الضربة الإسرائيلية لإيران هل هي مسرحية أم رد محسوب؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 20 دقيقة للقراءة

بعد قرابة 4 أسابيع من الانتظار، وجهت إسرائيل عدة ضربات جوية لإيران فجر السبت 26 أكتوبر/تشرين الأول، طالت مواقع عسكرية في العاصمة طهران تحديدا في قطاعها الغربي، وفي مدينة كرج شمال غرب طهران، فضلا عن أهداف في محافظتي عيلام وخوزستان في غرب وجنوب غرب إيران على الترتيب.

سبق الضربة الإسرائيلية تصعيد خطابي إسرائيلي تجاه إيران منذ هجومها الصاروخي على إسرائيل مطلع الشهر الحالي، مع تهديدات بالغة الحدة، باستهداف منشآت البرنامج النووي الإيراني والبنية التحتية النفطية للبلاد.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

الفيلق اليهودي كيف أعادت الحركة الصهيونية إحياء جيشها بعد آلاف السنين؟

list 2 of 2

النار من كل مكان فهل باتت مبادئ بن غوريون فاشلة في حماية إسرائيل؟

end of list

غير أن الرد الإسرائيلي الفعلي لم يرق إلى مستوى التهديدات وسلك أقل السيناريوهات توقعا، مما أثار انتقادات داخل إسرائيل نفسها وفي الوقت نفسه منح السلطات الإيرانية الفرصة للتقليل من حجمها وفعاليتها. وتمهد تلك الضربة المحدودة وردود الفعل حولها، الطريق لكسر المسار التصعيدي للمواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، والسماح بتراجع عجلة الحرب خطوة إلى الخلف نحو جبهة المواجهة الرئيسية بالنسبة لجيش الاحتلال في غزة إضافة إلى الجبهة اللبنانية المشتعلة.

بالقطع، لا يوفر هذا السيناريو نصرا حاسما لأي من الأطراف ولكنه يوفر نقطة توازن بين المصالح المرجوة والخسائر المحتملة، تاركا لكل طرف الفرصة لصياغة ما حدث بالشكل الذي يخدم أهدافه السياسية.

على الجانب الإسرائيلي، يمكن للجيش الإسرائيلي أن يتباهى بقدرته على استهداف العمق الإيراني بدقة ومرونة في غير ما مناسبة، مع تجنب التكاليف اللوجستية لعملية أكثر جرأة وتعقيدا كانت ستتطلب حشدا أكبر للموارد العسكرية ودعما أوسع من الولايات المتحدة، فضلا عن كونها ستثير ردا واسعا من إيران وتصعيدا لتوترات يبدو أن إسرائيل اختارت تجنبها في الوقت الذي تخوض فيه الحرب على أكثر من جبهة.

في المقابل، يمكن لإيران القول بأنها نجحت في فرض معادلة جديدة أصبح استهداف الأراضي الإسرائيلية معها خيارا مطروحا حال تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء، مع إقرار ضمني بذلك من واشنطن وتل أبيب كليهما.

أما الولايات المتحدة فتعد هي الرابح الأكبر في تلك الجولة حيث نجحت في تجنب مواجهة عسكرية لا يمكن التنبؤ بعواقبها في الشرق الأوسط قبل أيام قليلة من الانتخابات، وتمكنت من كسب أسابيع إضافية من الوقت في انتظار تحديد هوية الرئيس القادم ووصفته الخاصة لإدارة الصراع.

ومع ذلك، يبقى التساؤل الأهم الذي يحتاج إلى إجابة هو: ما الذي دفع إسرائيل، عكس ما كان متوقعا من قبل الكثيرين، إلى اختيار مسار التهدئة مع إيران في الوقت الراهن؟ ولفعل ذلك علينا أن نقرأ سريعا مشهد المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة، مع تسليط الضوء على تفاصيل الضربة الإسرائيلية الأخيرة ومغزاها.

هكذا صممت إسرائيل ضربتها

يمكن تشبيه المواجهة الحالية بين إسرائيل وإيران بمباراة للشطرنج يقع العبء الأكبر فيها على صاحب الدور في اللعب، الذي يتعين عليه الرد على نقلات خصمه السابقة.

وبعد اغتيال إسرائيل لرئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل هنية في قلب طهران، وإقصائها للصف القيادي لحزب الله بالكامل بمن في ذلك الأمين العام حسن نصر الله، وقع الدور على إيران التي أمضت أسابيع لتصميم ضربة تتلاءم مع حجم الفعل الإسرائيلي ليس بغرض التصعيد الذي تعد طهران أحرص الطرفين على تجنبه، ولكن بهدف ردع إسرائيل عن رفع السقف تقديرا منها أن إيران غير قادرة على الرد.

وهكذا جاءت الضربة الصاروخية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الحالي لتثبت قدرة طهران على استهداف العمق الإسرائيلي بفعالية كبيرة محدثة أضرارا محسوبة بدقة، لا هي قليلة للدرجة التي تجعل الضربة رمزية أو مسرحية ولا هي واسعة كي يصبح معها التصعيد خيارا حتميا، ولتؤكد في الوقت نفسه على قاعدة جديدة في توازن القوى تنص على إمكانية استهداف الأراضي الإسرائيلية مباشرة من إيران وهي القاعدة التي أرستها طهران لأول مرة في أبريل/نيسان الماضي حين استهدفت إسرائيل بضربة صاروخية من أراضيها للمرة الأولى في تاريخ الصراع.

بعد الرد الإيراني، انتقل عبء الاستجابة إلى إسرائيل التي حان دورها لحسم حركتها. وكان عليها أن تختار بين خيارين رئيسيين: إما توجيه ضربة واسعة بهدف إعادة إرساء الردع، تشمل منشآت طهران النفطية والأهم برنامجها النووي، ما يزيد من خطر توسع المواجهة، وإما الاكتفاء برد “رمزي” استنادا إلى ما حققته في الضربات السابقة، من أجل منح مساحة لخفض التصعيد على تلك الجبهة.

وعلى مدار الأسابيع الأخيرة كان السيناريو الأول هو الأكثر ترجيحا، لكن المفاجأة أن تل أبيب سلكت الخيار الثاني، وهي المرة الأولى التي تستجيب بها إسرائيل “بشكل جراحي” ودون سقف القوة أو الوحشية المتوقعة منها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

تشير الرواية الإسرائيلية إلى أنها استهدفت 20 موقعا عسكريا في إيران بمشاركة مئة مقاتلة جوية، ونفذت الهجوم عبر 3 موجات استغرقت نحو 4 ساعات بدءا من الساعة الثانية صباح السبت، وركزت الموجة الأولى على استهداف منظومات الدفاع الجوي والرادارات، فيما توسعت الموجتان اللاحقتان لتشملا قواعد صاروخية ومنشآت لتصنيع الطائرات بدون طيار.

ويظهر حجم الدمار في المواقع المستهدفة أن الضربة كانت “دقيقة للغاية” ولم تحدث أضرارا واسعة النطاق، مقارنة حتى بالدمار الذي أحدثته الصواريخ الإيرانية في بعض المواقع الإسرائيلية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما يتسق مع ما نقلته وكالة تسنيم الإيرانية التي شككت في الرواية الإسرائيلية حول حجم الضربة، مؤكدة أن عدد المواقع المستهدفة كان أقل مما تدعيه إسرائيل.

والأهم في هذا السياق هو أن إسرائيل تجنبت تماما، بحسب رواية الطرفين، استهداف أي من مواقع البرنامج النووي والمنشآت النفطية في البلاد، أو استهداف مقرات الحكم والشخصيات البارزة في القيادة الإيرانية، الأمر الذي كانت تهدد به إسرائيل قبل الضربة.

لكن ذلك لا يعني أن الضربة الإسرائيلية كانت فارغة تماما، حيث نجح الجيش الإسرائيلي في تقديم استعراض لقدرته على الوصول للمجال الجوي الإيراني عبر مسار طويل اخترق فيه الدفاعات الجوية لبلدين هما سوريا والعراق على الأرجح، ممهدا للضربات من خلال قصف الدفاعات الجوية والرادارات في كلا البلدان كما أوردت صحيفة نيويورك تايمز.

كما أظهرت الاستهدافات، رغم محدودية طاقتها النيرانية، قدرات استخبارية إسرائيلية في الداخل الإيراني ومقدرة على تحديد مواقع منشآت عسكرية بدقة، والأهم أنها اقتربت من محيط المنشآت النووية المهمة، واستعرضت قدرتها على الوصول إليها.

كذلك لم يكن اختيار محافظة خوزستان للضربات الإسرائيلية عشوائيا على ما يبدو، فثمة رسائل تريد إسرائيل توصيلها لطهران عبر استعراض وصول نيرانها إلى خوزستان، حيث يقع في هذه المحافظة الحدودية، المجاورة للعراق ومياه الخليج العربي، أغلب حقول النفط الإيرانية بما يمثل قرابة ثلثي الإنتاج النفطي للبلاد، كما تضم محطة “كارون” النووية، أحدث مشروعات الطاقة النووية في إيران والتي بدأ إنشاؤها عام 2022، بالإضافة لهذا، يقع في خوزستان “مجمع فارس الجنوبي للغاز”، المسؤول عن إنتاج الشق الأكبر من الغاز الإيراني.

صممت الضربة إذا لتوجيه رسائل سياسية إلى إيران، مع منحها الفرصة في الوقت نفسه لتجنب التصعيد عند اختيار خطوتها القادمة. ولا أدل على ذلك مما أورده موقع أكسيوس الأميركي حول كون إسرائيل أبلغت إيران عبر أطراف ثالثة بالأهداف التي تنوي استهدافها وحذرتها من أن أي رد انتقامي سوف يقابل بهجوم أكثر قوة خاصة إذا تسبب في مقتل أو إصابة إسرائيليين، وهي الرسالة ذاتها التي نقلتها إدارة بايدن إلى طهران معبرة عن رغبتها أن تكون تلك الضربة نهاية لمعركة اللكمات المتبادلة بين الطرفين.

في السيناريو المثالي إذن، تريد إسرائيل ومن ورائها أميركا أن تمتنع إيران عن الرد مجددا، وتتراجع إلى المقعد الخلفي مكتفية بإسناد “محور المقاومة” على الجبهتين المشتعلتين في غزة ولبنان، وفي أسوأ الأحوال أن تكتفي برد رمزي (أقل حدة من سابقه) تاركة الكرة في ملعب إسرائيل لإنهاء هذه الجولة من التصعيد المتبادل. ولكن بالعودة إلى السؤال الرئيس: لماذا اتخذت إسرائيل هذا النهج على الرغم من تصريحات قادتها التي رفعت سقف التوقعات بشأن ضربة أكثر قوة وحسما؟.

الدور الأميركي: مفتاح السر

العامل الأول بكل تأكيد هو الضغوط الأميركية التي تصاعدت على القادة الإسرائيليين خلال الأسابيع الماضية، وقد أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بيانا يوم الثلاثاء 16 أكتوبر/تشرين الأول قال فيه “إن إسرائيل ستنصت إلى الولايات المتحدة” مردفا أنها “ستتخذ قراراتها بناء على المصلحة الوطنية”.

وكان نتنياهو قد تلقى تحذيرات من الرئيس الأميركي جو بايدن من استهداف أي منشآت نفطية أو نووية في إيران في إطار الرد الذي تجهز له إسرائيل على الضربة الإيرانية المتوقعة. وقال وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الخميس الماضي إن الولايات المتحدة “تنسق بشكل وثيق مع إسرائيل بشأن ما هو ضروري لردع المزيد من الأعمال العدائية من جانب إيران ولضمان ألا يؤدي أي رد إلى دائرة لا نهاية لها من التصعيد”.

اجتماع ثنائي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (وكالة الأناضول)

ومع أن نتنياهو وفريق إدارته يحاولون التقليل من التأثير الأميركي على اتخاذ قراراتهم لإظهار دولتهم على أنها دولة مستقلة لديها من القوة ما يكفي لاتخاذ قراراتها العسكرية، حيث علق مكتب نتنياهو أمس السبت على تقارير إعلامية إسرائيلية تحدثت عن الدور الأميركي في تحجيم الضربة واصفا إيها بأنها “مجرد كذبة”، إلا أن هذه السردية لا تنسجم مع المعطيات العسكرية والجيوسياسية التي تجعل إسرائيل، بالفعل، غير قادرة على اتخاذ قرار الحرب مع إيران منفردة.

على المستوى العسكري، يعد توجيه ضربة عسكرية قوية إلى إيران مسألة تتجاوز قدرة إسرائيل رغم الفارق الواضح في ميزان القوى لصالح دولة الاحتلال بكل تأكيد. على سبيل المثال، يتطلب توجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية الرئيسية في فوردو ونطنز استخدام قنابل قادرة على اختراق عشرات الأمتار من الصخور والخرسانة المسلحة قبل أن تنفجر داخل المباني أو الأهداف.

ويعد السلاح التقليدي (غير النووي) الوحيد القادر على تحقيق هذا الهدف بشكل معقول هو القنابل الخارقة للتحصينات، الأميركية الصنع، وأهمها القنبلة “جي بي يو 57 إيه بي” (GBU-57A/B).

هذه القنبلة لا يمكن حملها بواسطة الطائرات المقاتلة الأميركية العادية، بما في ذلك طائرات الجيل الخامس “إف-35” التي تحوزها إسرائيل، لكنها تحمل فقط عبر قاذفة الشبح الأميركية “بي 2 سبيريت” (B-2 Spirit) التي لا يوجد منها سوى 21 نسخة فقط عالميا تُشغَّل جميعا بواسطة القوات الجوية الأميركية.

وبعيدا حتى عن مسألة القنبلة وحملها، يتطلب تنفيذ هذه العملية وفق صحيفة فايننشال تايمز البريطانية سربا كبيرا من الطائرات متعددة المهام يتجاوز 100 طائرة لضرب أهداف متزامنة، وهو ما يزيد من تعقيد العملية لوجيستيا بفرض أن إسرائيل تمتلك القوة اللازمة لمثل هذه الضربة.

سياسيا، يدرك الأميركيون جيدا تعقيدات الملف الإيراني أكثر بكثير من الإسرائيليين، فبعد كل شي إيران هي دولة نظامية مندمجة في منظوماتها الخاصة للتحالفات والعلاقات الدولية، وليست فصيلا مسلحا، مما يعني أن هناك تداعيات سياسية أوسع بكثير لخوض حرب ضد إيران. وتعد علاقات طهران مع كل من الصين وروسيا تحديدا من النطاقات الشائكة التي يمكن أن تجعل الحرب ضد طهران غير مأمونة العواقب.

فعلى الرغم من غياب الوضوح الإستراتيجي بشأن موقف روسيا من إيران التي تشاركها التنافس على النفوذ في محيطها الجيوسياسي الجنوبي (جمهوريات آسيا الوسطى)، فإن الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن التقاء مصالح كبير بين طهران وموسكو، ويسود اعتقاد غربي بأن روسيا باتت تعتمد على إيران في قطاعات مهمة من قدراتها العسكرية، وأن إيران زودتها بصواريخ باليستية تكتيكية قصيرة المدى ومسيرات استخدمتها بفاعلية في الحرب على أوكرانيا، بل إن تقارير مشابهة صدرت الأيام الماضية اتهمت روسيا بتزويد حركة أنصار الله في اليمن (الحوثيون) بصواريخ باليستية طويلة المدى.

وبالنسبة للصين، فقد دفعت العزلة الغربية المفروضة على إيران منذ الثورة في 1979 إلى تعميق علاقاتها الاقتصادية مع بكين، حتى باتت الأخيرة تمثل لإيران شريان حياة اقتصادي وتجاري، كما أن الصين تنظر لطهران أيضا كمصدر للطاقة أكثر أمانا في حال فرض عقوبات غربية على بكين يوما ما.

صحيح أن موسكو وبكين من غير المرجح أن تتدخلا مباشرة في صراع مباشر بين إيران وإسرائيل أو بين إيران والولايات المتحدة إلا أنهما ستستغلان هذه الخطوة لتقويض الموقف الدولي لأميركا، وربما لتبرير تحركات عسكرية خاصة بهما سواء في أوروبا (بالنسبة لموسكو) أو في تايوان وبحر جنوب الصين (بالنسبة لبكين).

هذا التعقيد الجيوسياسي يجعل الولايات المتحدة غير متحمسة، حاليا، للدخول في حرب مع إيران، وتعتقد أن لديها من أدوات الضغط الطويل المدى على طهران ما يجعلها في غنى عن الاستجابة لمغامرات نتنياهو، وخاصة في ظل قلق الديمقراطيين من أن اشتعال الحرب قبيل الانتخابات ربما يعطي ذريعة أكبر لحملة ترامب لإبراز فشل الديمقراطيين في ضبط المنطقة والحفاظ على المصالح الإستراتيجية للولايات المتحدة.

حدود القدرات الإسرائيلية

بالتزامن مع ذلك، يبدو أن جرعة الأدرينالين التي دفعتها الإنجازات العملياتية الضخمة -خاصة على الجبهة اللبنانية- في جسد إسرائيل السياسي خلال الأسابيع الأخيرة قد بدأ تأثيرها في التراجع. وكما تظهر أحداث الأيام الأخيرة بدأ حزب الله يستعيد عافيته بينما لا يزال التقدم بطيئا للغاية في العملية البرية التي تقودها الفرقة 36 في الجيش الإسرائيلي من بلدة عيترون شرقا على الحدود مع لبنان وصولا إلى راميا ومرورا بـ عيتا الشعب، نقطة التركيز الرئيسية.

وحتى في غزة، التي تناهز الحرب فيها الشهر الثالث عشر، لا تستطيع إسرائيل حتى الآن وضع تصور زمني لإنهاء عملياتها العسكرية بما يحقق أهدافها الإستراتيجية والسياسية وعلى رأسها استعادة الأسرى وفرض تصور لإدارة القطاع في اليوم التالي للحرب يضمن إبعاد حماس عن الحكم لمنعها من إعادة تخليق قدرات المقاومة مرة أخرى.

ولا تزال كل الصيغ التي حاولت إسرائيل تطبيقها، بدءا من الحكم العسكري المباشر للقطاع وصولا إلى تشكيل حكومة تكنوقراط من العائلات والوجهاء، غير قابلة للتحقق. ومع استمرار عمليات المقاومة، ولو على نحو متقطع، في مناطق سيطرة الاحتلال داخل القطاع يزداد الموقف تعقيدا.

في غضون ذلك، تدرك إسرائيل أيضا أن حلقة النار الإيرانية حولها، ما زالت لم تستنفد طاقتها القصوى في الحرب، ولا يزال لدى الجبهة اللبنانية والقوات الموالية لإيران في سوريا والعراق واليمن الكثير لتفعله ضد إسرائيل لو وصلت الحرب ذروتها. لذا فإن مزيجا من الضغط الأميركي، والتبصر بأوضاع الحرب ربما أفقد نتنياهو وإدارته الحماسة للتصعيد المباشر مع إيران.

وقد نجحت إيران نفسها، ربما بصورة لم يتوقعها أحد لوهلة، في تسريب هذه القناعة إلى عقل صانع القرار الإسرائيلي الذي كان يستفيق من نشوة الانتصارات الأولية السريعة في لبنان.

وقد كشفت هجمات الأول من أكتوبر/تشرين الأول، رغم محدوديتها من حيث الكم، الثغرات الضخمة في منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي، وقصورها عن تأمين سماء أراضي إسرائيل من هجمات أعدائها، حيث لم تنجح منظومة الدفاع الإسرائيلية المتعددة الطبقات في كشف أو منع الطائرات المسيرة ذات البصمة الرادارية المنخفضة من الطيران تحت أنوفها والوصول لأهداف دقيقة مثل استهداف غرفة الطعام في مقر لواء غولاني، أو استهداف نافذة منزل نتنياهو، كما أثبتت الصواريخ الباليستية الإيرانية المتوسطة المدى ذات الرؤوس الخفيفة مقدرة جيدة على إرباك وتشتيت الدفاعات الجوية الإسرائيلية والإفلات منها.

وقد دفع ذلك الولايات المتحدة لاتخاذ خطوات سريعة وغير مسبوقة لإسعاف سماء إسرائيل المخترقة، مرسلة للمرة الأولى منظومة “ثاد”، أحدث وأكثر أنظمة الدفاع الجوي الأميركية ضد الصواريخ الباليستية كفاءة، رفقة مئة من الجنود لتشغيلها. صحيح أن هذه ليست المرة الأولى التي تنشر فيها واشنطن مثل هذه الأنظمة في إسرائيل، لكنها المرة الأولى التي تنشر فيها جنودها داخل إسرائيل لمساعدة دفاعاتها الجوية على الصمود، مما يشرح عمق الأزمة التي تواجهها دولة الاحتلال حاليا.

ليس دفاع الجو الإسرائيلي وحده غير المهيأ للدخول في حرب شاملة مع إيران، فحسب الخبير البارز في العلاقات الدولية والإستراتيجية، جورج فريدمان فإن “الضربات الجوية، مهما كانت شدتها، نادرا ما تؤدي إلى الاستسلام”. يعني ذلك أنه إذا أرادت إسرائيل تقويض قدرات إيران بشكل حاسم، فلا مفر من خوض حرب شاملة تنطوي على مشاركة القوات البرية.

وحسب تقدير لمؤسسة “جيوبوليتيكال فيوتشرز”، فإن جيش الاحتلال الإسرائيلي يفتقر في ذاته إلى القدرات اللازمة لشن هذه الضربة الهائلة والمستدامة على إيران، فحتى تستطيع إسرائيل الوصول بريا إلى طهران سوف تضطر إلى عبور مسافة تصل إلى 1600 كيلومتر مرورا بأراضي دولتين. ولتغطية هذه المسافة الكبيرة من الأرض سوف تحتاج إلى الوصول إلى طرق العبور وقدرات إعادة التزود بالوقود وهو ما لا يمكن تصوره عملياتيا.

ينطبق الأمر ذاته على إيران، فهي وإن كانت تمتلك طريقا ممهدا عبر الأصدقاء إلى حدود إسرائيل، فإن قواتها الجوية من طائرات إف-14، وإف-4، وميج-29 لن تستطيع القيام بتأمين هذه المهمة المستحيلة، فضلا عن أن أحدث دبابة لدى الجيش الإيراني يبلغ مداها 350 ميلا فقط، لكن ما تملكه إيران ولا تملكه إسرائيل هو قدرة إيران على تهديد حدود إسرائيل البرية بقوات شبه نظامية تجعلها في حالة انشغال واستنزاف مستمر.

والخلاصة، أن لعبة الحرب الشاملة والتصعيد المفتوح بين إسرائيل وإيران مغامرة إستراتيجية غير محسوبة ولا مضمونة النتائج لأي من الطرفين. وإن كانت الشهور الماضية قد أثبتت بشكل واضح أن إيران تقدر هذا جيدا وتعمل حسابه وتحاول جاهدة منع الحرب الشاملة من الاندلاع، فإن قيادة إسرائيل وصلت إلى هذه القناعة متأخرا. لكن ذلك لا يعني أن خيار الحرب الإيرانية الإسرائيلية تم تفاديه بشكل كامل، فلم تضع الحرب أوزارها بعد على جبهتي غزة ولبنان وليست حتى قريبة من ذلك، وهذا ما يجعل كافة السيناريوهات، وحتى التقديرات الخاطئة والمتهورة من أي طرف، محتملة بدرجة ما.

في غضون ذلك، لا يزال التقدير الإستراتيجي لدى قادة إسرائيل أنه ما من خيار لتحقيق الأمن لدولتهم دون مواجهة إيران وتدمير قدراتها داخل وخارج أراضيها ومنعها من تهديد إسرائيل، لكن حدود القدرات العملياتية تضغط على القرار الإسرائيلي، وهذا هو جوهر معضلة إسرائيل التي تسبب فيها طوفان الأقصى.

ثمة من كان يجادل في الشهور الماضية بأن إسرائيل قد تجاوزت “عقدة بن غوريون” إلى الأبد، وأظهرت مرونة ومقدرة عملياتية على تغيير إستراتيجية “الحرب الخاطفة”، واستطاعت الانخراط بكفاءة في حرب طويلة المدى ومتعددة الجبهات وعالية الخسائر، تلك الحرب التي كان يرى بن غوريون أن إسرائيل لأسباب موضوعية تتعلق بالجغرافيا والموارد البشرية بشكل أساسي لا تستطيع تحملها. لكن التطورات الأخيرة تدعونا لأخذ المزيد من الوقت لنرى من كان أكثر بصيرة بحدود قدرات إسرائيل، بن غوريون أم نتنياهو؟!.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *