يعاني رواد الفضاء من أعراض صحية عدّة تؤثر سلبا على عمل الوظائف الحيوية في الجسم، وفي حالات قصوى قد تتعرّض الأعضاء الحيوية للتلف الجزئي أو الكامل، وعلى مر العقود الماضية التي نشط الإنسان فيها في العمل خارج كوكب الأرض في ظل ظروف قاسية، رُصدت عدة مخاطر صحية وتغيرات فيسيولوجية طرأت على رواد الفضاء لا سيما في المهام الطويلة التي يحدث فيها انقطاع متواصل عن الأرض.
وبحكم بيئة الفضاء القاسية التي لا تخضع لقوانين الأرض، فإنّ انخفاض تأثير قوة الجاذبية والتعرّض للإشعاع الكوني والشمسي يُعدّان من الأسباب الرئيسة التي تضع حياة رائد الفضاء على المحك.
وفي تقرير مطوّل رصد “برنامج البحث البشري” التابع لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا) جميع تلك الأعراض الصحية، وكان أهمها تأثير انخفاض الجاذبية على العظام الذي يدفعها إلى خسارة كتلتها بمتوسط يتراوح بين 1% و1.5% في الشهر في الرحلات طويلة الأمد، أما الرحلات القصيرة فالتأثير لا يكاد يُذكر.
ويشكّل عنصرا الكالسيوم والفوسفور أكثر من نصف المادة العظمية، كما يُطلق على العظام كذلك اصطلاحا “بنك الكالسيوم” في جسم الكائن الحي، وحالها كحال العضلات، فإنّ العظام تتشكل وتتغيّر كثافتها باستمرار كونها نسيج حي وذلك بالاستجابة للقوى الواقعة والمؤثرة عليها مثل الجاذبية وفقا لما رصدته “الأكاديمية الأميركية لجراحي العظام”.
وعند غياب تأثير الجاذبية عن الجسم تبدأ العظام بفقدان كتلتها شيئا فشيئا لأنها تحررت من الحمل الميكانيكي الثابت على الهيكل العظمي حينما كانت على الأرض، وذلك استجابة للتكيّف المطلوب في بيئة مغايرة كليّا. وعندما تتآكل العظام تصبح هشّة وعرضة للإصابة بالكسور الخطيرة عند التعرض للإجهاد، وليس من المعروف فيما إذا كان فقدان الكتلة العظمية سيصل في النهاية إلى مرحلة مستقرة، أو أنه سيستمر بالتآكل إلى أجل غير مسمى.
وعند عودة رواد الفضاء إلى الأرض يتوقف فقدان الكتلة العظمية على الفور، وتبدأ عملية تأهيل الجسم التي تستغرق وقتا طويلا في ظروف الجاذبية الطبيعية، وما زالت الدراسات جارية حول طبيعة العظم المفقود إذا ما استبدِل بالكامل، وما إذا كان العظم الجديد بنفس القوة أو أضعف من العظم الأصلي.
ويلتزم رواد الفضاء بجدول رياضي يومي لأداء تمارين معيّنة لمدة ساعتين على الأقل في محطة الفضاء الدولية للتقليل من آثار انعدام الجاذبية على العظام والعضلات، كما أنّ نظامهم الغذائي الصارم يكون غنيا بالكالسيوم.
ورغم ذلك لا تزال الأضرار واردة الحدوث، ولا يمكن ضمان عودة الجسم إلى سابق عهده بعد التشافي، فضلا عن ساعات التمارين الطويلة التي يستقطعها رواد الفضاء من وقتهم الثمين، ودفع ذلك العلماء إلى البحث عن حلول أكثر فعالية على المدى البعيد.
عقاقير تمنع تآكل العظام
تشير ورقة بحثية نشرت في مجلة “نيتشر” العلمية في 18 سبتمبر/أيلول 2023 إلى أن عقار مكتشف حديثا استخدم في دراسة أجريت على مجموعة من الفئران تصل أعمارهم 30 أسبوعا، لضمان نضج هيكلهم العظمي. وأظهر العقار كفاءة عالية في الحد من فقدان الكتلة العظمية. ويعتقد القائمون على الدراسة من جامعة كاليفورينا الأميركية، أنّ هذا من شأنه تعزيز حظوظ رحلات الفضاء طويلة الأمد إلى كوكب المريخ.
ولم يُظهر العقار المسمى “بي بي-نيل-بي إي جي” (BP-NELL-PEG) أيا من الآثار الجانبية، بل على النقيض زادت كثافة العظام عند الفئران التي تلقّت العلاج، في حين انخفضت كثافة العظام لدى الفئران الأخرى كما هو متوقع في تجربة أجريت على متن محطة الفضاء الدولية.
ويُعد العقار المستخدم نسخة معدلة من بروتين “نيل-1″ (NELL-1)، وذلك باقترانه حيويا بـ”البايوفسفونيت الخامل” (Bisphosphonate) لإنشاء جزيء
“بي بي – نيل – بي إي جي”(BP-NELL-PEG) الذكي القادر على استهداف أنسجة العظام بدقة وكفاءة أعلى.
ووفقا لعدة دراسات أجريت على مجموعة من الحيوانات؛ أظهر البروتين قدرة على تعزيز نشاط الخلايا التي تشكل أنسجة العظام، كما يعمل على تثبيط الخلايا التي تؤدي إلى هشاشة العظام. ويتطلّع الفريق البحثي إلى منح الضوء الأخضر لتجربة العقار على البشر البالغين الذين يخضعون لعمليات جراحية خاصة كأولئك الذين يعانون من تآكل أقراص العمود الفقري مع مرور الوقت، المعروف بداء القرص التنكسي.
وفي حديث مع منظمة “الصحة في جامعة كاليفورينا” أعربت تشيا سو الجرّاحة التجميلية وقائدة الفريق البحثي عن فخرها بالنتائج التي توصلوا إليها، وقالت إنها تمنح آمالا هائلة لمستقبل استكشاف الفضاء، لا سيما تلك البعثات البشرية التي تستغرق شهورا طويلة من العمل بعيدا عن الأرض.