رسمت دراسة لباحثين من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا (كاوست) ومعهد التقنيات النووية بمدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، صورة بحثية لمستقبل تصبح فيه “مفاعلات الملح المنصهر” -بوصفها تكنولوجيا نووية واعدة ومتطورة- مركزا مهما في خطة السعودية التي تهدف إلى تنويع مصادر الطاقة وتحقيق الاستدامة
واستكشفت الدراسة المنشورة في دورية “نيوكلير إنجنيرنغ آند تكنولوجي” جدوى وإمكانات تنفيذ مفاعلات الملح المنصهر في المملكة، وسلطت الضوء على مزاياها التقنية والبيئية والاقتصادية، مقارنة بأساليب توليد الطاقة التقليدية، وأكدت الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه مفاعلات الملح المنصهر.
كيف تعمل هذه المفاعلات؟
ومفاعلات الملح المنصهر نوع من المفاعلات النووية المتقدمة التي تستخدم الأملاح المنصهرة مبرّدا ووسطا لحمل الوقود النووي.
وفي تصريح للجزيرة نت، يشرح علي عبده، رئيس قسم الهندسة النووية بشركة هليون للطاقة بسياتل بأميركا، للجزيرة نت آلية عملها في الخطوات الآتية:
أولا: عندما تمتص مادة انشطارية مثل “اليورانيوم 235” أو “اليورانيوم 233” نيوترونا، فإنها تنقسم إلى ذرات أصغر، وتطلق طاقة في شكل حرارة، جنبا إلى جنب مزيد من النيوترونات، والتي يمكن أن تؤدي إلى مزيد من تفاعلات الانشطار.
ثانيا: تولد عملية الانشطار كمية كبيرة من الحرارة، ليعمل الملح المنصهر وسيطا لنقل الحرارة، ويحمل الطاقة الحرارية بعيدا عن قلب المفاعل، ونظرا لأن الملح المنصهر يمكن أن يعمل في درجات حرارة عالية للغاية (500-700 درجة مئوية أو أعلى)، فإنه يسمح بنقل الحرارة بكفاءة.
ثالثا: يتدفق خليط الوقود الملحي المنصهر عبر المبادل الحراري، حيث يتم نقل الحرارة الناتجة عن الانشطار النووي إلى حلقة ثانوية، ليتم استخدام الحرارة من الحلقة الثانوية لإنتاج البخار، الذي يعمل على تشغيل التوربينات المتصلة بالمولدات، وتحويل الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية.
مفتاح لتنويع الطاقة والاستدامة
وهذه المفاعلات وفق الشرح السابق، يمكن أن تساهم بشكل كبير في أهداف رؤية المملكة العربية السعودية 2030، كما يرى الباحثون في الدراسة.
ويوضحون أنه “على عكس المفاعلات النووية التقليدية، تستخدم مفاعلات الملح المنصهر مزيجا سائلا من الأملاح وقودا ومبرّدا، مما يوفر سلامة وكفاءة معززة، تجعل هذه التقنية مفيدة في تحويل مشهد الطاقة في المملكة، من خلال توفير نوع نظيف وفعال، مع الحد من التأثير البيئي السلبي لتوليد الطاقة”
ووفق الدراسة، فإن هذه المفاعلات توفر مزايا كبيرة مقارنة بتقنيات توليد الطاقة التقليدية، إذ يمكنها تحقيق كفاءة أعلى في استهلاك الوقود، وتقليل النفايات المشعة، والعمل بتكاليف تشغيلية منخفضة على المدى الطويل.
بالإضافة إلى ذلك، فإن مرونة المفاعلات النووية الدقيقة في استخدام أنواع مختلفة من الوقود النووي، بما في ذلك الثوريوم، تعزز جاذبيتها لتوليد الطاقة المستدامة.
ومن الناحية البيئية، تنتج هذه المفاعلات أحجاما أقل من النفايات المشعة طويلة العمر، مقارنة بالمفاعلات النووية التقليدية، وهذا يجعلها خيارا أنظف وأكثر أمانا لإنتاج الطاقة النووية، بما يتماشى مع أهداف المملكة العربية السعودية لمستقبل طاقة أكثر خضرة.
والأهم أنه لا توجد مخاطر كبيرة من حدوث انفجارات في تلك التفاعلات، والسبب أنه يتم “التشغيل تحت ضغط منخفض”، فعلى عكس المفاعلات المبردة بالماء التقليدية، تعمل مفاعلات الملح المنصهر عند ضغوط منخفضة لأن الملح المنصهر يظل سائلا في درجات حرارة عالية، مما يقلل بشكل كبير من خطر حدوث انفجارات تحت ضغط مرتفع.
