المفكر كمال القصير: المنطقة في حاجة لاتفاق شبيه بـ”سلام فستفاليا”

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 19 دقيقة للقراءة

قال الخبير في علم الاجتماع العربي الدكتور كمال القصير إن المنطقة في حاجة إلى اتفاق تاريخي لصالح استمرار فاعلية الإطار العالمي للإسلام الذي غفل عنه الكثيرون، في عالم يتجه نحو ولادة جديدة للأوعية والكتل الحضارية الكبرى، موضحا أن “التقريب بين المذاهب لا يحل المشكلات، بل يحلها التفاوض على قاعدة تحديد الواجبات والممنوعات”.

وأشار إلى أن أي تطلع إلى المستقبل يعتمد على حل المشكلة الدينية في العالم الإسلامي بين العالم السني والمكون الشيعي، ويحتاج الاجتماع الإسلامي الآن إلى اتفاق يحمل روح اتفاق سلام فستفاليا، الذي أنهى زمنا طويلا من الحروب العنيفة بين الأوروبيين.

وقال المفكر المغربي إن اتفاق “سلام فستفاليا” الذي عقد عام 1648 في أوروبا، لم يحل المشكلات الدينية فقط، بل حل المشكلات السياسية الفرعية أيضا، وإن هذا الاتفاق “كان أقوى تأثيرا في مستقبل أوروبا الحديثة من باقي الاكتشافات العلمية أو الفلسفة العقلية. وإلى حدود الحرب العالمية الأولى، كان اتفاق فستفاليا يمثل الحل السياسي والقانوني للمشكلة الدينية والسياسية الأوروبية الكبرى، وهو مرجعية أساسية للحداثة الغربية التي نشاهدها”.

وذكر أنه يمكن لتركيا وإيران أن يتجاوزا الماضي، و”الواقع الحالي يشهد بإمكان تجاوز تلك المصائب التاريخية التي عاشها الطرفان في الماضي، نحو واقعية سياسية باردة لكنها ذات منفعة عظيمة”. وأوضح أن إيران بلغت مرحلة ينبغي أن تقرر فيها أن تصبح أكثر توازنا وانفتاحا على المنطقة العربية بعد تصدع هياكل حلفائها في المنطقة، وتحسبا لتحولات الوعي الاجتماعي للأجيال القادمة.

وأشار صاحب كتاب “ما لم يقله ابن خلدون.. قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها”، إلى أن وظيفة “المثقفين والفلاسفة العملية هي حماية مثل هذا التفكير والتوجه، ومنحه الشرعية والقوة، والتأكيد على خطورة السلوك الإمبراطوري والحشد الديني”. وفيما يلي نص هذا الحوار.

ليس التقريب بين المذاهب هو ما يحل المشكلات، بل التفاوض على قاعدة تحديد الواجبات والممنوعات

  • في ظل الأوضاع التي تمر بها المنطقة العربية منذ انطلاق طوفان الأقصى إلى ما يجري حاليا بسوريا، كيف تنظرون إلى هذه الأحداث؟

نحن في حاجة إلى التركيز على الصراع الكبير في فلسطين، ومنحه شعورنا وكامل اهتمامنا. لكن ذلك لا ينبغي أن ينسينا أن المستقبل يُصنع ويتشكل في مناطق ومساحات أخرى تعتبر هي الأكثر تأثيرا. سوف أجيب هنا على جانب أساسي من هذه المساحات، يتعلق بالمسألة الإيرانية التي تعد جزءا بنيويا في تحديد مستقبل العالم الإسلامي. وفي غمرة تفاصيل التحليل السياسي الكثيرة، سوف نكون في حاجة إلى أن نوسع المدى لكي ننظر إلى الأحداث من منظور حركة التاريخ، فهي أكبر مما توجهنا نحوه التفاصيل اليومية.

أعادت معركة فلسطين وأحداث سوريا الموازية فرض المشكلة نفسها المتعلقة بالوضع الإستراتيجي وعناصره المذهبية الذي اختارته إيران لنفسها. لقد منح الموقف الفلسطيني إيران درجة من المصداقية التي يقضي عليها الموقف في سوريا. الوضع في سوريا يُفترض أن يجعل العقلاء من الإيرانيين يفكرون بواقعية أكبر. ينبغي أن يدركوا أن عددا من العناصر والسياقات السابقة لم تعد موجودة.

