تعرّف على وعد فرنسا لليهود الذي سبق بلفور

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 13 دقيقة للقراءة

“إن الحكومة الفرنسية، التي دخلت الحرب للدفاع عن شعب تعرض للاعتداء ظلما لا يمكنها إلا أن تشعر بالتعاطف مع قضيتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء، ويسعدني أن أؤكد ذلك لكم هنا”. تلك فقرة من رسالة وزير الخارجية الفرنسي جول كامبون إلى الصهيوني ناحوم سوكولوف بتاريخ الرابع من يونيو/حزيران 1917.

تؤكد الرسالة -أعلاه- التي نشرها الباحث يوهانان مانور في المجلة الفرنسية “كيرن إنفو” أنه على عكس ما هو شائع فقد سبقت فرنسا بريطانيا بوعد اليهود بالمساعدة على إنشاء وطن لهم في فلسطين.

وتضمنت الرسالة شرحا للمشروع الذي تنوي فرنسا مساعدة الصهاينة بشأنه، حيث جاء في مقدمتها: “لقد شرحتم لي المشروع الذي تكرسون له جهودكم والذي يهدف إلى تطوير الاستعمار الإسرائيلي في فلسطين، أنت تعتقد أنه من العدالة ومن أجل التعويض لليهود ينبغي مساعدتهم وحمايتهم والاعتراف بحقهم في هذه الأرض التي طُرد منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة”.

ويعتبر الباحث مانور أن فرنسا بموقفها هذا تعد أول دولة أوروبية تتخذ موقفا رسميا لصالح المشروع الصهيوني، وربما سعت من خلال هذا الموقف إلى أن تحظى بأفضلية السبق في مناصرة اليهود، وخصوصا على حساب بريطانيا.

وإن كان الباحث يورد أن لفرنسا اعتباراتها الخاصة الأخرى من وراء ذلك الموقف، فهي تريد أن تقوم الحركة الصهيونية بالضغط على يهود روسيا حتى تستمر الأخيرة في الحرب إلى جانب دول الحلفاء.

وبعد الوعد الفرنسي هذا بحوالي 5 أشهر سيأتي وعد بلفور البريطاني ضمن رسالة وجهها وزير الخارجية حينها اللورد آرثر جيمس بلفور في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917 إلى ممثل الصهيونية في بريطانيا اللورد والتر روتشيلد جاء فيها “إن حكومة صاحبة الجلالة تنظر بحماس إلى إنشاء هذه الدولة في فلسطين وطنا قوميا للشعب اليهودي وستبذل كل جهد لتسهيل تحقيق هذا الهدف”.

ويرى الباحث أن الوعد البريطاني كان مصحوبا بشرط تحفظي عكس الوعد الفرنسي الذي لم يكن مشروطا، وإن كان البريطانيون يشتركون مع الفرنسيين في السعي لاستغلال قدرة الصهاينة على تعبئة روسيا وأميركا للحد من التفوق الألماني.

نابليون دعا اليهود للهجرو إلى فلسطين (مواقع التواصل)

مقايضة فلسطين بسوريا الكبرى

زيادة على ما تقدم لم يكن تشجيع فرنسا لليهود على احتلال فلسطين وليد عام 2017، بل سبق ذلك بكثير، فخلال حملته على مصر سنة 1798 دعا ملك فرنسا نابليون بونابارت اليهود إلى الهجرة إلى فرنسا، متعهدا بالمساعدة في توطينهم هناك.

وجاء في بيان أصدره نابليون حينها: “إلى ورثة فلسطين الشرعيين أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد الذي لم تستطع قوى الطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط، يا ورثة فلسطين الشرعيين إن الأمة الفرنسية تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء”.

لكن فشل نابليون في حملته والتوقيع لاحقا على اتفاقية “سايكس ـ بيكو” لتقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية، جعل فرنسا تتخلى عن خططها في فلسطين وتتنازل عنها لبريطانيا مقابل السيطرة على سوريا الكبرى.

