أسئلة النسوية العربية وكتابة الذات في قصص أمل بوشارب

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 11 دقيقة للقراءة

أمل بوشارب كاتبة روائيّة وقصصيّة جزائريّة معاصرة، مقيمة حاليّا في إيطاليا، تكتب باللّغتين العربيّة والإيطاليّة وتتأمّل إشكاليّة العلاقة بين الشّرق والغرب، بأكثر موضوعيّة ممّا يتاح للمقيمين في فرنسا مثلا.

صحيحٌ أنّ إيطاليا بلد أوروبي احتلّ بلدا عربيّا، مثله مثل بقيّة الدول الاستعماريّة، والإيطاليّون مثلهم مثل بقيّة الأوروبيين تنتشر بينهم الإسلاموفوبيا بشكل عام، وعلى المستوى الشّعبي. لكن الذي يميز إيطاليا عن فرنسا وإنجلترا هو أن إيطاليا لم تخرج منتصرة من الحرب العالمية الثانية، وهو ما لم يُتح لها لاحقا ادّعاء التفوق العسكري والاقتصادي على بقية الشعوب.

بعبارة أخرى لا يمكننا الحديث عن مركزيّة إيطاليّة كما نتحدّث عن مركزيّة فرنسيّة أو أميركيّة أو بريطانيّة. إنّ هذه الوضعيّة التألفيّة (بتحفظ) سمحت لأمل بوشارب بأن تفكّر موضوعيا في قضايا الأقليّات الإثنيّة والثقافيّة بوعي نقدي ثاقب، وبأدبيّة عالية الاشتغال، من خلال الخطاب القصصي والروائي على حدّ سواء.

وفي هذه الإطلالة النقديّة يمكننا أن نضع اليد على قضايا عديدة، على غرار أسئلة النسويّة والطفولة المضطهدة، وفوبيا الأجنبي، والمركزيّة الغربيّة. كما عالجت أمل بوشارب في آخر إصداراتها القصصيّة “لأنهم من هناك” (منشورات الشهاب، 2024) قضيّة هوس المرأة العربية والمثقف العربي بالغرب. وقد عالجت هذه التيمة بالكثير من السخرية المبطنة، لا سيما في القصة الرابعة من المجموعة، “القرداش”.

قصة القرداش

القرداش كما هو معلوم لأصحاب الريف الجزائري، هو عبارة عن لوحتين مربعتي الشكل بكل منهما يد خشبية وهو يشبه فرشة الشعر الحديثة وكل لوحة على حدة تسمى فردة، فوق كل منهما يثبت مربع من الجلد مزروعة به آلاف الأسنان المدببة معقوفة الاتجاه وعند استخدامه يوضع الصوف فوق أحد الفردات ويمشط بالفردة الثانية.

إنّ هذه الأداة التقليديّة التي تحيلنا على تراثنا الشعبي توظّفُ في هذه القصّة في سياق طقوس اجتماعيّة شعبيّة نسويّة حصرا. وقد تحوّلت إلى مشهد مسرحي كوميدي ينضح بروح السخرية من سلوك فئة نسويّة معيّنة. هذه الفئة طوّرت في ذاتها صورة هوسيّة عمياء عن الغرب، وجعلت هدفها الأكثر إلحاحا الإقامة في إحدى عواصم ذلك العالم العجيب.

تستعرض هذه القصّة تجربة الفتاة سامية مع إحدى المنظّمات النسائيّة في أوروبا، من أجل تأهيلها للعمل في مجال الدّعوة لتحرير المرأة العربيّة من تقاليدها الرافضة للحداثة الغربيّة. وكانت سامية تعمل جاهدة من أجل أن تحظى برضى مسئولتها لتعيّنها كناشطة في إحدى العواصم الأوروبيّة.