شعوب المنطقة تواجه صعوبة مستمرة في التعامل مع الحالة الضبابية التي تخلقها إيران بطريقة منتظمة، وتزيدها اضطرابا الكلمات غير المحسوبة، التي يطلقها علي خامنئي بين الفينة والأخرى، لكي تذكر المنطقة بجراحاتها القديمة.

الحقيقة أنه لا يوجد بين العالم السني وبلاد فارس اتفاق تاريخي مكتوب أو عرفي يفرض نوعا من الضمير والوعي باحترام الحدود الثقافية، وعدم المساس بالتوازنات بين مكونات العالم الإسلامي، دينيا وثقافيا وسياسيا. هناك حاجة إلى اتفاق شبيه بصلح أو “سلام فستفاليا” عام 1648 في أوروبا، الذي أنهى واحدة من أعقد وأطول فترات الصراع الديني والسياسي بين المكونات الدينية من الكاثوليك والبروتستانت والكالفينيين، وفتح آفاقا جديدة لأوروبا. إن هذا النوع من الاتفاقات لا يحل المشكلات الدينية فحسب، بل يشمل المشكلات السياسية الفرعية.

  • لكن، ألا توجد قضية أخرى تحتاج إلى حل غير المسألة الإيرانية؟

لا يوجد موضوع ينبغي أن يشغل المثقفين والسياسيين في المنطقة العربية أكبر من موضوع إيران، وإيجاد حل تاريخي للعلاقة معها. سيكون حل الموضوع الإيراني أكبر إنجاز تاريخي وديني وثقافي، يمكن أن تعرفه دار الإسلام وأهله. أقول بجرأة وواقعية إنه لا بد أن تصل العلاقة ومخرجاتها إلى صيغة قريبة من “العلاقة الكاثوليكية البروتستانتية” في أوروبا، دون اعتبار للأوصاف، بعد كل الحروب الطاحنة والصراع التاريخي.

إن أي تطلع إلى المستقبل يعتمد على حل المشكلة الدينية في العالم الإسلامي بين العالم السني والمكون الشيعي. ويحتاج الاجتماع الإسلامي الآن إلى اتفاق، يحمل روح اتفاق سلام فستفاليا، الذي أنهى زمنا طويلا من الحروب العنيفة بين الأوروبيين.

كان سلام فستفاليا أقوى تأثيرا في مستقبل أوروبا الحديثة، من باقي الاكتشافات العلمية أو الفلسفة العقلية. وإلى حدود الحرب العالمية الأولى، كان اتفاق فستفاليا يمثل الحل السياسي والقانوني للمشكلة الدينية والسياسية الأوروبية الكبرى، وهو مرجعية أساسية للحداثة الغربية التي نشاهدها.

توصف أوروبا الحديثة بأنها نظام فستفاليا، وبالمثل لن تستقر أوضاع العالم الإسلامي إلا باتفاقية كبيرة تمثل أساسا لنظام علاقات في المنطقة في المستقبل. بإمكاننا أن نطلق على الاتفاق أي اسم أو ننسبه لأي عاصمة، مثل أن يكون “اتفاق الرياض” أو “اتفاق الدوحة” مثلا، وذلك بالنظر إلى الرصيد الكبير من نجاحات قطر في اتفاقات سابقة. هناك حاجة إلى اتفاق تاريخي مع المكون الفارسي لصالح استمرار فاعلية الإطار العالمي للإسلام الذي قد غفل عنه الكثيرون، في عالم يتجه نحو ولادة جديدة للأوعية والكتل الحضارية الكبرى.

  • ما الذي كشفت عنه جولة الصراع الحالي في المنطقة إزاء الحل الذي تطرحونه؟

ما تكشف عنه الجولة الحالية للصراع في فلسطين وسوريا، يجب أن يكون دافعا للإيرانيين والعرب نحو التفكير في المستقبل، وفق إطار أكبر للتعامل. الحلول الكبرى ثقيلة على الكثيرين وتتطلب وقتا أكبر، لكن دعني أؤكد أنها أكثر استدامة، فليس التقريب بين المذاهب هو ما يحل المشكلات، بل التفاوض على قاعدة تحديد الواجبات والممنوعات.

أتصور أن هذا الأسلوب في التفكير، سوف يكون مشتركا بين العقلاء في المنطقة، وبشكل أخص بين الغيورين على مستقبل الأمة والإسلام. إذ لا يكفي العقل لحل المشكلات، حتى ترافقه الرجولة، لكي تفعل ما لا يقدر على فعله الكثيرون في ميدان السياسة.

على الأتراك أن يجتهدوا لكي يكونوا أكثر “انفتاحا”، وعلى العرب أن يجتهدوا لكي يصبحوا أكثر “جدية”

  • هل هناك أطراف أخرى ضمن تصوركم للحل؟

بالتأكيد ينبغي على الأتراك أن يتحملوا نصيبا أكبر في هذا المسعى التاريخي، بالنظر إلى وضعيتهم في هذه المرحلة، وبشكل خاص بسبب نجاحهم في ضبط وتبريد العلاقة مع إيران، ومنحها توازنا مقدرا، بعد معارك واتفاقات عديدة في تاريخ الدولتين. إننا إذا تتبعنا سلسلة الحروب الدموية السابقة بين العثمانيين والصفويين سوف نجزم باستحالة أن تعرف العلاقة بينهما أي نوع من التوازن الممكن. لكن الواقع الحالي يشهد بإمكان تجاوز تلك المصائب التاريخية التي عاشها الطرفان في الماضي، نحو “واقعية سياسية باردة” لكنها ذات منفعة عظيمة.

أما المثقفون والفلاسفة فوظيفتهم العملية هي حماية مثل هذا التفكير والتوجه، ومنحه الشرعية والقوة، والتأكيد على خطورة السلوك الإمبراطوري والحشد الديني. إن بين تركيا وإيران التزامات لا تسمح بالتجاوز بين طرفين، أصحاب خبرة تاريخية، ومواجهات قديمة كبيرة. لا بد أن تصبح هذه الحالة صيغة سياسية أكثر اتساعا لتشمل باقي المنطقة العربية.

  • كيف ترون مستقبل الدور الإيراني؟

علينا أن نتمتع بالوضوح والجرأة في اقتراح الحلول. الإيرانيون في حاجة إلى أن يتوقفوا عن كونهم ذلك الجار الذي يشتهي أكل جميع الأصناف المختلفة من الأطعمة في المنطقة، فإن معدتهم لن تتحمل كل ذلك. وسوف يضطر جهازهم الهضمي أن يتخلص من أجزاء مما ابتلعه ويتخفف من ثقله، في كل مرة يشعر فيها بضعف القدرة على التحمل. إن استمرار الوضعية الحالية سوف تفرض عليهم الانكفاء في المستقبل.

لقد بلغت إيران مرحلة ينبغي أن تقرر فيها أن تصبح أكثر توازنا وانفتاحا على المنطقة العربية، بعد تصدع هياكل حلفائها في المنطقة، وتحسبا لتحولات الوعي الاجتماعي للأجيال القادمة. وقد باتت تواجه حقيقة أن ما استثمرته طيلة عقود في الجوار العربي، لن يكون وضعا مستداما يمكن الرهان عليه. وإذا كان النسيج التاريخي العربي والعثماني القديم قد توارى، فما الذي يبرر للإيرانيين التمسك بإصرار حتى اللحظة بالنسيج التاريخي الصفوي؟

سوف يكون مهما لمستقبل اتفاق تاريخي كما أقترحه، أن يتوقف الجميع عن تذكير الأجيال الحالية، بما لم تفعله في الماضي. إن أحد أهم العناصر التي تؤثر في العلاقة بين إيران ومحيطها، هي درجة التذكر والنسيان، لما تريده هي من المنطقة، أو ما يريده جيرانها منها.