وتؤكد دراسة للباحثة كاثرين نيكولت بعنوان “نهاية الحماية الدينية الفرنسية على القدس” أن فرنسا سبقت بريطانيا للاهتمام بل والتموضع في فلسطين، فالوجود الفرنسي في فلسطين استمر قرونًا قبل الانتداب البريطاني لفلسطين، وذلك بموجب اتفاق مع الدولة العثمانية يمنح فرنسا نوعا من الوصاية على كنائس وأديرة المسيحيين “اللاتينيين” التابعين للإمبراطورية العثمانية في القدس والأماكن التي يوجد بها مسيحيون.

وحسب الدراسة، فقد خاضت فرنسا معركة دبلوماسية أو ما يشبه الحرب الباردة مع إنجلترا من أجل الاستحواذ على فلسطين كلها منذ أن بدأ ضعف الإمبراطورية العثمانية، لكن فرنسا في النهاية خسرت تلك المعركة لتخسر معها وصايتها الدينية على الأماكن المسيحية في فلسطين عندما دخلت مقتضيات اتفاق سايكس ـ بيكو حيز التنفيذ، حيث قضى التقاسم الاستعماري للمنطقة أن تكون فلسطين كلها من نصيب بريطانيا، بينما تتموضع فرنسا في سوريا الكبرى ومناطق من جنوب تركيا.

French Jewish groups crowd near the Eiffel Tower with Israeli flags during a protest demonstration against the visit to France by Syria's President [Bashar al-Assad], in Paris, June 25, 2001. [Syrian President Bashar al-Assad starts his June 25-27 visit under pressure to rebuild his international image which was tarnished by remarks about Jews. ]
فرنسا قدمت دعما كبيرا لليهود (رويترز)

وعود مكذوبة للعرب

يقول بيير أندريه تاغييف في دراسة بعنوان “معاداة إسرائيل وكراهية اليهود: الاستثناء الفرنسي” نشرها في فبراير/شباط 1917 إن وعد بلفور الذي هو عبارة عن بيان مؤلف من 67 كلمة نشر في صحيفة تايمز وضعت من خلاله بريطانيا حجر الأساس لبناء إسرائيل، يتعارض مع وعود سبقته قطعتها بريطانيا وفرنسا للعرب لم يتم الوفاء بها كما ينبغي.

فقد تم وعد الشريف حسين أمير مكة بإنشاء دولة عربية كبرى في الشرق الأوسط مقابل التمرد على الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على المنطقة.

لكن بريطانيا وفرنسا بعدما تمكنتا من تفكيك الإمبراطورية العثمانية نسيتا وعودهما للعرب بل تقاسمتا بلادهما، وشجعتا الهجرة الجماعية لليهود تنفيذا لوعدي كامبون وبلفور بالمساعدة في إنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين.

ويؤكد تحقيق لموقع بي بي سي بعنوان “وعد بلفور: الكلمات الـ 67 التي غيرت تاريخ الشرق الأوسط”، أنه بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، أصبح وعد بلفور موقفا مشتركا لدول الحلفاء بل تبنته عصبة الأمم في يوليو/تموز 1922، مع إسناد تنفيذه للمملكة المتحدة التي كانت فلسطين جزءًا من نصيبها في كعكة العالم العربي التي تقاسمتها مع فرنسا.

مندوبو بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان في مدينة سان ريمو الإيطالية التي شهدت لقاء الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى (ويكي كومنز)
مندوبو بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان في مدينة سان ريمو الإيطالية (وكالات)

سان ريمو وليس سايكس بيكو

يؤكد مقال في صحيفة لوموند الفرنسية للباحث جان بيير فيليو بعنوان “قبل مائة عام، تقاسمت فرنسا وبريطانيا العظمى منطقة الشرق الأوسط” أنه في شهر أبريل/نيسان من عام 1920، خلال مؤتمر في منتجع سان ريمو في إيطاليا تقاسمت فرنسا وبريطانيا العظمى منطقة الشرق الأوسط، وليس قبل ذلك بـ4 سنوات كما يَعتقد -خطأ- كثير من الناس الذين ارتبط في أذهانهم هذا التقاسم باتفاقيات سايكس بيكو المبرمة سرا في عام 1916 بين المفاوضين الإنجليزي سايكس والفرنسي بيكو.

فقد كان اتفاق سايكس بيكو يقضي باحتلال بريطانيا لمناطق واسعة من العراق بما فيها بغداد والبصرة واحتلال فرنسا للساحل السوري اللبناني ومناطق من جنوب شرق تركيا الحالية، حيث يوجد عدد كبير من السكان الأرمن، أما أرض فلسطين فكان الاتفاق يقضي بسيطرة مشتركة عليها فيما يشبه إدارة دولية.

لكن على ما يبدو فإن انهيار الدولة العثمانية سهّل على الدول الاستعمارية استباحة فلسطين، كما أن التفوق في القوة لدى بريطانيا جعلها تحظى بنصيب الأسد في الشرق الأوسط على حساب فرنسا، فكانت فلسطين من نصيبها وهو ما وثقته اتفاقية سان مارينو في 1920.

ولم تتخلف الولايات المتحدة عن مناصرة بريطانيا وفرنسا في مؤامرتهما على الدولة العثمانية وتقاسمهما للشرق الأوسط، ففي العام 1917 أعلن الرئيس الأميركي وودرو ويلسون التزام الولايات المتحدة بالوقوف إلى جانب بريطانيا العظمى وفرنسا.

وبعد انتصارهما في الحرب العالمية الأولى تمكنت القوتان الاستعماريتان من إنشاء هيئة دولية تدعى عصبة الأمم التي ستتحول لاحقا إلى هيئة الأمم المتحدة، لكن الباحث فيليو يرى أن عصبة الأمم بدلا من أن تعمل على دعم حقوق الشعوب عملت على تكريس وتحقيق الأهداف الإمبريالية لباريس ولندن في الشرق الأوسط.

العثمانيون دافعوا عن فلسطين

يؤكد الباحث اليهودي يارون هاريل في مقال بعنوان “الصهيونية والمنفى” أنه قبل الحرب العالمية الأولى كان الصهاينة قلة ولم يحلم غالبية اليهود بدولة يهودية مستقلة، لكن في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بدأت الحركة الصهيونية في التنامي مطالبة بإنشاء موطن مستقل لليهود.

وجرت لهذا الغرض مفاوضات ابتداء من 1982 بين قادة الحركة الصهيونية والدولة العثمانية حول إمكانية السماح بتنظيم هجرات يهودية إلى فلسطين، لكن السلطات العثمانية رفضت الأمر بشكل قاطع وظلت تقف بشدة في وجه المحاولات الصهيونية المتكررة للاستيطان في فلسطين.

ويضيف الباحث أن هذا الرفض جعل قادة الحركة الصهيونية مثل زئيف جابوتنسكي يقفون بقوة مع الأطراف المناوئة للإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.

وما إن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها مع ما أسفرت عنه من هزيمة للإمبراطورية العثمانية وتفكيكها واحتلال بريطانيا فلسطين، حتى بدأ الصهاينة بالتنسيق مع القوى الاستعمارية الجديدة تجسيد مخططاتهم بإنشاء وطن لليهود في فلسطين.

عصابات الهاغاناه (مواقع التواصل)

دور فرنسا في دعم العصابات اليهودية

تؤكد دراسة بعنوان “رحلات سرية من فرنسا إلى فلسطين” نشرتها صحيفة “ميموار دي لا شواه” في سبتمبر/أيلول 2008 أنه وإن كان المجتمع اليهودي الفرنسي من أقل المجتمعات اليهودية تدفقا نحو فلسطين، إلا أن الحركة الصهيونية نشطت في فرنسا بشكل قوي على المستويين السياسي والمادي لمساعدة الهيئات والمؤسسات التي عملت على إقامة وطن لليهود في فلسطين.

