبتورة أو غير مبنية بشكل جيد، ولعل الأمر يعود بالأساس إلى كون العمل مأخوذ عن رواية أدبية.

ذاكرة الأب

من خلال مشهد مكبر لعجلة ساقية ومياه جارية بالأسفل، يخبرنا المخرج بمرور الوقت، وهو تعبير بصري بلغة السينما يشير إلى دوران الشمس، ويستدعي مقولة “وجرت في النهر مياه كثيرة”، نجد الدكتور ويلكزور قد تزوج، وهو يحضر الآن زواج ابنته.

ظهر البروفيسور ويلكزور الذي استعاد ذاكرته في المشهد الأخير في كامل أناقته كما بدا في المشاهد الأولى للعمل، واحتفل بزواج ابنته من الكونت الشاب في حضور والدة الكونت ووالده، وكانت الأم قد حذرت الابنة من الاستمرار في مشروع الزواج من ابنها مشيرة إلى الفارق الطبقي، في موقف درامي اقتبسه المخرج وكاتبا السيناريو من رواية “غادة الكاميليا” للروائي ألكسندر دوماس.

قدم “الحب المنسي” عاطفة أبوية نبيلة استطاعت بطاقة الحب -التي لم تكن معروفة نظرا لفقدان الذاكرة- أن تنقذ الابنة من الموت بعد أن تخلى عنها الأطباء، واستطاعت أن تعمل كبوصلة لاستعادة الابنة والذاكرة والحياة أيضا.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *