يحتدم الجدل بين فرنسا وإسرائيل وصل حد إعلان وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس، في 20 أكتوبر/تشرين الأول، اعتزام حكومته البدء في إجراءات قانونية ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمنعه شركات أسلحة إسرائيلية من المشاركة في معرض الأسلحة البحرية “يورونيفال” الذي سيقام في باريس نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
قرار ماكرون ضد الشركات الإسرائيلية -وهو الثاني من نوعه هذا العام- جاء بعد سلسلة تصريحات له تنتقد العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان وتطالب بوقفه فورا، وتدعو إلى التوقف عن إمداد إسرائيل بالأسلحة الهجومية بعد أن أدى استخدامها في قطاع غزة إلى قتل آلاف المدنيين وتفجير أزمة إنسانية كبيرة.
وفي أحدث تصريح أثار غضب إسرائيل، قال الرئيس الفرنسي خلال اجتماع لحكومته، يوم الأربعاء 23 أكتوبر/تشرين الأول، إن على بنيامين نتنياهو أن يتذكر أن إسرائيل أنشئت بقرار من الأمم المتحدة، في إشارة إلى القرار الصادر عام 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية ودولة عربية، وبالتالي يعتبر ماكرون أنه يجب على نتنياهو ألا يتنصل من قرارات المنظمة الدولية.
وفي رده، اتهم نتنياهو فرنسا بمعاداة اليهود واعتبر أن إسرائيل لم تنشأ بقرار من الأمم المتحدة، بل بموجب انتصارها في حرب 1948 الذي تحقق بدماء المقاتلين، وبينهم العديد من الناجين من المحرقة، خصوصا من نظام فيشي في فرنسا، على حد زعمه.
وفي مؤشر يؤكد حالة التذبذب التي تطبع الموقف الفرنسي من الاحتلال الإسرائيلي، عاد ماكرون لينفي أنه شكك في قيام إسرائيل، متهما وسائل الإعلام وبعض أعضاء حكومته بنشر معلومات كاذبة، ومعربا عن “دهشته من ردود فعل وتعليقات قادة سياسيين أجانب أو فرنسيين، على تصريحات نُسبت إليه، دون أن يسألوا عما قاله بالضبط”.
وأكد ماكرون مجددا وقوف فرنسا دائما إلى جانب إسرائيل، وأن وجودها وأمنها أمران لا يمكن المساس بهما بالنسبة لفرنسا والفرنسيين على حد تعبيره.
متناقضة هي علاقة فرنسا وإسرائيل، فالبلدان تحالفا لدرجة أن فرنسا هي من زودت إسرائيل بمفاعلها النووي بعد ما رفضت أميركا، وتخاصما لدرجة أن إسرائيل تتهم الرؤساء الفرنسيين منذ شارل ديغول إلى إيمانويل ماكرون بكراهية اليهود، فما أبرز المنعرجات في هذه العلاقة المتذبذبة؟
دور فرنسا في إنشاء الدولة اليهودية
سبقت فرنسا بريطانيا في تشجيع اليهود على احتلال فلسطين، فخلال حملته على مصر عام 1798 دعا ملك فرنسا نابليون بونابارت اليهود للهجرة إلى فرنسا، متعهدا بالمساعدة في توطينهم هناك.
لكن نابليون فشل في حملته تلك، وجاء التوقيع لاحقا على اتفاقية “سايكس-بيكو” لتقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية، جعل فرنسا تتخلى عن خططها في فلسطين وتتنازل عنها لبريطانيا مقابل السيطرة على سوريا ولبنان.
ورغم أن فرنسا لم تعترف بالكيان الإسرائيلي الذي أعلن عن ميلاده في 14 مايو/أيار 1948 إلا بعد مرور عام، فإنها ساهمت لاحقا وبقوة في التمكين للدولة الناشئة.
ويعتبر الدارسون لتاريخ العلاقات الفرنسية الإسرائيلية أن الفترة من ميلاد إسرائيل إلى العام 1967 هي بمثابة العصر الذهبي الحقيقي في تاريخ تلك العلاقات.
ويورد الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط ألان غريش في دراسة نشرها على موقع “أوريان21” أن فرنسا كانت طيلة فترة الخمسينيات الحليف الأوفى لإسرائيل، مزودة جيشها بالأجهزة المتطورة وبطائرات الميراج، ومساعدتها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية.
وفي كتاب “إسرائيل والقنبلة” يؤكد المؤرخ الأميركي أفنير كوهين أن فرنسا كانت شريكا سريا للكيان الإسرائيلي الوليد في بناء ما سيصبح لاحقا مفاعل ديمونة النووي.
وقد بلغ التعاون العسكري بين الطرفين ذروته عام 1956 حين شارك البلدان إلى جانب بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس.
وزيادة على التعاون العسكري ساهمت فرنسا في تشييد البنية التحتية الإسرائيلية، ففي عام 1958 تولت بناء طريق بئر السبع-إيلات وتطوير ميناء حيفا.
فرنسا الديغولية ونقطة التحول
رغم أن فرنسا تمثل -كأي دولة غربية أخرى- صديقا بل حليفا إستراتيجيا لإسرائيل، فإن علاقات الطرفين تميزت بفترات من الجفاء بل والتوتر أكثر من أي دولة غربية أخرى.
وفي دراسة له بعنوان “فرنسا وإسرائيل: 70 عاما من العلاقات بين التقارب والفتور” نشرها في أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعتبر الكاتب الفرنسي رومان ديفيد أن فرنسا حاولت في علاقاتها بإسرائيل أن تختط لنفسها مسارا مختلفا يمكنها من الحفاظ على تلك العلاقة مع الإبقاء على شعرة صداقة مع العالم العربي من خلال ما وصفه بمحاولة تبني موقف متوازن من الصراع العربي الإسرائيلي.
وبدأ الأمر بمسار منذ أكثر من 60 عاما، إذ تبنى الرئيس الفرنسي شارل ديغول مع وصوله إلى السلطة نهاية الخمسينيات مواقف سعى عبرها للنأي ببلاده عن المظلة الأميركية المهيمنة على المواقف الغربية، وهو ما جعله يضع حدا لذلك التقارب الكبير الذي كان قائما مع إسرائيل التي تحولت مع الوقت إلى ابنة أميركا المدللة.
ففي دراسة بعنوان “ديغول في نظر اليهود”، نشرت عام 2021، تنقل الباحثة الفرنسية دومينيك شنابر عن ديغول قوله في مذكراته “لقد وضعت حدا لممارسات التعاون المسيئة على المستوى العسكري مع إسرائيل، وخصوصا التعاون الذي قدمناه لإنشاء مصنع قرب بئر السبع لتحويل اليورانيوم إلى بلوتونيوم، والذي يمكن أن ينتج في يوم من الأيام قنابل ذرية”.
غير أن الباحث الفرنسي الآخر دومينيك تريمبور في كتابه “العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، 1948-2004” ينفي أن يكون ديغول قد وضع حدا للتعاون العسكري مع إسرائيل، بل على العكس من ذلك أعطى موافقته على تزويد إسرائيل بكميات كبيرة من الأسلحة، حيث تم في عهده تجهيز سلاح الجو الإسرائيلي بطائرات ميراج حديثة.
وإن كانت مصادر أخرى تعتبر أن صفقة طائرات الميراج كانت مقابل تعهد إسرائيلي بعدم استخدام مفاعل ديمونة النووي -الذي تم تشييده بمساعدة فرنسا- لأغراض عسكرية.
وفي السياق ذاته، يورد الباحث الفرنسي آلان غريش أن ديغول نصح إسرائيل وهي تتأهب للحرب على الدول العربية عام 1967 بعدم بدء الهجوم تحت أي ظرف وإلا فسوف تتحمل المسؤولية عن حريق هائل له تأثيرات عالمية، معتبرا أن ما تتذرع به إسرائيل من ادعاء حصار مفروض على ميناء إيلات لا يشكل سببا للحرب، فالميناء المذكور لا يوفر سوى جزء صغير من التجارة الإسرائيلية.