تجمع هذه القصّة الفتاة العربيّة “سامية” المتحجبة، بمنظمة غربيّة نسويّة هي “نساء بلا حدود”، ومن مهامّها تأهيل المرأة العربية على الخطاب والتواصل مع كل الفئات النسويّة في المجتمعات العربية، من أجل تحريرهن من التقاليد الاجتماعيّة والطقوس الدينيّة التي تسهل عملية إدماجهن في المجتمعات الأوروبيّة المستضيفة لهن.

بَيد أن رسالة هذه الجمعيات النسويّة لا تقتصر على المهاجرات بل على المرأة العربيّة بشكل عام، وخصوصا تلك التي تسكن الأرياف، والقرى النائيّة عن المجتمعات المبعدة عن الحداثة الغربيّة.

تهمّ سامية، بخلع حجابها عندما دُعيت لإجراء الاختبار، غير أن مدرّبتها “مرتشيلا” تثنيها عن هذه الحركة، بدعوى أن المنظمة تقر الاختلاف الثقافي والتنوع الفكري في صفوفها، الأمر الذي يبعد عنها شبهة اضطهاد الآخر. تؤكّد “مرتشيلا” على انفتاح منظمتها على المختلف بقولها “نحبّ رؤية نساء محجّبات معنا للتأكيد على التنوّع الذي يُعدّ أهمّ قيم منظّمتنا العابرة للحدود والثقافات”.

الدلالة الأدبية الظاهرة لهذا التصدير هو أن مثل هذه المنظمات الأوروبيّة الحقوقيّة، هي منظمات محايدة ثقافيّة، وتقبل الآخر في اختلافه، وتحترم غيريّته، بفضل انتمائها إلى مجتمع يولي الكثير من العطف الديمقراطي على المجتمعات الشرقيّة الأقلّ تطوّرا، وهو يعمل على ترقية هذه المجتمعات وإخراجها من بربريّتها، ومن عنفها البدائي، وروحها الشرّيرة. غير أنّ النسق المضمر الذي يسكن ملفوظات “مرتشيلا” يذهب أبعد من ذلك بكثير.

إنّه يهدف إلى تجريد اللّباس من بعده الثقافي ومن رمزيّته الحضاريّة، ومن دلالته الدينيّة ومن ثقله الأخلاقي. يصبح الحجاب علامة مجردة ومنسلخة عن سياقها السيميائي. يصبح شيئا محايدا، ومدنّسا، لا علاقة له بالهويّة.

لقد أبدت سامية رغبتها في التخلي عن حجابها من أجل القيام بمهمة الدعاية للمنظمة التي ستعمل لحسابها، ولكن مديرة المنظمة منعتها من ذلك، لأنه من مهام المنظمة أن يتحول الحجاب إلى قطعة قماش محايدة، مفرغة من دلالتها الدينيّة.

إنّها طريقة أخرى لإنكار الآخر، والدوس عليه بالنعال. كان بإمكان المنظمة أن تشترط على عميلاتها خلع الحجاب، ولكنها قدرت أن الخلع سيكون تلقائيّا إذا تم تدنيس هذا الحجاب، وتجريده من رمزيّته. ثم إن الإبقاء عليه مبدئيّا يبرّئ المنظّمة من العنصريّة ومن كراهيّة الأديان، ويَسِمها بالتسامح وحسن الضيافة.

تبدو مرتشيلا حريصة على إظهار الوجه العالمي لمنظّمتها، ومن خلال ذلك طابعها الإنساني. إن القبول بالتعدّد الثقافي هو قبول بالآخر، وبمبدأ الاختلاف، بعيدا عن فوبيا الأجنبي ورهاب الأديان المتزمّتة. إنّ كل ثقافة تحتل مكانتها التي تستحقها ضمن الثقافة العالميّة.

في مشهد مسرحي لافت، تبدي المديرة الكثير من المودة والاحتفاء بطالبتها تعبيرا عن الأخويّة النسويّة التي ستجمعهما، ابتداء من تلك اللحظة.