تحافظ إيران على ذاكرة تاريخية قوية، لكنها مؤلمة لها في الوقت نفسه. وإذا استطاع الإيرانيون أن يصبحوا أكثر انفتاحا، فسوف تكون العلاقة معهم أكثر تأثيرا في مستقبل الشرق الأوسط. لكن دعونا نعترف بشيء أساسي، وهو أنه رغم معاناة المنطقة العربية من توجهات وسياسات إيران، فإن بقاءها في منأى عن إسرائيل أفضل بكثير من إيران ما قبل السبعينيات. إن أي سيناريو تقارب أو تفاهم بين إيران وإسرائيل سوف يكون أكثر رعبا للعالم الإسلامي.

تسمح الخبرة التاريخية بقول حقيقة مفادها أنه يصعب على الفرس قيادة العالم الإسلامي، وإن رغبوا في ذلك بقوة. وكلما تنامت أدوات القوة لديهم، يبادرون إلى ارتكاب الأخطاء والمغامرات الكبيرة نفسها، التي تشعل فتيل الخلافات. امتلاك الأدوات الإستراتيجية وحده لا يكفي لتسلم زمام القيادة الكبرى داخل الإسلام، حتى تنضاف إليه القدرة على استيعاب الآخرين. الرصيد التاريخي في فتوح البلدان غاية في الضعف لدى هذا المكون، إذ جل مساعيه داخلية خالصة، وهو ما يؤثر على صورته في الوعي الإسلامي.

  • تحدثتم عن واقعية العلاقة نظريا، لكن الممارسة العملية هي الحل، فكيف ترونه؟

تقول الواقعية إنه لا ينبغي للشفرة العربية (code) أن تبحث عن الانسجام الكامل مع الشفرة الفارسية سياسيا وثقافيا وشعوريا. إذ عليها أن تكتفي فقط بعلاقة متوسطة الأداء، لا ضرر فيها ولا ضرار. لا أحد بإمكانه أن يغير جينات التفكير العربي، ولا العقلية الفارسية العميقة، لكن بإمكان الأساليب أن تتغير.

وسواء كانت إيران محافظة أو إصلاحية أو ليبرالية، أو حتى أصبحت علمانية، فإنها في حاجة أن تدير بواقعية رغباتها في التفوق الأحادي في المنطقة. لقد حققت المحاولات التاريخية نجاحا محدودا في مسعى الملائمة بين الجينات العربية والفارسية، وكان نجاحها ثقافيا يتفوق بكثير على نجاحها سياسيا وشعوريا. المكون الفارسي قديم في التاريخ، وسوف يبقى عصيا على الدمج مقارنة مع غيره.

  • تشتغلون حاليا على مشروع فكري جديد أطلقتم عليه “الأمة من جديد”، فما تصوركم للدور العربي والتركي في المنطقة؟

الخليج العربي لديه الكثير من الأدوات التي تفضي إلى حل تاريخي بسبب عوامل الجغرافيا والاحتكاك المباشر مع قضايا الشرق الأوسط. التجربة القطرية ناجحة إلى حد بعيد في نسج العلاقة بين طرفين متناقضين أيديولوجيا هما تركيا وإيران، فهي صيغة مهمة للتعميم في المنطقة. السعودية بالغة الأهمية، خاصة إذا تقدمت في مسار إيجاد صيغة متوازنة للعلاقة مع كل من تركيا وإيران، اللتين سوف يتعاظم دورهما مستقبلا.

لكن دعني ألخص المشروع الذي أطلقت عليه “المثلث المصري السعودي التركي”. وقبل تحليل طبيعة هذا المثلث، لا بد من معرفة أن شكل تركيا حاليا ما زال بعيدا عن أن يكون مكتملا أو مستقرا من حيث الوجهة النهائية لنمط الحكم. كما أن مصر والسعودية تعيشان حالة تحول كبيرة سياسيا وثقافيا.

يحتفظ كل ضلع في هذا المثلث بنزعة قومية مرتفعة، لكنها غير مصحوبة بأيديولوجيا كثيفة وصدامية، وهذه ميزة مهمة. لكن تركيا أكثر جذبا للفاعلين نحو مجالها المغناطيسي بسبب درجة انخراطها الكبير في أزمات المنطقة.

لا يوجد لدينا شعور بوجود تحولات سيكولوجية لدى المجتمع التركي، تعكس رغبته في الانفتاح السياسي على المنطقة العربية، بالتوازي مع درجة الانفتاح الاقتصادي. وما زالت عملية الجذب التي تمارسها تركيا تنبع من تنامي قدرتها على التدخل خارج حدودها، لترتيب أوضاع المنطقة.

هذا المثلث مثل المحور نفسه، الذي شكل أعمق تحول في العالم الإسلامي، قبل سقوط الدولة العثمانية. خرجت السعودية من الوعاء العثماني بعد بروز التحالف الوهابي-السعودي في بداية القرن الـ18، وحاربتها بسبب ذلك مصر، وسعت بقوة إلى إسقاطها أيام محمد علي باشا، الذي كان أيضا قد خرج من العباءة العثمانية وحاربها.

سوف نجد أنفسنا مضطرين لمناقشة مستقبل المنطقة، بناء على التحولات التي يعرفها هذا المثلث. إن مصر لا تتراجع إلا وقد تقدمت السعودية خطوة إلى الأمام، وبالمقابل عندما تتراجع السعودية، تتقدم مصر نحو الأمام. تعرف السعودية تحولات سريعة، والتطبيع الإسرائيلي معها غاية وهدف كبير بالنسبة للإسرائيليين، بعد أن كان التطبيع مع مصر الهدف الأول في الماضي.

من حيث حركة التاريخ، تعيش مصر حالة “كمونية” لن تدوم طويلا. مصر من الناحية الأمنية والجغرافية والبشرية هي “القدس الحقيقية”، لكنها من حيث الإطار السياسي لا تلعب دور عامل التوازن في المنطقة، وتفتقد إلى الأدوات التي تمنحها القدرة على ترتيب الأوضاع في الإقليم.

تعرف السعودية تحولات كبيرة، من خلال التخلص من إرث ثقافي نشأ في القرن الثامن عشر. ويبدو أن هذا الإرث لم يتحول إلى جينات في سلوك المجتمع، بسبب الطبيعة “الوظيفية” للمحتوى الوهابي. السعودية في حاجة إلى المضامين الثقافية الناضجة لتعوض القديم حتى لا تخاطر بخلق حالة الفراغ. ذلك بأن لحظات الانفتاح بالنسبة لأي دولة تعتبر مجرد قرار أو دينامية، لكن الانفتاح نفسه ليس محتوى ثقافيا ناضجا على الأمد البعيد.

أما تركيا فلن يظهر مستوى جدية التحول لديها إلا في المرحلة التي تعقب حزب العدالة والتنمية، حينها يمكن الحديث عن تغيرات بنيوية حقيقية. تحتاج تركيا أن تعدل فكرة “الأبوة” التي أوجدها كمال أتاتورك في وجدانها، وتخرجها من أفقها القومي الضيق إلى أبوة ناعمة وأوسع نطاقا.

لا ينبغي إغفال وجود شعور عميق لدى الأتراك بالهزيمة التاريخية، باعتباره محفزا لمزيد من الصعود، والاتصال مع مجالهم القديم. لكن الأتراك ما زالوا لم يبلغوا درجة متقدمة من الزعامة الروحية التي تسمح بمزيد من التمدد.

إن مقصد الوعاء هو إعادة ترتيب إيقاع المساحات الشاسعة في المنطقة، وفق درجة من الانفتاح وحفظ حقوق الثقافات الفرعية. سوف يحتاج هذا الوعاء لكي ينمو إلى تفاهمات اقتصادية وثقافية مشتركة

  • ما طبيعة المسؤولية التي تقع على عاتق العرب ضمن هذا المثلث؟

يتحمل المكون العربي قدرا كبيرا من المسؤولية الثقافية والدينية المتعلقة بمستقبل الإسلام، فهو أكثر إدراكا وعمقا وإنتاجا للثقافة والوعي الإسلامي من باقي العناصر الإسلامية. لكن استعادة الوعاء الإسلامي الكبير، تجبرنا على تصور وجود أكثر من طرف بداخله. ويعتمد تماسك هذا الوعاء على تناغم النمط والنموذج، لا وحدة الدم والعرق.

لا يمتلك المسلمون في الوقت الحالي وعاء كبيرا قابلا للملء مستقبلا سوى المنطقة العربية وتركيا الحديثة، إذا فكرنا وفق منطق الشراكة، علينا إذن أن نحلم كثيرا بإعادة الجسر العربي التركي، ونضع الكثير من الأفكار حول هذه المسألة، فالكثير من صيغ المستقبل، سوف تكون نتيجة لتفكيرنا الحالي. الذين سوف يكونون شبابا بعد 80 عاما، سوف يعيشون لحظات أولى لعودة الإمبراطوريات إلى الحياة.

لكن كثيرا من الخصائص النفسية للأتراك الحاليين تجعل الأمر صعبا. الجرأة باتت ضرورية للأتراك لكي يقترحوا أفكارا تتغلب على طبيعتهم الاجتماعية المتحفظة، لكي يكونوا على الأقل مثل الروس الذين لا يتوقفون عن التعبير عن حلم أوراسيا. على الأتراك أن يجتهدوا لكي يكونوا أكثر “انفتاحا”، وعلى العرب أن يجتهدوا لكي يصبحوا أكثر “جدية”.

  • هل يمكن اختبار نجاح صيغة الشراكة من الناحية التاريخية؟

مبدأ “الشراكة” واقع تاريخي صلب، ومُنتج في تاريخ المسلمين. فقد عرف ماضي المنطقة الصيغة العربية المملوكية في مرحلة زمنية حددت مستقبل الإسلام. إن الأمر لا يتعلق بالأعراق، ولكن بنموذج حقيقي موجود في عمق وعي شعوب المنطقة. لقد جرب المسلمون عدة صيغ مثل الوعاء العربي العباسي بالمحتوى التركي، ثم الوعاء العثماني بالمحتوى العربي وباقي المكونات. وقد أدت جميع الصيغ إجمالا دورها بنجاح في عالم شديد المنافسة، رغم ما عرفته من مشكلات.

أما الصيغة السياسية العربية بالمحتوى الفارسي فلم تؤت ثمارها مثلما كان يمكن أن يكون. والسبب في ذلك يرجع إلى كون العنصرين العربي والفارسي معا يتشابهان من حيث قدرتهما على توليد المعرفة، ويمتلكان كثافة ثقافية وأيديولوجية كبيرة تحفز التنافس والثأر. وذلك بخلاف المماليك والسلاجقة والترك العثمانيين، الذين لم يكونوا مُنتجين كبارا للثقافة الإسلامية، وكانوا في حاجة دائمة لعمق الثقافة العربية.

وحتى على مستوى العالم فقد سمح التاريخ بولادة صيغة الإمبراطورية الرومانية الجرمانية. كما سمح بولادة صيغة الإمبراطورية النمساوية المجرية، وفق شراكة بين نبلاء المجر وملكية أسرة هابسبورغ.

  • لكن لماذا تجعلون الإسلام ضرورة لعودة الحياة إلى هذا الجسر؟

العنصر الروحي الإسلامي هو الصمغ الذي يمنح التماسك للوعاء العربي التركي. إن مقصد الوعاء هو إعادة ترتيب إيقاع المساحات الشاسعة في المنطقة، وفق درجة من الانفتاح وحفظ حقوق الثقافات الفرعية. سوف يحتاج هذا الوعاء لكي ينمو إلى تفاهمات اقتصادية وثقافية مشتركة.

الوعاء الكبير هو الوضع الأصلي لهذه المنطقة وبنيتها الحضارية. وكل الأفكار التكاملية في المنطقة سوف تصب بالضرورة في صالح هذا الاتجاه. إن الإسلام يختنق ضمن الأوعية الصغيرة، وبسبب طابعه الشمولي، سوف يستمر في الضغط على الأجيال لكي تصنع الأوعية الكبيرة. ولا تظهر قوة الإسلام إلا عند وجود أوعية كبيرة. الإسلام يؤسس لما فوق القومية، وهو قائم على تماسك النموذج والنمط، لا وحدة العرق.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *