غزة ـ لم ينتظروا بدء سريان وقف إطلاق النار، بل حملوا ما تبقى من أحلامهم المبعثرة في زوايا الخيام، وحزموا أمتعتهم وانطلقوا مهرولين لتفقّد منازلهم في مخيم جباليا بقطاع غزة، يقودهم الشوق كرياح عاتية، ورجاؤهم، أن يجدوا ولو حائطا واحدا يحتمون به من قسوة التشرد ولو بظل الحطام.
وحين وصلوا مشارف مخيماتهم تجمدت خطاهم في محاولة لفهم الجغرافيا الجديدة، فقد بدا الأذى كوحش جاثم لم يترك شبرًا إلا وطاله، وكأن الخراب كان يملك عينا حاقدة لم تغفل عن شيء، أينما وجّهت بصرك لا ترى إلا بقايا حياة ممزقة وركاما يروي حكايات مدن كانت تنبض بالحياة يوما ما.
فالحمم الإسرائيلية التي صبت على البيوت واحدا تلو الآخر، غيرت معالم المناطق داخل القطاع، لذا فقد تاه العائدون عن مداخل ومخارج حاراتهم، يسيرون بخُطا مترددة، كطفل تائه يحاول إدراك الأشياء حوله لأول مرة.
خيبة ثقيلة
كانت الخيبة ثقيلة جدا حين عاد الكثير منهم من حيث جاؤوا يجرّون أقدامهم المثقلة باليأس، كيف انتصر الموت بهذه السهولة على كل تفاصيل الحياة، وترك خلفه منطقة ميتة نائية منكوبة؟ بكى العائدون بحرقة، والغصة تعتصر أرواحهم، إذ بدت فواتير الخسارة أكبر من أن تُحصى أو تُقدّر.
في منطقة الصفطاوي خلال الطريق نحو جباليا وفوق ركام بيوتهم يتجمع شبان حول النار، يسخنون عليها معلبات من الفول، يمر عليهم الجيران يتعانقون بلهفة وابتسامة سرعان ما تتحول لعبوس على الوجه حين يبدؤون بعدّ خساراتهم الخاصة، التي يشترك فيها الجميع هنا.
كان لمحافظة شمال قطاع غزة، النصيب الأكبر من البطش الإسرائيلي الذي لم تفلح حمم النار المصبوبة عليه في حرق عزيمة الصامدين به ولا على دفعهم للاستسلام، فترى آثار شجاعتهم خلال سَيرك عيانا على الأرض في بقايا الآليات الإسرائيلية التي فجرها المقاومون.
موت يتربص من كل زاوية
قابلت الجزيرة نت واحدا من الذين بقوا للقتال في جباليا ولم يخرجوا منها حتى الرمق الأخير، يقول “ع.ح”: “تعاهدنا بعدما نفدت ذخيرتنا على الدفاع عن مخيمنا بلحمنا الحي وبأدوات بدائية، فاندفع الشبان نحو تنفيذ العمليات الاستشهادية، ورغم أن الموت كان يتربص بهم من كل زاوية، إلا أن سكينة كانت تغشاهم وطمأنينة تملأ صدورهم، فكان القتال بشراسة واندفاع دون هوادة فلم يعد هناك شيء لنخسره”.
ويتحدث الشاب عن الظروف القاسية التي ولدها الحصار المطبق عليهم قائلا، “في العشرين يوما الأخيرة لم يكن لدى المقاومين مخزون من طعام أو شراب، كان معظمنا يصوم، نفطر على معلقتين من زبدة الفستق، أما عن الماء فكنا نصفي الماء غير الصالح للشرب من خلال القطن أو الشاش ونشرب القطرات”.
كان انسحاب قوات الاحتلال، وفقا للشاب المقاوم، من محافظة الشمال بمثابة انتصار دفع ثمنه المقاومون بدمائهم وأرواحهم، فكانوا أبطال حكاية إفشال مخطط الجنرالات، وإسقاط فكرة التهجير، مشيرا إلى أنهم عندما علموا بانسحاب جيش الاحتلال تعالت التكبيرات والتهليلات، كأنه يوم عيد.
قصص قصيرة ثقيلة
بين الفينة والأخرى يمر شبان يحملون نصف جسد أو رفاتا لشهيد ملفوفا “بكيس بلاستيكي”، بنظرات خاشعة تجللها هيبة الموت، تخبر وجوههم عن غصة فقد، ووجع محمول على الأكتاف، يضطرون للسير بجثامين رفاقهم مسافات طويلة لعدم قدرة سيارات الإسعاف على الدخول؛ فركام البيوت المدمرة يسدّ الشوارع.