التقطت سامية طرفي أصابع مديرة البرنامج بحرارة وزادت عليها ضمّة كبيرة ردّتْ عليها مرتشيلا بذات الحرارة وأرفقتها بإطباقة شديدة على عينيها وهي تحتضن العربية التي كانت تستعد لإلقاء خطابها.

تبدي الأوروبيّة الكثير من المرونة في التواصل مع العميلة العربيّة، وتحاول أن توهمها بالوجه المشرق للإنسانويّة الغربيّة التي تعمل على احتضان كل المجتمعات البشريّة تحت جناحها. فالعطف الديمقراطي الذي يوليه الغرب للشعوب المتخلفة ذو أهداف إنسانيّة كما يحلو للإعلام الأوروبي أن يروج لنفسه. إنّه يداري عصورا من القهر الكولونيالي من خلال بعض المساعدات الملغومة والمشروطة.

إنّ ما تقوم به سامية لا يعدو كونه أداء سينمائيّا متقنا، تمّ التدرّب عليه طويلا من أجل إنجاحه. فأدوات الحجاج تتجاوز الملفوظات ونظرات العين، إلى حركات اليدين، والعينين والشفتين. التزمت سامية بتوصية مارتشيلا فحافظت على الحجاب والمعطف الفضفاض، ثمّ أرفقت صعودها المنبر بابتسامة عريضة تشي برقّة مبالغ فيها.

وكانت توزع نظراتها على الجميع، دون أن تفارق الابتسامة شفتيها، كي تحظى بإعجاب لجنة التّحكيم، التي قد تؤهلها لمنصب في هيئتها، وتضمن لها إقامة في إحدى عواصم التنوير. كانت تلك أمانيها من كل هذا الجهد، وهذا التنازل عن الهويّة وعن التاريخ، والانسلاخ عن الذّات.

سامية ممزقة بين الحداثة الغربية والتراث العربي خلال أدائها

تمكنت سامية في أداء مسرحي مبهر من المهمة المكلفة بها، وحظيت بتصفيقات الحاضرات وإعجابهن الشديد ببراعتها في التأثير على الحضور، الأمر الذي سيؤهلها لإقامة في إحدى عواصم الغرب كما تحلم.

انطلقت سامية في إلقاء خطابها، مبتدئة بتقديم إحصائيّات صادمة، أو هكذا تريدها الخطيبة من أجل إحداث الأثر المطلوب في مثل هذه المواقف مع الجماهير. وكان التركيز على التّمييز العنصري على أساس الجنس باديا للعيان، ومؤثّرا:
نساء يسرَقن لأنهنّ نساء.
نساء مثلي ومثلك
نساء!
ذنبنا أننا نساء
ولدنا نساء
وسنموت نساء

يبدو التّركيز على الجنس متعمّدا، وفيه نبرة اعتزاز بالذّات، وإصرار على مقاومة الهيمنة الذّكوريّة التي تُقصِي النّساء لأسباب جندريّة. وبأسلوب التكرار والإصرار تتمكّن الخطيبة من إثارة حميّة المستمعات، لينطلق الهتاف والتّصفيق، والتّهليل.

كانت سامية تخاطب العواطف، وهي تقنية ملازمة في كلّ الخطابات التي تستهدف كسب العطف، ومضاعفة الانفعال والحميّة. كانت توهم جمهورها أنّ انعتاق المرأة يمرّ عبر استعداء الرّجل، فهو سبب شقاء المرأة وامتهانها، والذي يذلّها ويضطهدها. كانت سامية في الحقيقة تتهيّأ لترحيل قضايا المرأة الغربيّة إلى الشّارع العربي.

إنّها تخاطب المرأة العربيّة بمنطق غربي، وتثير قضايا غربيّة على أساس أنّها عربيّة. ومع انسياق سامية مع التصفيق الحار الذي يلهمها المزيد من الحماسة، تواصل التأكيد على المظلوميّة، ورفض الهيمنة الذّكوريّة، وهي ظاهرة ثقافيّة عالميّة، كما تجادل.

والأمر لا يتعلق بثقافة بعينها، أو بمجتمع بعينه، فهذا العالم يرفض النساء، يكره النساء، يمقت النساء.

كانت الخطيبة مدفوعة بعاصفة من التّصفيق لا تهدأ. فالإصرار الذي بدتْ عليه، والثقة التي تخاطب بها جمهورها، والتشجيعات التي تتلقاها من مديرتها، كلّ ذلك يدفعها لمزيد من التّهويل ومن الكذب، من أجل أن تحظى برضا لجنة التحكيم. ومن أجل أن توظف ما تلقته من تعليمات من طرف مديرتها، راحت تستحضر بعضا مما تعلمته من ثقافتها المحليّة، في بلدها الأمّ. فعادت إلى اللازمة التي حفظتها من قبل: “ولدنا في عالم يكره النّساء. يدوس على النّساء. يسرقُ النساء… يضطهد النساء”.

وعلى إثر هذا الضغط المفتعل، راحت تلطم خدّها، وتصرخُ “أو خدي وخدي، أحوجي ياااااانا”

ضربت سامية وجهها وولولتْ بعلوّ صوتها، لترمي نفسها الآن على ركبتيها وتبدأ في شقّ قميصها، مطوّحة رأسها يمينا وشمالا وهي تواصل الصّراخ

كانت هذه الصّرخة مستوحاة من تراثها المحلّي، وكأنّها تخاطب نساء بلدها. وهي فعلا تهيئ نفسها لخطابهن، فمن أجلهنّ تقام هذه المحافل، وهذه البرامج الدّعائيّة. من أجل تغريب المرأة الجزائريّة، والتأثير على علاقتها بعالم الرجال.

يجبُ تغيير المرأة العربيّة بأصوات عربيّة، ولكن بأدوات غربيّة، وبمناهج أوروبيّة. استحضرت سامية طقوسا دراميّة عربيّة من عمق تراثها بهدف تصعيد الموقف الدرامي لدى الحاضرات، وراحت تندب خدّيها، وتصرخ مكررة عبارات الويل والهلاك، وهي عبارات تستجدي بها عطف الجمهور وتفاعله.

والواقع أنّ هذا السلوك المسرحي ميلودرامي، أكثر مما هو درامي. إنّه مشوب بالسّخرية والتهكّم، فالموقف الخطابي لم يكن يستدعي كل ذلك التّهويل والتشنيع. وهو ظاهر التكلّف والافتعال.

ضربت سامية وجهها وولولتْ بعلوّ صوتها، لترمي نفسها الآن على ركبتيها وتبدأ في شقّ قميصها، مطوّحة رأسها يمينا وشمالا وهي تواصل الصّراخ، لكن دون لمس خمارها التزاما بتوصية مرتشيلا بعدم خلع حجابها. نندب يانا…نندب وجهي يانا…نندب وجهي بالقرداش.

لا توجد علاقة عاطفيّة بين الموقف الخطابي الذي تواجه فيه سامية جمهورها وبين كوميديا النّدب والعويل وخدش الوجه بالقرداش. وهي أداة تقليديّة لنفش الصوف وتفريقها لتفتيتها. لقد وضعتنا أمل بوشارب أمام كوميديا حقيقيّة، تثير السخرية أكثر مما تثير الشفقة والتعاطف.

ومجمل القول أنّ أمل بوشارب تسخر من فئة نسويّة معينة تتنكر لذاتها، وتتماهي مع الثقافة التي تنتقص من قيمتها وتنفي إنسانيّتها. إنّ هذه الفئة لا تدركُ إلاّ الطلاء الخارجي للتنوير الغربي، ذلك الطلاء الذي يستقطبها ويجعلها تزدري ذاتها وتطمس ذاكرتها الثقافيّة.


  • الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *