بعد انتهاء حرب عام 2006، ركزّت الكثير من مراكز الأبحاث في إسرائيل وخارجها على التطورات التي طرأت على شكل الترسانة العسكرية لحزب الله، وبينما كانت معظم التقديرات تذهب باتجاه تصاعدي، وخاصة على صعيد أعداد الصواريخ والقذائف، جاءت الحرب في غزة والحملة الإسرائيلية الأخيرة لتضع هذه القضية على سكة اختبار ميدانية.
الجماعة اللبنانية المدعومة من إيران كانت دخلت منذ الثامن من أكتوبر على خط المواجهة مع إسرائيل، بموجب “جبهة إسناد”، وتخوض الآن “معركة مباشرة” على أراضيها في جنوب لبنان، ودفعت إثر ذلك خلال الشهرين الماضيين الكثير من الفواتير على صعيد القادة الكبار، وتصدرها حادثة اغتيال أمينها العام، حسن نصر الله.
ولم تقتصر الخسائر على ما سبق، إذ بعدما طرأت سلسلة تحولات على شكل استهدافات إسرائيل واستراتيجيتها العسكرية في لبنان، وصلت الحالة المرتبطة بـ”دفع الفواتير” لدى حزب الله إلى مخازن الأسلحة الخاصة به، والتي تضم خليطاً واسعاً من الصواريخ متوسطة وبعيدة المدى، فضلاً عن أشكال متنوعة من القذائف والطائرات المسيّرة.
ويقول وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، في تصريحات له، نشرت الأربعاء، إن تقديراته تفيد بأن القدرة المتبقية للقذائف والصواريخ لدى حزب الله باتت في حدود 20 بالمئة. وأضافت مصادر دفاعية لصحيفة “جيروزاليم بوست” أن نسبة 20 بالمئة تتعلق بحوالي 50 ألف صاروخ، كانت لدى الجماعة اللبنانية قبل 23 أكتوبر 2023.
وتعني النسبة التي نشرتها الصحيفة، الأربعاء، نقلاً عن مصادر دفاعية، أن هذا العدد الخاص بالصواريخ انخفض الآن إلى حوالي 10 آلاف فقط، دون أن يشمل ذلك القذائف. ونادراً ما يفصح حزب الله عن الحجم الدقيق لترسانته العسكرية.
لكن أمينه العام الراحل، حسن نصر الله، ادعى قبل سنوات أن عدد مقاتليه يتجاوز حاجز 100 ألف مقاتل. وبعد فتحه لـ”جبهة الإسناد” أطلق تهديدات كثيرة، واستند فيها على وجود صواريخ بعيدة المدى، وطائرات مسيرة “قادرة على اختراق القبة الحديدية”.
وفي أول خطابه له بعد تعيينه أميناً عاماً جديداً قال نعيم قاسم، الأربعاء، إن “الميدان يثبت تعافي الحزب من الهجمات التي تعرض لها”، وأن الإمكانيات المتوفرة لدى الجماعة اللبنانية “تتلاءم مع حرب الميدان الطويلة”، على حد تعبيره.
ما مدى واقعية تقديرات غالانت؟
وفقا لخبيرين عسكريين اثنين تحدث إليهما موقع “الحرة”، فإنه من الصعب تقدير الحجم الدقيق للترسانة العسكرية التي يمتلكها حزب الله في الوقت الحالي، على صعيد أعداد الصواريخ والقذائف.
ومع ذلك ترسم إحصائيات ووثائق سبق ونشرتها مراكز أبحاث، ومقارنة بين زمنين، صورة تكاد تكون تقريبية لما تبقى للجماعة اللبنانية من ترسانة الآن.
كانت مخزونات حزب الله من الصواريخ قبل حرب 2006 حوالي 15 ألف صاروخ، معظمها قصيرة ومتوسطة المدى، وأطلق منها حوالي 4 آلاف خلال تلك الحرب، كما توضح الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط، إيفا كولوريوتي.
ومع مرور الوقت، توسعت هذه الترسانة لتصل إلى ما بين 100 ألف و150 ألف صاروخ، وفقا لتقديرات استخباراتية، وتقارير وسائل الإعلام الغربية، وورقة بحثية نشرها مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية، في مارس 2024.
ومع ذلك تعتقد كولوريوتي في حديثها لموقع “الحرة”، أن العدد الأكثر منطقية هو 100 ألف صاروخ، أكثر من نصفها من نوع “كاتيوشا” و”غراد” قصيرة المدى، وجزء من هذه الترسانة يتكون من صواريخ متوسطة وطويلة المدى، تم تعديل بعضها لتصبح أكثر دقة.
بعد حوالي عام من اندلاع الصراع على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وأكثر من شهر منذ بدء العملية العسكرية الإسرائيلية، تم استنزاف مخزون حزب الله من الصواريخ، حيث أطلق حوالى 12 ألف صاروخ خلال السنة، وحوالى 6 آلاف خلال الشهر الحالي فقط، بحسب المتابعة التي أجرتها الخبيرة كولوريوتي.
كما شن الجيش الإسرائيلي هجمات دقيقة، منذ بدء عمليته العسكرية ضد مخزون حزب الله من الصواريخ بمستودعات البقاع، والهرمل، وضواحي بيروت الجنوبية، بالإضافة إلى غارات استهدفت الأنفاق التي كانت تستخدم لإطلاق الصواريخ من فتحاتها.
كولوريوتي لا تعتقد أن حزب الله فقد حوالي 80 بالمئة من مخزون صواريخه، كما ذكر وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت.
وترى في المقابل أن الجماعة اللبنانية المدعومة من إيران، فقدت حوالي نصف مخزون صواريخها، وأن الصواريخ الدقيقة وطويلة المدى هي التي تعرضت لأكبر قدر من الخسائر.
ويجب الإشارة عند تقدير حجم ترسانة حزب الله الآن، إلى أن الجماعة كانت وزعت أسلحتها على مدى العقود الماضية في مناطق مدنية، بحسب المسؤول السابق في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ديفيد دي روش.
ويقول دي روش لموقع “الحرة” إن الحزب لم يكن لديه أيضا “نظام قياسي للمستودعات، ما أعلمه هو أن إمكانية إعادة التزويد السريع من إيران لحزب الله لم تعد متاحة كما كانت قبل الغزو الإسرائيلي”، ويعتقد دي روش أن “الأضرار التي لحقت بمخزوناته كبيرة”.
بلغة الأرقام.. ماذا يمتلك حزب الله؟
دائما ما يكشف المسؤولون الإسرائيليون في فترات متقاربة عن تقديراتهم الخاصة بترسانة حزب الله، من منطلق توضيح نتائج حملتهم العسكرية في جنوب لبنان.
وبالعودة إلى الوراء كانوا صرحوا لصحيفة “نيويورك تايمز”، في الأول من أكتوبر الحالي، أن “الغارات في لبنان دمرت حوالي نصف الصواريخ والقذائف التي جمعها حزب الله على مدى أكثر من ثلاثة عقود”.
وبعد تلك التصريحات بـ12 يوماً نقلت صحيفة “يديعوت أحرنوت” عن غالانت، ورئيس قسم الاستراتيجية في الجيش الإسرائيلي، اللواء إليعازر ، قولهما إن “حزب الله أصبح يمتلك أقل من ثلث الصواريخ التي كان يمتلكها في السابق”.
قبل أن تبدأ الحملة الإسرائيلية المباشرة على حزب الله، نشر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) بحثاً شاملاً عن الترسانة العسكرية للجماعة اللبنانية، وجاء فيه أن عدد الصواريخ والقذائف التي تمتلكها يقدر بنحو 120 ألفا إلى 200 ألف.
ويتكون الجزء الأكبر من ترسانة حزب الله من صواريخ مدفعية أرض-أرض صغيرة غير موجهة، ويشمل الجزء المتبقي صواريخ مضادة للطائرات ومضادة للسفن. واعتبر المركز أن حزب الله هو على الأرجح الجماعة غير الحكومية الأكثر تسليحا في العالم.
وبالإضافة إلى مخزوناته من الصواريخ والقذائف، يمتلك ترسانة كبيرة من الطائرات بدون طيار، التي تشمل طائرات تجارية رباعية المراوح، وطائرات بدون طيار انتحارية، وذخائر متسكعة ومنصات أكثر تطوراً مع قدرات المراقبة والضرب.
