عندما كان المسؤولون في طهران يصرحون خلال العامين الماضيين عن ضرورة تطوير أنظمة الدفاع الجوي في سوريا ويتحدثون عن نيتهم إرسال بعض البطاريات الخاصة بهم إلى هناك كانت التحليلات بشأن الهدف تذهب باتجاه مساعي إيران لحماية مصالحها ونقاطها العسكرية المنتشرة في غالبية المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
وتبين بعد الضربة الأخيرة التي نفذتها إسرائيل ضد مواقع عسكرية في قلب الأراضي الإيرانية، مطلع الأسبوع الحالي، أن الغاية المرتبطة بتطوير أنظمة الدفاع الجوي كانت ترتبط بهواجس أبعد وأكبر، وتحققت بالفعل عندما شقت طائرات إسرائيلية طريقها الجوي عبر سوريا والعراق.
ولم يسجل أي اعتراض للطائرات الإسرائيلية التي مرت من أجواء البلدين، وأكد موقف صدر من بغداد وتقارير نشرتها وسائل إعلام عبرية خلال اليومين الماضيين حصول عملية العبور على هذا المسار الجوي. وكان المسار واحدا من بين 3 احتمالات سبق وأن سلط الضوء عليها موقع “الحرة” في تقرير سابق.
وذكرت صحيفة “جيروزليم بوست” أن أكثر من 100 طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، بما في ذلك طائرات مقاتلة وطائرات بدون طيار قطعت حوالي 1600 كيلومتر عبر أراضي العدو (سوريا والعراق كما ورد).
وأضافت الصحيفة أن الطائرات هاجمت أكثر من اثني عشر هدفا عسكريا حساسا في عدد من الموجات المختلفة في جميع أنحاء إيران، وبعد ذلك عادت الطائرات المقاتلة على الأقل إلى مهابطها بسلام، معتبرة أن “إيران وبناء على ذلك أصبحت مكشوفة تماما”.
وقبل تنفيذ إسرائيل هجومها ضد إيران كان لافتا أن طائراتها ضربت رادارات وقواعد جوية تابعة للجيش التابع للنظام السوري في جنوب سوريا، وفي حين لم تعرف الآلية التي مرّت من خلالها المقاتلات من أجواء العراق أوضح خبراء ومراقبون لموقع “الحرة” أن العملية ربما كانت “سلسة” بالنظر إلى ضعف الدفاعات الجوية التي تمتلكها بغداد.
ويقول ريتشارد وايتز مدير مركز التحليل السياسي في معهد “هدسون” إن الطائرات الإسرائيلية اتخذت المسار “الأكثر منطقية”، حيث أطلقت الميليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق صواريخ على إسرائيل خلال العام الماضي، مما مكن الأخيرة من تبرير اختراقها.
بالإضافة إلى ذلك يوضح وايتز لموقع “الحرة” أن “كلا البلدين يمتلكان دفاعات جوية ضعيفة”، مرجحا في ذات السياق أن تستخدم إسرائيل نفس المسار الجوي مرة أخرى لمهاجمة إيران.
ما الذي تملكه سوريا والعراق؟
وتنفذ إسرائيل منذ سنوات طويلة ضربات جوية في سوريا، ودائما ما كان من بين أهدافها منظومات الدفاع الجوي التي يمتلكها النظام السوري، بينها “إس 200” وبطاريات “بانتسير” الروسية، فضلا عن الرادارات المنتشرة في مواقع عسكرية مختلفة.
ورغم أن الضرر الذي لحق بالدفاعات قد يكون سببا كفيلا بعبور الطائرات الإسرائيلية من أجواء سوريا بسلام يبرز عامل آخر ويتعلق بالأساس بالمنظومات الروسية، التي أثبتت في أكثر من حادث ضعفا كبيرا في عمليات المناورة والتصدي.
بالنسبة للعراق فيتألف نظام الدفاع الجوي فيه من مزيج من أنظمة الدفاع الجوي السوفييتية والغربية، ومع ذلك فإنه وعند الحديث عن هذه القضية كنظام متكامل قادر على التصدي للأهداف المعادية يكاد يرتسم مشهدا مخالفا للأمر بالصورة التي يجب أن يكون عليها.
ولأكثر من مرة منذ 2014 أثار المسؤولون العسكريون في العراق القضية المتعلقة بأنظمة الدفاع الجوي في البلاد.
وبعد 2019 تجدد الحديث عن ذلك على نحو أكبر بعد سلسلة هجمات متفرقة نسب البعض منها لتركيا والآخر لإسرائيل ولم تتبناها الأخيرة، واستهدفت مواقعا ونقاطا لـ”لحشد الشعبي”.
وكان أهم استحواذ دفاعي جوي قام به العراق بعد عام 2003 هو استحواذه على أنظمة بانتسير-إس1 متوسطة المدى من روسيا في عام 2014.
وقبل ذلك بعام (في 2013) لجأ إلى الولايات المتحدة للحصول على أنظمة دفاع جوي، وطلبت بغداد حينها في تلك الفترة 40 نظام دفاع جوي قصير المدى من طراز AN/TWQ-1 Avenger وثلاث بطاريات Hawk-21.
لكن وفي نهاية المطاف، لم يتلق العراق سوى ثماني بطاريات من طراز Avengers، ومن غير الواضح ما إذا كان يرغب في إحياء هذه الصفقة، كما ورد في تقرير لمجلة “فوربس”.
كما تضيف المجلة أن الولايات المتحدة الأميركية قد تبدي ترددا في توفير دفاعات جوية متقدمة للعراق إذا أصرت بغداد على خروج قوات التحالف بقيادتها من البلاد.
وعلاوة على ذلك فإن عناصر قوية مدعومة من إيران في بغداد قد تعارض هذا الاستحواذ لأنه ينص على توفير الدفاعات الجوية لإقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتي، بحسب “فوربس”.
كيف شقت إسرائيل طريقها؟
يعتبر الخبير الأمني العراقي، مجاهد الصميدعي أن العراق “ليس لديه أي سيطرة فعلية على الأجواء”.
ويقول لموقع “الحرة”: “السيطرة على الأجواء العراقية أميركية بحتة ومئة بالمئة”.
تمتلك الولايات المتحدة منذ سنوات كل القدرات المتعلقة بأنظمة الدفاع الجوي العراقية، وبينها منظومة “سيرام”، وعلى هذا الأساس “هي من لها القرار أيضا بفتح المجال الجوي أمام إسرائيل”، وفق حديث الصميدعي.
بالإضافة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها فتح المجال الجوي العراقي أمام الطائرات الإسرائيلية.
وفي السابق ضربت إسرائيل مواقع لـ”الحشد الشعبي” العراقي بذرائع مختلفة، وكان هناك عامل سماح من قبل القوات الأميركية لقيام إسرائيل بتنفيذ مثل هذه العمليات، بحسب الخبير الأمني العراقي.
الأجواء العراقية خلال الأشهر الماضية لم تكن مفتوحة أمام الطائرات الإسرائيلية فحسب، بل عملت إيران على اختراقها أيضا عدة مرات.
وفي حوادث سابقة حصلت العام الماضية أعلن “الحرس الثوري” الإيراني أنه قصف بناء في كردستان العراق بزعم أنه يعتبر “مقرا للموساد”.
وعندما أطلق “الحرس الثوري” هجمتين اثنتين منذ بداية العام الحالي ضد إسرائيل عبرت طائراته المسيرة الانتحارية وصواريخه البالستية من أجواء العراق أيضا.
ويعلّق الصميدعي على ما سبق بقوله: “العراق تحول إلى نقطة وسطية بين إسرائيل وإيران.. وعلى من يريد أن يضرب الآخر يجب أن يمر من أجواء العراق”.
ويرى الباحث السوري في الشأن الإيراني، ضياء قدور أن فتح مسار جوي مباشر بين إيران وإسرائيل للطائرات الحربية الغربية المتطورة يمثل تهديدا استراتيجيا كبيراللإيرانيين.
ويوضح لموقع “الحرة” أن “تحقق هذا السيناريو كسر قاعدة مهاجمة القواعد الإيرانية بشكل مباشر لأول مرة منذ الحرب العراقية الإيرانية”.
كما أضاف حصول السيناريو “نقاط قوة جديدة للقوة الجوية الإسرائيلية وكشف عن ضعف قاتل في الدفاعات الإيرانية ورادارات الإنذار المبكر”، وفقا لقدور.
“فقاعات دفاعية”
ولمواجهة التهديد الذي تعرضوا له مطلع الأسبوع الحالي سعى الإيرانيون خلال السنوات الماضية لتوسيع تعاونهم الدفاعي مع نظام الأسد وتوقيع اتفاقيات دفاع مشترك، بهدف تعزيز قدرات جيش النظام على التصدي للغارات الإسرائيلية.
وأشارت تقارير صحفية سابقة إلى أن الإيرانيين يسعون لتأسيس “فقاعات دفاعية” في محافظة دير الزور لمواجهة هذا الخطر المحتمل، بحسب الباحث السوري قدور.
ويضيف أن “جهود إيران لتطوير منظومات الدفاع السورية كانت تهدف إلى منع وقوع مثل هذا السيناريو الخطير”.
يعتمد جيش النظام السوري بشكل عام على منظومتي “أس 200″ و”بانتسير” الروسيتين، وأنظمة أخرى ثبت عدم كفاءتها، عندما كانت إسرائيل تشن هجمات جوية وصاروخية.
وبينما استلم منظومة الدفاع الجوي الروسية “أس – 300” قبل 6 سنوات، إلا أن موسكو أقدمت على سحبها قبل عام، بحسب ما كشفت تقارير إسرائيلية، وبسبب التداعيات التي فرضت عليها في حربها ضد أوكرانيا.
ومن جانب إيران كانت وسائل إعلام بينها وكالة “تسنيم” أشارت في فبراير 2024 إلى أن طهران بصدد تسليم النظام السوري منظومة دفاع جوي من نوع “خرداد 15”. ولم يتردد أي تفاصيل أخرى منذ تلك الفترة وسواء تم تسليمها بالفعل أم لا.
وأظهرت الهجمات الإسرائيلية أن إسرائيل تستطيع تحليق الطائرات الحربية عبر المجال الجوي السوري والعراقي دون القلق بشأن دفاعاتهم، كما يوضح الخبير وايتز لموقع “الحرة”.
ويقول الخبير إنه “يمكن القول إن إيران فقدت تماما قدرتها على السيطرة في أجواء العراق وسوريا، وخاصة أنها كانت تعتبر هذين البلدين خط دفاع أمامي”.
لكن وايتز يشير إلى إحدى المخاوف وترتبط بأن “روسيا قد تزود إيران في المستقبل بدفاعات جوية وصاروخية أفضل كمكافأة لمساعدتها في الهجوم الروسي على أوكرانيا”.
“إيران مكشوفة تماما”
وبعد يوم من الضربة الإسرائيلية الأخيرة اتهمت إيران إسرائيل باستخدام المجال الجوي العراقي لشن هجومها الأخير على مواقع داخل الأراضي الإيرانية، وهو ما أكدته بغداد في رسالة احتجاج أمام مجلس الأمن الدولي.
وذكرت هيئة الأركان في القوات المسلحة الإيرانية في بيان أن الطائرات الإسرائيلية استخدمت المجال الجوي العراقي المتاح للجيش الأميركي “لإطلاق عدد من الصواريخ المحمولة جوا البعيدة المدى والمجهزة برؤوس حربية خفيفة للغاية” نحو إيران في هجومها.
ولم يصدر أي تعليق من جانب النظام السوري كما الموقف الذي اتخذته بغداد.
لكن وسائل إعلام النظام السوري الرسمية كانت أكدت الضربات الإسرائيلية التي استهدفت عدة مواقع عسكرية في جنوب سوريا قبل أن تبدأ إسرائيل هجومها ضد إيران.
ويوضح الخبير الأمني الصميدعي أن باتت تلوح في الأفق “مخاطر من استخدام العراق لضرب دول مجاورة”.
ويقول في إشارة لإسرائيل وإيران: “هذه الدول تفكر بحق الدفاع عن نفسها، وبالتالي من الممكن أن تستخدم العراق وأراضيه وأجوائه مجددا، مما يجر البلد إلى معركة ليس طرفا فيها”.
كما يعتبر الخبير الأمني أن “السيطرة الأميركية على الأجواء العراقية قد تتيح أيضا لإسرائيل تنفيذ هجمات مشابهة في مراحل لاحقة”.
ورغم التقليل الأولي من أهمية الضربة الإسرائيلية الأخيرة تشير التقديرات في طهران إلى أن هذا الاختراق قابل للتكرار، مما يجعل من تطبيق نموذج المعركة الإسرائيلية بين الحروب في لبنان وسوريا على إيران محتملا بقوة، كما يوضح الباحث السوري، ضياء قدور.
ويقول إن “إسرائيل تسللت من خلال نقاط الضعف في وحدة الساحات وقضت تدريجياعلى عدد كبير من قادة محور المقاومة، مما يثير مخاوف من تسللها من خلال ثغرات التردد التي تعيشها طهران على المستوى السياسي والاجتماعي”.
“الحرب تطرق باب طهران اليوم، وهو سيناريو مخيف سعى النظام الإيراني لتجنبه بشدة خلال العقود الماضية من خلال سياسة الصبر الاستراتيجي”، وفقا لحديث للباحث.
ويتابع: “وفي ظل الوضع الحالي، تجد إيران نفسها في موقع أدنى في معادلة الردع، ويجب عليها التصرف لجعل الجولة متساوية على الأقل من خلال بناء معادلة ردع محكمة”.