ومن عوامل الأمان أيضا أنه يتم تصميم هذه المفاعلات بميزات سلامة سلبية، مما يعني أنه يمكن إيقاف تشغيلها بأمان دون الحاجة إلى تدخل بشري، وإحدى آليات السلامة الرئيسية هي سدادة التصريف وصمام التجميد.
وتعني هذه الآلية أنه في حال ارتفاع درجة الحرارة، تذوب سدادة التجميد المصنوعة من الملح الصلب، مما يسمح للوقود الملحي المنصهر بالتدفق إلى حاوية منفصلة مبردة بشكل سلبي، وهذا يوقف التفاعل النووي على الفور ويسمح للمفاعل بالتبريد بأمان دون خطر الانهيار.
التحديات والفرص
وتقر الدراسة بأنه في حين تقدم هذه المفاعلات عديدا من الفوائد، إلا أن هناك عقبات تقنية يجب التغلب عليها، خاصة في تطوير المواد القادرة على تحمل الظروف القاسية لتشغيل المفاعلات النووية الدقيقة.
ومع ذلك، يرى الباحثون أن الاستثمار المتزايد للمملكة العربية السعودية في البحث والتطوير مهيأ لمعالجة هذه التحديات، وبفضل دعم المؤسسات البحثية وشركات الطاقة الرائدة، أصبحت المملكة مجهزة جيدا لدفع عجلة الابتكار في هذا المجال.
وتقول الدراسة إن “تبني تقنية المفاعلات النووية الدقيقة لا يمكن أن يضع المملكة العربية السعودية في مرتبة رائدة في مجال ابتكار الطاقة النووية فحسب، بل يمهد الطريق أيضا لخلق فرص عمل كبيرة، وتنويع الاقتصاد، وبنية تحتية للطاقة أكثر نظافة ومرونة”.
اتجاه لا مفر منه
وبعيدا عن المزايا البيئية والاقتصادية التي تقدمها الدراسة لتسويق الفكرة، يقول عبده في تصريحه للجزيرة نت إنه “لا بديل عن تنويع مصادر الطاقة”.
ويؤكد عبده أن دعوات التخلص من الوقود الأحفوري غير واقعية ولن تتحقق، وقال: “العالم يسير باتجاه التنويع، بحيث يظل الوقود الأحفوري رقما في معادلة الطاقة، قد يقل الاعتماد عليه نسبيا لصالح الحلول الأخرى، الأقل تلويثا للبيئة، وفي مقدمتها الطاقة النووية، لكنه يظل قائما”.
وأوضح أن الصين تبني في الوقت الحالي 100 مفاعل نووي، وكثير من الشركات الأميركية العملاقة تتجه لاستخدام الطاقة النووية في التشغيل، بعد أن ثبت صعوبة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي ثبت أنها غير عملية بالشكل الكافي.
وأضاف أن “مثل هذه المصادر تحتاج، حتى تكون عملية في الاستخدام، إلى حدوث ثورة في وسائل تخزين الطاقة، بحيث تتيح التخزين في أوقات الوفرة للاستخدام في أوقات يكون فيها سطوع الشمس وهبوب الرياح غير مناسب لتوليد الطاقة، وعلى العكس من ذلك، توفر الطاقة النووية حلا دائما لتوليد الطاقة لا يرتبط بظروف متغيرة”.
ويرى عبده أن “المملكة العربية السعودية تملك من القوة المالية ما يمكنها من تحمل تكاليف إنشاء مفاعلات الملح المنصهر، لكن المشكلة قد تكون فنية، حيث ستحتاج إلى إبرام اتفاقيات مع الدول الرائدة في هذا النوع من الطاقة لنقل تلك التكنولوجيا، والشيء الإيجابي هو أن أصبحت لديها مؤسسات بحثية رائدة ستساعد على ذلك، مثل جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست)”.
ورغم أن المملكة ربما لا يكون لديها مشكلة في بناء منشأة نووية ضخمة، فإن هناك حلولا يتم تنفيذها للتغلب على العائق المادي.
ويقول عبده في ختام حديثه للجزيرة نت إن “عديدا من تصميمات مفاعلات الملح المنصهر تتسم بأنها معيارية، مما يسمح بإنشاء محطات أصغر حجما، فبدلا من بناء منشأة نووية مركزية كبيرة دفعة واحدة، وهو ما قد يكون مكلفا ويستغرق وقتا طويلا، تسمح التصميمات المعيارية ببناء مفاعلات أصغر حجما، ويمكن توسيع المرافق بمرور الوقت عن طريق إضافة مزيد من الوحدات مع نمو الطلب على الطاقة، ويتيح هذا النهج التدريجي للمشغلين البدء باستثمار أصغر وزيادة السعة تدريجيا دون الحاجة إلى تكلفة أولية ضخمة”.