لكن بعد مارس 2024، طرأت عدة تغيرات عسكرية على الأرض، وكان آخرها اتجاه إسرائيل إلى ضرب مستودعات الأسلحة، وتفجير الأنفاق ونشر تسجيلات مصورة، أظهرت فيها احتجاز قادة وعناصر من حزب الله.
وتزامنت التكتيكات الإسرائيلية في ضرب المستودعات والأنفاق، مع فرضها حظراً غير معلن على المعابر الواصلة بين سوريا ولبنان، في مسعى لقطع جميع طرق الإمداد.
ووفقا لـ”مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” تشكل الصواريخ والقذائف والأنظمة الجوية بدون طيار لحزب الله تهديدين “متميزين” لإسرائيل.
ويرتبط التهديد الأول بتهديد قسري، إذ يمكن للصواريخ والقذائف أن تقتل أو تصيب الإسرائيليين، سواء المدنيين أو العسكريين، أو تدمر البنية التحتية السياسية أو الاقتصادية المهمة في إسرائيل.
ويأتي التهديد الثاني من التأثيرات التكتيكية والعملياتية، إذ تصب أهداف الصواريخ والقذائف في إطار قمع أو استنزاف الجيش الإسرائيلي، للحد من فعالية عملياته. ويضيف المركز أن القضاء على التهديد الذي تشكله صواريخ حزب الله سيكون بالغ الصعوبة.
ويعود سبب ذلك حسب المركز إلى أن “الصواريخ يمكن إطلاقها من شاحنات، الأمر الذي يزيد من قدرتها على الحركة، وبالتالي قدرتها على البقاء، أو من مخابئ تحت الأرض، كما كان شائعاً أثناء حرب 2006”.
كما يتطلب اكتشاف وتدمير قدرات حزب الله الصاروخية جهوداً هائلة في مجال الاستطلاع والضربات الجوية، والتي تتضمن مجموعة متنوعة من الأصول الاستخباراتية، وقدرات الضربات الدقيقة، والقوات البرية.
ماذا تخبرنا المعطيات على الأرض؟
تعتقد الخبيرة كولوريوتي أن الأخطاء المتتالية التي أدت إلى خسارة حزب الله لقادة الصف الأول والثاني، ودفعته إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل، لم يرغب فيها أو يتوقع حدوثها، فرضت عليه تبني سياسة ترشيد إطلاق الصواريخ، سواء كانت طويلة المدى أو قصيرة المدى.
ولم يعد حزب الله الآن يطلق رشقات كبيرة دفعة واحدة، بل يفضل إطلاق عدة دفعات صغيرة نحو مواقع مختلفة، وفق الباحثة.
وكانت الجماعة تبنت هذه الاستراتيجية بناءً على عدم يقينها بشأن مدة هذه الحرب، التي قد تمتد لأشهر أخرى، وبناء على التهديدات والضربات التي باتت تطال خطوط إمداد الأسلحة والذخائر من سوريا.
وحصلت آخر ضربة يوم الأربعاء، إذ استهدفت طائرة مسيرة إسرائيلية سيارة فان على طريق عاريا، وتبين لاحقا أنها تحمل أسلحة، وفقا لمصدرين تحدث معهما موقع “الحرة”.
وتضيف كولوريوتي أنه “في حال تم إغلاق الحدود، سواء بقرار سياسي أو عسكري، فإن مخزون حزب الله من الصواريخ يكفي لأكثر من ستة أشهر إضافية، بوتيرة الإطلاق اليومية الحالية”.
لكنها تشير في المقابل إلى أن الجماعة لا تزال تمتلك كمية كبيرة من الطائرات الانتحارية، الإيرانية الصنع، والصواريخ المضادة للدبابات، التي يصل مدى بعضها إلى أكثر من 10 كيلومترات.
وتتوقع كولوريوتي أيضاً أن يزيد حزب الله من استخدام هذه الأسلحة في الفترة المقبلة، لتقليل استنزاف مخزون صواريخه.
من جهته يرى المسؤول السابق في البنتاغون، ديفيد دي روش، أن حزب الله يمتلك ما يكفي من الأسلحة للقتال على مستوى معين ولفترة زمنية.
لكن المسألة الغامضة هي ما إذا كان حزب الله قادراً على بسط قوته داخل إسرائيل، وفي الوقت الحالي، يبدو أن هذه القدرة تتراجع، بحسب المسؤول السابق في الدفاع الأميركية.
ومن غير المحتمل أن يتمكن حزب الله من جعل شمال إسرائيل غير صالح للسكن، كما فعل لبعض الأشهر في الفترة القريبة المقبلة.
ويوضح دي روش أن التدمير المنهجي من قبل إسرائيل لبنية حزب الله التحتية والمخزونات، ومواقع إطلاق النار في جنوب لبنان، سيشل قدرته على بسط قوته لعدة أشهر. لكن في المقابل سيظل قادراً على شن هجمات صغيرة ضد القوات الإسرائيلية في لبنان لفترة غير محددة.
أقرب للواقع أم لا؟
لا توجد مؤشرات حتى الآن على استعداد إسرائيل لوقف حملتها العسكرية ضد حزب الله. وبموازاة ما تعمل عليه في جنوب لبنان، تحاول العمل على تعطيل ممر الأسلحة الإيراني، مع التركيز على الطرق المؤدية إلى لبنان عن طريق البر والجو والبحر، بحسب ما نشره مركز “ألما” الإسرائيلي، الأربعاء.
جاء في تقرير للمركز أن الوحدة 4400 التابعة لحزب الله، التي قتلت إسرائيل آخر قائدين لها، تتولى مسؤولية تهريب الأسلحة والمعدات الأساسية والأموال والمنتجات إلى لبنان، بما في ذلك النفط.
ويوضح دي روش أنه من المحتمل أن يكون لدى الإسرائيليين تقديرهم الخاص، وهو ما يوجه عملياتهم وتقييماتهم. ويعتبر أن اختراق إسرائيل لقيادة حزب الله “مثير للإعجاب”، وعلى أساس ذلك فإن تقديراتهم الداخلية بشأن ما تبقى من ترسانته العسكرية “ربما تكون الأقرب إلى الواقع”.
لكن في المقابل يعتقد الخبير العسكري اللبناني، ناجي ملاعب، أن التقديرات التي تحدث عنها غالانت هي “مبرر لانسحاب الجيش قصد وقف الخسائر التي يتعرض لها من الاستنزاف اليومي”.
ويقول ملاعب لموقع “الحرة” إنه ومنذ 23 يوما “لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أي تمركز داخل لبنان بشكل دفاعي وعلى خط واحد”.
ويواصل الجيش الإسرائيلي التوغل وعمليات التهديم. إذ يبدو أنه يحاول “تنظيف منطقة في جنوب لبنان لكي تصبح مكشوفة على مسافة ٤ كيلومترات من الحدود، كما يرغب الجيش، أو 10 كيلومترات كما يرغب المستوى السياسي”، بحسب ملاعب.
ويرى الخبير العسكري اللبناني، أن الإعلان عن التقديرات الخاصة بحزب الله من جانب المستوى العسكري، تكاد تكون مرتبطة بحجم الخسائر الكبيرة وتمهيداً لأي انسحاب.
ويشير ملاعب إلى “وجود 900 إصابة و24 قتيلاً من الجيش الإسرائيلي معظمهم ضباط”، وأن هذا الأمر يأتي بالتزامن مع “مواصلة حزب الله إطلاق الصواريخ والمسيرات، التي بدأت بالوصول إلى أماكن لم تصلها قبل أن تبدأ إسرائيل عمليتها البرية”.
وكان تقييم الجيش الإسرائيلي قبل الحرب لمعدل إطلاق حزب الله للصواريخ نحو 1500 صاروخ يومياً، بينما يوجد اليوم نحو 200 صاروخ يطلقها حزب الله تجاه إسرائيل، كما قال أماتسيا برعام، الخبير في دراسات الشرق الأوسط والخليج لصحيفة “معاريف”، الخميس.
وأشار برعام إلى أن “عناصر حزب الله يبذلون كل ما في وسعهم باستثناء أمر واحد، وهو استخدام الصواريخ الاستراتيجية الثقيلة والدقيقة”، وقدر أن الإيرانيين كانوا يحرصون على الحفاظ على هذه الصواريخ ويوجهون حزب الله بعدم إطلاقها.
كما أضاف أن “القدرة على إدارة عمليات إطلاق الصواريخ الضخمة أصبحت محدودة أكثر، بسبب غياب العمود الفقري للقيادة المنظمة والتنسيق المستمر”.