لكن إسرائيل -يضيف غريش- لم تمتثل لنصيحة ديغول فشنت حربها وحققت نصرا سريعا في 6 أيام انتزعت خلالها قطاع غزة من الجيش المصري والقدس والضفة من الأردن.
وهكذا عظم لدى ديغول أن دولة فتية ساعدتها فرنسا كثيرا تُلقي بنصائحه عرض الحائط، فأدان تلك الحرب وما نتج عنها من احتلال للأراضي العربية، وقرر حظر بيع الأسلحة لإسرائيل ودعم قرار مجلس الأمن الداعي لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وذهب به الأمر خلال مؤتمر صحفي في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1967 إلى أن وصف اليهود “بالشعب الميال للسيطرة والواثق من نفسه”.
واعتبر غريش أن هذه المواقف والتصريحات جرت على ديغول انتقادات واسعة، إذ اُتهم حينها بمعاداة اليهود، ومع ذلك فإن أغلب الذين حكموا فرنسا بعده ساروا على نهجه فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، ففي عام 1975 أصبحت باريس أول عاصمة أوروبية تستضيف مكتبا تابعا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي العام نفسه وقعت فرنسا والعراق اتفاقية لإنشاء مفاعل نووي، وهو المفاعل الذي تم تدميره بغارة إسرائيلية عام 1981.
وفي العام 1973 كانت فرنسا على لسان ميشيل جوبير وزير الخارجية في عهد جورج بومبيدو متفهمة للهجوم العربي على إسرائيل، كما تم بضغط من فرنسا إصدار قادة الدول الأوروبية “لإعلان البندقية” في يونيو/حزيران 1980 الذي أكد على حق الفلسطينيين في الحصول على دولتهم المستقلة.
ويذكر الباحث تريمبور أنه كان لفرنسا دور كبير في عملية إخراج رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات من لبنان بعد اجتياحها من طرف إسرائيل في العام 1982 ليستقر في تونس.
حل الدولتين.. موقف فرنسي ثابت
إذا كان فرانسوا ميتران حاول من خلال أول زيارة يقوم بها رئيس فرنسي إلى إسرائيل أن يرأب الصدع الذي خلفته السياسة الديغولية في علاقات الطرفين، فإنه أكد في خطاب أمام الكنيست أن موقف فرنسا الثابت من الصراع في فلسطين هو حل الدولتين.
وفي نهاية الثمانينيات، انتقدت فرنسا بشدة إسرائيل بسبب قمعها الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطيني، وتم استقبال ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بباريس في مايو/أيار 1989.
لكن الكاتب رومان ديفيد يورد في دراسته أن ميتران سعى خلال تلك الزيارة لإقناع ياسر عرفات بإعلان إلغاء ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية الذي ينص على أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين.
ورغم اتهامات إسرائيلية لـ جاك شيراك بأنه صديق العرب وأنه ساعد في تسليح الجيش العراقي، سعى الرئيس الفرنسي لتعزيز العلاقات مع إسرائيل سواء من خلال تصريحاته عام 1995 التي اعترف فيها بمسؤولية فرنسا عن الاضطهاد الذي تعرض له اليهود على يد حكومة فيشي الفرنسية أثناء الحرب العالمية الثانية، أو من خلال زيارة لإسرائيل في العام 1996.
لكن لا يبدو أن تلك الزيارة كانت ناجحة بما فيه الكفاية، حسب ما عكسته تلك المشادة الساخنة التي وثقتها كاميرات شبكة (سي إن إن) بين الرئيس الفرنسي أثناء جولة في شوارع القدس القديمة وبين عناصر أمن إسرائيليين منعوه من الاتصال بالسكان الفلسطينيين، حيث هدد شيراك بقطع الزيارة إذا واصل الإسرائيليون منعه من التواصل مع الفلسطينيين.
وقد حاول أيضا رئيس الوزراء الفرنسي ليونيل جوسبان خلال زيارة لإسرائيل في فبراير/شباط 2000 استمالة إسرائيل حين وصف حزب الله اللبناني بأنه “إرهابي”.