وفي هذا السياق، حولت الحركة الصهيونية ما يعرف بالجيش اليهودي الفرنسي الذي أنشئ في يناير/كانون الثاني 1942 لمواجهة الألمان إلى منظمتين تعملان لصالح الصهيونية، إحداهما رسمية معترف بها باسم جمعية المحاربين اليهود القدامى، والأخرى سرية وضعت نفسها في خدمة حركة الهاغاناه التي تقاتل الفلسطينيين.

كما تشكلت في فرنسا منظمات شبابية متعددة لتنظيم هجرة سرية واسعة النطاق لليهود نحو فلسطين، مثل “منظمة الإنقاذ السرية السداسية” وحركة الشباب الصهيوني، لكن المنظمة الأهم كانت الشبكة الفرنسية للأممية العمالية التي أسسها مارك جاربلوم، زعيم الحركة الصهيونية في فرنسا، وكان من ضمن أعضائها وزراء ووزراء سابقون.

وقد تمكنت هذه الهيئات المتعددة من حشد تأييد كبير للصهيونية في فرنسا سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي.

وحسب الكاتب فإن العصابتين الصهيونيتين الأكثر شهرة (الأرغون والهاغاناه) كان مقرهما الرئيسي في فرنسا، مما يؤكد التواطؤ الرسمي للسلطات الفرنسية مع العصابات اليهودية.

ويورد الباحث أن فرنسا سمحت بشراء ونقل الأسلحة من فرنسا إلى تلك العصابات في فلسطين، كما احتضنت معسكرات لتدريب مئات الشباب اليهود تمهيدا لانخراطهم في العصابات الصهيونية، كما وفرت لأعضائها دورات تدريبية مجانية في مجالات الملاحة البحرية والطيران الجوي.

وفي عام 1946 منحت باريس حق اللجوء لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن غوريون وأعضاء عصابة “الهاغاناه” بعد أن طردتهم بريطانيا من فلسطين.

دور فرنسا في التمكين للدولة اليهودية

صوتت فرنسا في الأمم المتحدة عام 1947 لصالح قرار إنشاء إسرائيل، كما ساهمت لاحقا وبقوة في التمكين للدولة العبرية الناشئة.

ويورد الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ألان غريش في دراسة نشرها على موقع “أوريان21” أن فرنسا كانت طيلة فترة الخمسينيات الحليف الأوفى لإسرائيل، مزوّدة جيشها بالأجهزة المتطوّرة وبطائرات الميراج، ومساعدة إيّاها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية.

وقد بلغ التعاون العسكري بين الطرفين ذروته عام 1956 حين شارك البلدان إلى جانب بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس.

وزيادة على التعاون العسكري ساهمت فرنسا في تشييد البنية التحتية الإسرائيلية، ففي عام 1958 تولت بناء طريق بئر السبع إيلات وتطوير ميناء حيفا.

وحصل فتور في علاقات الطرفين في عهد شارل ديغول، لكنه ـ حسب الدارسين ـ لا يعني تراجعا عن الدعم المبدئي للدولة اليهودية في فلسطين، وإنما يعود للتوجه الديغولي الخاص الذي يسعى للنأي بفرنسا وحتى بأوروبا عن السير تحت العباءة الأميركية، فقد كان ديغول يتصور أن إسرائيل نظرا لأيادي فرنسا عليها كان ينبغي أن تسير في فلكها، لكنها اختارت المظلة الأميركية مما ولد بعض النقمة عليها لدى ديغول ومن سار على نهجه.

ورغم ذلك الفتور وما أعلنه ديغول بعد حرب 1967 من وقف تصدير السلاح الفرنسي إلى الشرق الأوسط بما في ذلك إسرائيل، يؤكد الدارسون أن التعاون العسكري الفرنسي الإسرائيلي ظل مستمرا في الخفاء، ففي عام 1969 زودت فرنسا إسرائيل بـ12 زورقا، وفي 1972 سلمتها قطع غيار لطائرات ميراج.

وفي العقود الأخيرة عادت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية إلى حميميتها في السر والعلن خصوصا في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وخلفه فرانسوا هولاند وإلى حد كبير في عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون مع بعض المشادات الكلامية التي لا يفتأ ماكرون أيضا أن يعتذر عنها أو يصححها.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *