ضجة كبيرة عاشتها مصر في الأيام الأخيرة إثر نشر فيديو زعم متداولوه أنه يخص “بارجة حربية إسرائيلية تعبر قناة السويس”.
وفي ردها على الجدل الذي أثاره الموضوع، ذكرت هيئة قناة السويس أن إدارتها للمجرى الملاحي تخضع لبنود اتفاقية القسطنطينية التي تمنح لجميع دول العالم الحق في أن تعبر سفنها القناة “دائمًا بجميع الأحوال ومهما كانت جنسيتها”.
فما قصة هذه الاتفاقية؟ وهل التزمت مصر بتطبيقها منذ توقيعها؟ وكيف تعاملت إدارة القناة مع سفن إسرائيلية سعت للمرور من القناة من قبل بموجب الاتفاقية؟
القناة المحايدة
بموجب قرار في العام 1856، أقرّت مصر حرية الملاحة في القناة “بشكلٍ محايد” لجميع السفن مهما كان حجم الصراعات بينها، طالما أن مصر ليست طرفًا فيها. ونصّت المادة 14 من القرار على أن “القناة البحرية الكبرى مفتوحة على الدوام بوصفها ممرًا محايدًا لكل سفينة”.
غير أن مصر ستشهد في 1882 حدثًا استثنائيًا حينما قاد الضابط أحمد عرابي تمردًا عسكريًا ضد الخديوِ توفيق فأرسلت بريطانيا حملة عسكرية لحماية عرش الخديو، مستخدمة القناة للوصول إلى مدينة الإسماعيلية ومنها زحفت القوات البريطانية إلى القاهرة حيث أنهت تمرد الجيش وسيطرت على القاهرة، وكانت تلك اللحظة بداية الاحتلال الإنجليزي لمصر.
ووفق ما أورده عبده مباشر في كتابه “قناة السويس: المشروع والصراع” فإن هذا الاحتلال كان بداية لزيادة سيطرة الإنجليز على القناة، فجرى استدعاء مديرها الفرنسي فرديناند ديليسبس إلى لندن 1883 لتوقيع اتفاق جديد قضى برفع حصة الإنجليز في مجلس الإدارة وعدد الملاحين، كما نص على أن تنشئ الشركة لها مكتبًا في لندن أسوة بمكتبها في فرنسا.
السيطرة الإنجليزية على القناة أشعلت غضب فرنسا فاقترحت لندن وضع نظام جديد لإدارة القناة بشكلٍ يرضي جميع الأطراف، وفي مارس 1885 بدأت مباحثات بين البلدين حول إبرام معاهدة دولية تنظّم المرور في القناة.
وطيلة 3 سنوات اشتعل الشقاق بين فرنسا وبريطانيا حول كيفية إدارة القناة حتى اتفقتا أخيرًا على بنود معاهدة القسطنطينية ومعهما دول أخرى.
وفي 29 أكتوبر 1888، وقّع مندوبو 9 دول على اتفاقية من 17 مادة نظّمت قواعد مرور السفن في القناة أبرزها أن “تكون قناة السويس البحرية على الدوام حرة مفتوحة في زمن السلم والحرب لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز بين جنسياتها”.
ولم تلعب القاهرة دورا كبيرا في إبرام الاتفاقية بعدما مثّلتها الدولة العثمانية، صاحبة السيادة الإسمية عليها حينها، وبريطانيا التي فرضت احتلالاً عليها أدارت بموجبه شؤونها الخارجية والداخلية.
وبحسب بحث “موقف الدولة العثمانية من اتفاقية القسطنطينية للملاحة في قناة السويس”، فإن حتى الدولة العثمانية لم تلعب دورًا كبيرًا في صياغة بنود الاتفاقية بعدما تلقتها عقب اتفاق بريطانيا وفرنسا على أغلب بنودها.
ويقول محمد عبد الرحمن في كتابه “قناة السويس: أهميتها السياسية والاستراتيجية” إن بريطانيا، رغم توقيعها على الاتفاقية، فقد ألحقت بها تحفظًا يبيح لها التحلل من أحكامها إذا ارتأت أن تطبيق هذه البنود يتعارض مع مقتضيات احتلالها للقناة ويحرمها من بناء قواعد عسكرية لها على جانبي القناة حال الضرورة لذلك.
ولم تسحب بريطانيا هذه التحفظات إلا بعد الاتفاق الودي الذي جرى بينها وبين فرنسا 1904 وتقاسمت بموجبه البلدان النفوذ في الشرق الأوسط، وفق ما ذكره عبد الخالق لاشين في كتابه “مصريات في الفكر والسياسة”.
وبحسب كتاب فتحي المحلاوي “قناة السويس بين الوثائق والمزاعم”، فإن القناة حاولت الالتزام بـ”الحياد العسكري” خلال حرب الدولة العثمانية وإيطاليا 1911، فحينما أرسلت إسطنبول قوة من 400 جندي إلى سوريا اشترط عليهم تجريدهم من السلاح وعبور القناة في حراسة البوليس المصري.
الحياد في زمن الحرب
في 1914، استقلت مصر عن الدولة العثمانية وورثت عنها التزاماتها الرسمية في المعاهدة، وباتت طرفًا فاعلاً فيها لأول مرة. العام ذاته شهد اندلاع الحرب العالمية الأولى التي خاضتها بريطانيا بفاعلية، وبالتالي كان الحفاظ على حياد القناة الخاضعة لسيطرتها أمرًا صعبا.
أعلنت بريطانيا الحماية على مصر وبالتالي صارت القناة جزءًا من دولة في معسكر الحلفاء وباتت هدفًا عسكريًا، بعدما حاولت قوة ألمانية تركية الاستيلاء على القناة فتصدّت لهم قوة بحرية بريطانية.
وخلال الحرب قضت بريطانيا على مفهوم “حياد القناة” تمامًا بعدما منعت سفن أعدائها من العبور وأقامت لنفسها قواعد عسكرية في القنطرة والإسماعيلية ربطتهما بالقاهرة عبر خط سكة حديدية.
وبحسب ما روته لطيفة سالم في كتابها “مصر في الحرب العالمية الأولى”، فإن هذه التصرفات استدعت “إدانة شديدة” من الحكومة العثمانية بعدما اعتبرتها تناقض بنود اتفاقية القسطنطينية.
ووفق ما ذكره جورج كيرلس في كتابه “قناة السويس من القِدم إلى اليوم”، فإن عدم التزام القوى الكبرى باتفاقية القسطنطينية خلال الحرب وتصارعها حولها وداخلها في بعض الأحيان خفّض حركة الملاحة فيها بنسبة 45 في المئة.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عرفت القناة “حيادًا جزئيًا” خلال احتلال إيطاليا لإثيوبيا 1935 بعدما سُمح لما يزيد عن نصف مليون جندي إيطالي بعبور قناة السويس، بينما رُفض عبور سفن كانت تحمل أسلحة إلى الحبشة، وفق ما ذُكر في كتاب “مصر والصراع حول القرن الأفريقي”.
هذا الأمر تكرر أيضًا خلال الحرب العالمية الثانية التي شهدت سقوط فرنسا على أيدي الألمان الأمر الذي منح بريطانيا سيطرة مطلقة على القناة فكررت استغلالها لصالح مجهودها الحربي، وهو ما حاولت قوات دول المحور إنهاءه فأغارت عليها طائراتها 64 غارة من يناير 1941 وحتى يوليو 1942، كما هاجمتها الغواصات الألمانية 17 مرة.
وبحسب كيرلس فإنه طيلة هذه الحرب تعطلت الملاحة بالقناة 76 يومًا على فترات متقطعة بسبب إغراق عددٍ من السفن والألغام بها، وفي بعض الأوقات بلغت نسبة انخفاض حركة الملاحة 70 في المئة.
بعد 1948.. “ممنوع العبور” لإسرائيل
يكشف الكاتب عبد العظيم رمضان، في كتابه “المواجهة المصرية الإسرائيلية في البحر الأحمر”، أن القاهرة “لم تعتبر اتفاق الهدنة 1949 الذي وقعته مع إسرائيل أنهى حالة الحرب معها، وبالتالي رخّصت لنفسها الحق في منع أي سفينة تقصد إسرائيل مستندة إلى المادة العاشرة من المعاهدة والتي كفلت ألا تتعارض موادها مع التدابير التي قد يجري اتخاذها لـ”ضمان الدفاع عن مصر وإقرار النظام العام”.
هذا المنع لم يُطبّق على السفن الإسرائيلية فقط وإنما كذلك على السفن المحايدة التي تحمل بضائع من دول أخرى تجاه الموانئ الإسرائيلية.
هذا الحصار أثار غضب إسرائيل فقدّمت إلى مجلس الأمن شكوى في يوليو 1951 لتأكيد أن هذا الموقف مخالف لاتفاقية 1888، وهو أمر أيّدها به المجلس وأصدر قرارًا بالأغلبية يدعو مصر للوفاء بالتزاماتها البحرية إلا أن مصر لم تستجب.
ويروي الدبلوماسي عصمت عبدالمجيد في كتابه “زمن الانكسار والانتصار”، أن إنجلترا، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في مصر وقتها، حاولت التدخل عبر إقناع الحكومة المصرية على الأقل بالسماح بعبور ناقلات البترول المتجهة إلى حيفا عبر قناة السويس إلا أن القاهرة رفضت ذلك الأمر.
وظلّت مصر متمسكة بهذا الموقف حتى بعد اندلاع ثورة يوليو، وفي سبتمبر 1954 حاولت إسرائيل تحدّي قرار الحكومة المصرية فأرسلت سفينة تحمل العلم الإسرائيلي نحو قناة السويس فصُودرت حمولتها وسُجن بحارتها 3 أشهر أعيدوا بعدها إلى بلدهم.
خلال هذه الأزمة أعلن عمر لطفي مندوب مصر في مجلس الأمن أن بلاده “تخشى بسبب حالة العداء التي تجمعها بإسرائيل أن تنفذ أي سفينة تابعة لها عملية تخريبية تمنع الملاحة في القناة”، لذا فإنه “يعتبر أن منع إسرائيل من استخدام أمر واجب” وفقًا لتفسيره لمواد اتفاقية القسطنطينية.
وعلى وقع هذه الأزمة عقد مجلس الأمن 7 جلسات امتدت حتى يناير 1955 دون أن ينجح في اتخاذ أي قرار، أمر اعتبرته القاهرة انتصارًا لها وأعلنت كذلك أن “قرار 1951” سابق الإصدار مجرد توصية غير ملزمة، وهو وضعٌ استمرّ حتى تأميم القناة 1956.
أزمة التأميم
في 1956، أعلن الرئيس جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس. خطوة كان متوقعًا أن تثير غضب الغرب ضده فبادر بإعلان “الاحترام الكامل” لاتفاقية القسطنطينية، إلا أن ذلك لم يُفلح في امتصاص غضب الحكومة البريطانية على القاهرة بعدما أظهر رئيس الحكومة أنطوني إيدن ميوله لاستعمال القوة العسكرية إن لم يتراجع ناصر عن التأميم.
وفي محاولة لتبرير الهجوم على مصر، اعتبر إيدن أن قرار التأميم يهدم اتفاقية القسطنطينية التي نصّت على أن حرية الملاحة ترعاها شركة القناة الدولية وأن استيلاء مصر عليها يتعارض مع الاتفاقية.
وحسبما روت لطيفة محمد سالم في كتابها “أزمة السويس: جذور، أحداث، نتائج”، فإن هذا الموقف لم يشاركه به الرئيس الأمريكي أيزنهاور حينما بعث له رسالة عارَض فيها تنفيذ أي عمل عسكري داعيًا لمناقشة القضية من خلال اجتماع تعقده الدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية.
خطوة المؤتمر تمّت بالفعل في لندن بعدما رعت مؤتمرًا ضمّ الدول الموقعة على الاتفاقية ودول أخرى معنية بالملاحة في القناة بسبب حجم تجارتها الكبير الذي يمرُّ منها مثل أميركا والبرتغال واليابان وغيرها، لكن مصر رفضت حضور هذا المؤتمر ما أدى لفشله.
وبعد انتهاء الأزمة بنجاح مصر في ترسيخ سيادتها على القناة، اضطرت للتراجع عن موقفها بمنع أي سفينة من العبور لإسرائيل فوافقت لأول مرة على مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية، بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية.
من ناحيتها، فرضت القاهرة قيودًا على تعريفها للشحنات “غير العسكرية” وحدّدتها بالشحنات الغذائية فقط، فيما اعتبرت “النقود والسبائك الذهبية والفضية والأوراق المالية” شحنات عسكرية لا يُسمح بمرورها إلى إسرائيل.
هكذا سمح عبد الناصر للسلع غير الاستراتيجية بالوصول إلى إسرائيل عبر قناة السويس طيلة سنوات ما بعد 1956 بشرط عدم الإعلان، وفي مايو 1959 أعلنت إسرائيل أنها تستعد لاستقبال باخرة دنماركية عبر قناة السويس فأوقفتها القاهرة، بعدها توصل ناصر إلى اتفاق عبر الأمم المتحدة يقضي بالسماح لهذه السلع بالعبور شريطة عدم إعلان إسرائيل عن هذه الشحنات.
وخلال سنوات حُكمه عبّر الرئيس جمال عبدالناصر مرارًا عن موقفه الرافض للسماح لإسرائيل باستخدام القناة، منها قوله في يوليو 1959 إن “مرور سفن إسرائيل لا يعتبر بأي حال من الأحوال ضمان حرية الملاحة في قناة السويس”.
وظلَّ هذا الموقف غير مقبولا في إسرائيل واعتبرته “استمرارًا للحصار البحري ضدها” وقدّمت عدة شكاوى في مجلس الأمن لم تغيّر من موقف القاهرة، استمر هذا الوضع حتى اندلعت حرب 1967 التي كانت سببًا في تعطيل الملاحة في مجرى القناة لسنواتٍ طويلة لم تنتهِ إلا باندلاع حرب أكتوبر.
ما بعد أكتوبر
في مارس 1975، أعلن السادات نيته إعادة افتتاح قناة السويس مع التأكيد أن سفن إسرائيل ستظلُّ محرومة من استخدامها في ظل عدم إنهاء حالة الحرب بين البلدين.
هذا الوضع تغير قليلاً خلال أشهر معدودة بعدما وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية فض الاشتباك الثانية التي ورد بالمادة السابعة بها السماح بـ”مرور البضائع الإسرائيلية غير العسكرية بشرط أن تكون محمولة على سفن غير إسرائيلية”، وهو ما وصّفه بطرس غالي وقتها بأنه عودة إلى الوضع الذي كان سائدًا بين عامي 1957 و1967.
وظلَّ هذا الوضع قائمًا حتى انتهت حالة الحرب رسميًا بين البلدين عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979، التي نصّت على “حرية مرور السفن الإسرائيلية في خليج السويس وقناة السويس على أساس اتفاقية القسطنطينية لعام 1888″، لتنال بموجبها إسرائيل حقها في عبور جميع سفنها التجارية والحربية قناة السويس لأول مرة بلا أي قيود لأول مرة منذ 1948، وهو الأمر المستمر حتى اليوم.