تركض فتاتان نحو بعضهما، تتعانقان وتنهاران على أكتاف بعضهما، تقول الأولى: “الحمد لله أخي حي، وجدناه حيا” بينما تقاطعها صديقتها: “زوجي شهيد يا هبة لقد وجدنا رفاته وعرفناه من ساعته وحافظة نقوده”، هي قصص يختصرها أصحابها بأقل عدد من الكلمات، تعجز اللغة عن ترجمة شعور أصحابها الذين تتقد في عيونهم نار وفي صدورهم جحيم من الوجع.
أما قصة الشاب طارق الدقس فأكثر وجعا، فتراه يتجول في جباليا، وفي مخيلته وَجها الماضي والحاضر، بين ما كانت عليه جباليا وما صارت، ومع كل خطوة يطويها يلتمع القهر في صدره أكثر، يمر على بيته الذي ما زال يحوي رفات شهداء من عائلته، ويتذكر نجاته حين انتشل مصابا منه بعدما علق تحت ركامه لساعات.
يبحث الدقس متفقدا أصدقاءه الذين انقطع الاتصال بهم منذ أسابيع، حيث تطول قائمة الراحلين من حياته لأكثر من 100 صديق، و35 شخصا من عائلته، ويقول للجزيرة نت، “مسحت عائلة أخوالي من السجل المدني، لم يبق منهم أحد”، فَقد لا يألفه طارق ولا يستطيع الاعتياد عليه، يقول “كل شهيد رحل عنا يشعل سعيرا في صدري يأبى أن ينطفئ”.
وضع أم محمد عيدة ليس أفضل حالا من طارق الدقس، فهي تجلس على ركام بيتها المدمر، وحولها أوانٍ وثياب ممزقة انتشلتها من تحت أنقاض منزلها، فهناك 6 عوائل في منزل مكون من 6 طوابق أضحوا اليوم بلا مأوى.
رائحة البيوت
ليست أم محمد وحدها فخلال طريقنا عشرات الأمهات يفعلن الشيء ذاته، إنهن يبحثن عن أي شيء من رائحة بيوتهن، بينما يقوم الرجال بجمع الأخشاب من أثاث بيوتهم المدمرة لإذكاء نار الحطب فيه! يصيح طفل في الشارع المجرف، “بابا هذا خشب خزانتي ليش بتحمله معك؟” يتساءل الولد الذي لم يتجاوز السادسة أباه الذي أجابه “كي تطهو لك أمك طعاما لذيذا”! يصمت الصغير بتأفف عن غير اقتناع، في مستنقع لا مدعاة فيه للفهم.
ورافقت الجزيرة نت الصحفية خديجة حميد في طريقها إلى تفقد منزلها في جباليا، كانت تقف في منتصف المفترقات تحاول فهم ملامح المخيم الذي مسح جيش الاحتلال وجهه عن الأرض، وصلت بعناء إلى شارع بيتها في منطقة العلمي في المخيم، كانت تسرع الخُطا إلى أن صارت تجر قدميها جرًّا ثم وقفت في مكانها دون أن تنبس ببنت شفة.
موت الذكريات
وأشارت حميد بيدها يمينا حيث كان هناك بيت من 3 طوابق أصبح كومة ركام، لم تتمالك خديجة نفسها غطت وجهها لتمنع عينيها من رؤية انهيار الماضي والحاضر والمستقبل، وتقول للجزيرة نت “إنه البيت الذي بناه والدي الشهيد قبل 30 عاما، ومكان ولادة الذكريات مع شقيقتي الشهيدة، راح البيت وراحت أختي وراح أبي ولم يبق لي إلا الحسرة”.
يبدو أصعب ما في الأمر على خديجة استيعاب هذا الخبر في يوم انتهاء الحرب، حيث كانوا ينتظرون انتهاءها للعودة إلى بيوتهم، أما الآن فأضحوا بلا مأوى وحروبهم مع حياة الخيام لن ينهيها وقف إطلاق النار، تضيف خديجة “كان لدينا استعداد لأن نعيش في بيتنا بلا جدران ولا أثاث، أو محروقا، كنا نتمنى.. لو بقيت لنا غرفة واحدة لجلسنا فيها، لكن لم يعد لدينا خيار”.