وفي العام 2004 وبعد انتقادات متزايدة في فرنسا لقمع إسرائيل الانتفاضة الفلسطينية الثانية، اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها أرييل شارون أن هناك معاداة للسامية تنطلق من فرنسا الحالية وطلب من اليهود الفرنسيين الهجرة إلى إسرائيل، وهي تصريحات أثارت توترا في علاقات البلدين.
وفي العام 2011، صوتت فرنسا لصالح انضمام فلسطين إلى اليونسكو، وفي العام الموالي صوتت أيضا لصالح الاعتراف بفلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة.
ورغم تحسن العلاقات بين فرنسا وإسرائيل في عهد نيكولا ساركوزي نظرا لتبنيه نهجا جديدا اتسم بالتبعية للسياسة الأميركية، فإن الصحافة استرقت السمع لحديث له مع الرئيس الأميركي باراك أوباما على هامش قمة مجموعة العشرين في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 قال فيه ساركوزي “لم يعد بإمكاني رؤية نتنياهو، إنه كاذب”.
لكن تصريحات ساركوزي العلنية كانت مختلفة تماما ومتفانية في دعم إسرائيل، فقد نقل عنه قوله إنه لا يصافح من يرفض الاعتراف بدولة إسرائيل، ونقل عنه أن “أمن إسرائيل خط أحمر”، وأن “قيام دولة إسرائيل معجزة”، وأنه “الحدث الأهم في القرن العشرين”.
وقد تعززت حالة التبعية لأميركا والتقارب مع إسرائيل خلال حكم الاشتراكي فرانسوا هولاند واستمرت “إلى حد ما” مع الرئيس الحالي ماكرون.
الموقف من “طوفان الأقصى”
منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تذبذبت المواقف الفرنسية كعادتها بين الانحياز لإسرائيل والدعوة لوقف العدوان على غزة.
فقد كان ماكرون من أوائل الرؤساء الغربيين الذي توافدوا على إسرائيل للتضامن معها، لكن مع استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة ما فتئ الرئيس الفرنسي يثير غضب الإسرائيليين بتصريحاته، خصوصا دعوته إلى وقف توريد الأسلحة لإسرائيل واعتبار استمرارها في العدوان على القطاع خطر على أمنها ومستقبلها، واعتباره أن الشعب اللبناني لا يمكن أيضا التضحية به وليس مقبولا أن يصبح لبنان غزة جديدة.
لكن اللافت أن تصريحات ماكرون زادت حدة مع بدء العدوان الأخير على لبنان الذي يحظى بمكانة خاصة لدى فرنسا.
واستمرارا لحالة التذبذب عاد ماكرون ليغرد تضامنا مع إسرائيل بمناسبة الذكرى الأولى لطوفان الأقصى فكتب “لا يزال الألم حاضرا، وأكثر حدة مما كان عليه الحال قبل عام، ألم الشعب الإسرائيلي ألمنا نحن، وألم الإنسانية الجريحة”.
أخير، ورغم ما يحاول بعض الباحثين الفرنسيين تصويره من أن العلاقات الفرنسية الإسرائيلية هي ببساطة علاقات بين الدول تنبع مما تمليه المصالح الفرنسية ولا تتميز مثلا بذلك الطابع الخاص الذي يميز العلاقات الألمانية الإسرائيلية، فإن فرنسا تبقى من أقدم أصدقاء إسرائيل حيث فتحت لها مبكرا باب التكنولوجيا النووية مع ما يعنيه ذلك من تفوق عسكري واقتصادي.
لكن مع ذلك، لا جدال في أن الفرنسيين اتخذوا لاحقا مواقف تختلف عن مواقف الدول الغربية الأخرى فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، وهو ما جعل قادة فرنسا عرضة أكثر من أي بلد غربي آخر للاتهامات الإسرائيلية بمعاداة اليهود والسامية، تلك التهمة التي تتخذ منها إسرائيل سلاحا ترفعه في وجه كل من ينتقد تصرفاتها العدوانية الاحتلالية.