الصراع كجوهر الوجود.. ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 12 دقيقة للقراءة

في كتابه “ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟” الصادر عن منشورات “بروفايل بوكس” في لندن قبل فترة قصيرة يحاول الكاتب الفلسطيني رجا شحادة أن يشرح للقارئ غير العربي الأسباب الحقيقية للحرب التي تدور رحاها الآن في غزة، وفي فلسطين عموما.

ورغم صغر حجم الكتاب (113 صفحة من القطع الصغير) فإنه ينجح في سبر أغوار النزاع الذي لا يبدأ في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وهجوم حماس على المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية الواقعة جنوب غزة، بل أبعد من ذلك، أي منذ صدور وعد بلفور عام 1917 الذي وعد بإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

هل يمكن للعرب والمسلمين تشكيل قوة سياسية مؤثرة في أميركا؟

list 2 of 2

المسألة اليهودية وحلول بديلة عن مأزق الحل الصهيوني

end of list

ويمزج بعض الذكريات الشخصية للكاتب -الذي لجأت عائلته من مدينة يافا عام 1948 إلى مدينة رام الله- بالتحليل السياسي وسرد الوقائع وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين منذ إنشاء دولة إسرائيل حتى لحظة انتهائه من تأليف كتابه في فبراير/شباط الماضي.

وهو يستدل من هذه السردية التي يعيد تشكيلها للقضية الفلسطينية على أن الإسرائيليين لم يغادروا في أي مرحلة من مراحل الصراع سرديتهم القائمة على الدعاية التي روجوا لها، خصوصا في العالم الغربي، وترتكز على القول بوجود “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”.

ولهذا، فإن السؤال الذي يسأله الكاتب في العنوان “ما الذي يخيف إسرائيل من فلسطين؟” يعثر على جوابه في الصفحات الأخيرة من الكتاب.

إن ما يخيفها وعلى نحو صارخ شديد الوضوح هو:

“وجود الفلسطينيين أنفسهم”

(ص 105)

الخوف والنزاع

يوضح رجا شحادة مقاربته الشخصية والتاريخية من خلال ضرب الأمثلة واستعادة أقوال المسؤولين الإسرائيليين السابقين والحاليين، مركزا على هوس هؤلاء بالأمن والخوف التاريخي وعدم القدرة على العيش دون حروب.

فهم يعتقدون أن ما يشكل اللحمة والرابطة الأساسية التي تجمع هذا الخليط الآتي من جغرافيات كثيرة وثقافات مختلفة ولغات متباعدة ورؤى ومعتقدات دينية وأيديولوجية متخاصمة هو الخوف من المحيط، من الفلسطينيين، ومن العرب في الدول المجاورة.

ولهذا، فإن العقيدة التاريخية المركزية للوجود الصهيوني على أرض فلسطين تتمثل في إقامة “إسبارطة” معاصرة تذهب إلى الحرب كل عدة سنوات، لكي تسد الطريق على ظهور الخلافات بين مكونات المجتمع الإسرائيلي وتعمق الشقاق بين هذا الخليط الاجتماعي والسياسي والثقافي والأيديولوجي والديني.

ويقتبس شحادة لتوضيح وجهة نظره وزحزحة السردية الرائجة في الغرب عن “إسرائيل الدولة الديمقراطية الوحيدة في محيط شاسع من الدكتاتوريات” كلام أوري أفنيري الصحفي الإسرائيلي وعضو الكنيست السابق (1923-2018) الذي كتب أن:

“كثيرا من الإسرائيليين بدؤوا يتحدثون عن وجود “مجتمعين يهوديين” في إسرائيل، وبعضهم بدأ يقول إن هناك “شعبين يهوديين” ضمن الشعب اليهودي، فما الذي يربط هؤلاء ويشدهم إلى بعضهم بعضا؟

النزاع، بالطبع، الاحتلال، حالة الحرب الدائمة

(ص 51)

ويستكمل أفنيري فكرته عن الانقسام الحاد في المجتمع الإسرائيلي بين شرقيين وغربيين، متدينين وعلمانيين، أغنياء وفقراء، متسائلا إن كان النزاع قد فُرض على إسرائيل بالفعل، ليجيب -دون التباس- بأن العكس هو الصحيح.

“لقد حافظت إسرائيل على استمرار النزاع، لأنه يشكل جوهر وجودها”

(ص 52)

الصراع كمصدر للتماسك

واستنادا إلى هذا التحليل -الذي يقدمه أفنيري- يمكن فهم السعي المحموم للكيان الصهيوني من أجل صهر الهويات المتعارضة في هوية عبرية واحدة عبر اللغة العبرية بوصفها الشيء الوحيد الذي يمثل بوتقة صهر هذه الهويات واللحمة الوحيدة التي يمكن أن تجعل هذا المجتمع “الخليط” “مجتمعا واحدا”.

لكن فشل عمليات الصهر والدمج جعل “الصراع” هو الطريقة الوحيدة التي تؤدي إلى تماسك المجتمع ومنعه من التشقق.

ولعل هذا الخوف “الوجودي” من انهيار الكيان “العبري” هو الذي جعل مؤسسي الدولة بدءا من ديفيد بن غوريون (1886-1973) يسعون إلى إعادة تشكيل الجغرافيا الفلسطينية ومحو الأسماء الفلسطينية والاستعاضة عنها بأسماء عبرية، وكذلك السعي إلى ترويج سردية كاذبة حول فلسطين: السكان، والتاريخ، والجغرافيا، والذاكرة.

وكما يقول رجا شحادة:

“فمنذ عام 1948 كانت هناك محاولة لإعادة كتابة تاريخ جديد تماما لفلسطين، ولذلك عُدَّ عام 1948 نقطة الصفر التي يبدأ منها هذا التاريخ، حيث يتجمع اليهود في وطنهم التاريخي: إسرائيل”

(ص 7)

ومن هنا، يتضح أن المشروع الصهيوني لم يكن يوفر -لا في سرديته التاريخية أو في تصوره للمستقبل- أي مكان للفلسطينيين.

لقد أزاحهم جانبا بعمليات القتل والطرد عام 1948، وكذلك عام 1967 ومحو الهوية وإخراجهم من الجغرافيا كما من التاريخ، تمهيدا للتعامل مع ما يسميه وزير المالية الإسرائيلي الحالي بتسلئيل سموتريتش “الحل النهائي”.

ومن الواضح أن تصور سموتريتش خارج -دون أي لبس- من تصور أستاذه الروحي زئيف جابوتنسكي (1880-1940) الذي تحدث عما سماه “الجدار الحديدي” الذي ينبغي بناؤه للتحكم بالفلسطينيين، فما لا تحصل عليه بالقوة يمكن الحصول عليه بقوة أكبر.

وهذا ما تفعله إسرائيل منذ إنشائها، ويبدو هذا المشروع مأخوذا الآن إلى نهاياته القصوى في ما يقوم به الكيان الصهيوني من إبادة جماعية في غزة للشجر والحجر والبشر وللذاكرة والتاريخ والجغرافيا كما الطوبوغرافيا من خلال تسطيح الأرض وجعل الشروط المحيطة غير قابلة للحياة.

معضلة الوجود الفلسطيني

معضلة إسرائيل إذن كما يقول رجا شحادة هي “وجود” الفلسطينيين وعدم تبخرهم من الجغرافيا والتاريخ، فماذا نفعل بهم؟ ما الذي يجعل هذا الكيان الذي رسم لنفسه نقطة بداية تبدأ من طرد الفلسطينيين عام 1948 (رغم بقاء ما يزيد على 100 ألف منهم خلف ما يسمى الخط الأخضر في سنة النكبة) يشعر بالأمان وعدم الانهيار بسبب عدم تجانس مكوناته الاجتماعية والدينية والأيديولوجية، وحتى اللغوية؟ لقد راهنت إسرائيل على نضوج الظروف.

وكانت هناك دائما خطة موضوعة في الأدراج تخرج للعلن عندما تظن النخبة الحاكمة في إسرائيل أنها قابلة للتطبيق، وكما ينقل المؤلف من أحد تصريحات بنيامين نتنياهو فإن القوة هي ما يعوّل عليه هذا الكيان، وهي “الشيء المهم في السياسة الخارجية”، ويضيف:

كلمة “الاحتلال” لا معنى لها، فثمَّة دول قوية احتلت وغيَّرت التركيبة السكانية ولا أحد اهتم بهذا”

(ص 13)

إستراتيجية إسرائيل لكسر الإرادة الفلسطينية

كانت مشكلة إسرائيل وما زالت هي “الوجود الفلسطيني”، ولم تستطع النخب السياسية التي حكمتها منذ عام 1948 تجاهل هذا الوجود، لقد ندم بن غوريون على أنه لم يطرد كل الفلسطينيين في تلك السنة من الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر.

لكن احتلال إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 أعاد طرح المعضلة الفلسطينية على النخب الحاكمة في الدولة العبرية، وقد اعتقد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه دايان (1915-1981) أن إسرائيل “أصبحت إمبراطورية”، ولذلك رأى أنها يجب أن تبقى هناك. (ص 46)

كما زار أرييل شارون (1928-2014) عام 1981 عندما كان وزيرا للدفاع في حكومة مناحيم بيغن (1913-1992) دولة جنوب إفريقيا العنصرية، ليتعلم منها تطبيق الفصل العنصري على الفلسطينيين وإنشاء “بانتوستانات” (معازل عرقية) للسكان الذين لا حقوق سياسية لهم. (ص: 26)

لكن الفلسطينيين قاوموا كل المشاريع التي حاولت محوهم وإخراجهم من التاريخ، اندلعت الانتفاضتان الأولى والثانية، وبدأت حماس تمطر إسرائيل بالصواريخ من قطاع غزة، فبدأت إسرائيل في محاولة تجربة ما سمته “كيَّ الوعي الفلسطيني”، بحيث تخمد جذوة المقاومة وتجبر الفلسطينيين على الخضوع والاستسلام.

ويشير رجا شحادة إلى هذه الإستراتيجية الإسرائيلية لكسر الإرادة الفلسطينية بالعودة إلى تصريحات موشيه يعالون عام 2002، وقد كان حينها رئيسا لأركان الجيش الإسرائيلي.

يتحدث يعالون عن “كيِّ الوعي” ورسم “خارطة ألم” من قبل الجيش الإسرائيلي في “وعي الفلسطينيين” بهدف ترهيبهم وجعلهم يرضون بما تقبله إسرائيل لهم.

ويذكر المؤلف أن هذا الأمر ليس جديدا، فقد سبق أرييل شارون خلفه في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي بمحاولة رسم “جغرافيا” جديدة لفلسطين في وعي الفلسطينيين.

لكن الكاتب يستنتج أن كل هذه المحاولات لكسر إرادة الشعب الفلسطيني لم تنجح. (ص 61)

ويمكن القول هنا إن هذا هو بالفعل ما تفعله حكومة نتنياهو والجيش الإسرائيلي الآن في الحرب الشرسة الدائرة على غزة، وكذلك في الضفة الغربية، فهي الإستراتيجية نفسها وإن تبدلت الحكومات وتغيرت النخبة الحاكمة، بغض النظر عن الانتماءات الأيديولوجية والحزبية للمسؤولين الإسرائيليين، فالوجود الفلسطيني -حسب شحادة- هو ما يؤرق الدولة الصهيونية ويجعلها تجرب كل أنواع الخطط من أجل التخلص من الفلسطينيين.

الوجود الفلسطيني ومآلات الإبادة الجماعية

فهل كان ما حدث في عملية “طوفان الأقصى” سببا في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الوجود الفلسطيني؟ هل كان في الإمكان تجنب هذا المصير الذي آل إليه الوضع في قطاع غزة ومنع حدوث كل هذا القتل والتدمير والخراب وجعل الحياة شبه مستحيلة في قطاع غزة المحاصر منذ نحو 20 عاما؟

لا يسأل المؤلف هذا السؤال، ولكنه يجيب عليه ضمنا من خلال استعراض تصريحات نتنياهو والمسؤولين الإسرائيليين، ورفض النخب الإسرائيلية قبول إقامة دولة فلسطينية.

لا يختلف في هذا الرفض معظم المسؤولين الإسرائيليين بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الحزبية أو الأيديولوجية، سواء كانوا ينتمون إلى اليسار الصهيوني أو اليمين العلماني أو اليمين الديني أو اليمين الديني العلماني أو الديني المتطرف، فكل هذه النخب لا تعترف بشيء اسمه الشعب الفلسطيني وتنكر الوجود الفلسطيني ذاته.

يقتبس رجا شحادة من مقالة كتبها المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس -وهو من دشن ما يسمى في إسرائيل تيار المؤرخين الجدد، ثم ارتد على أطروحاته السابقة- في صحيفة هآرتس في نهاية يوليو/تموز 2014، أي قبل انتهاء الحرب الشرسة على قطاع غزة عام 2014، وقد استمرت 50 يوما.

يقول موريس إن ما على إسرائيل فعله يتطلب الجرأة “والإصرار على إنهاء المهمة، ولن تكون هذه المهمة سهلة وسريعة، ونحن نتحدث هنا عن إعادة احتلال قطاع غزة كله وتدمير حماس كمنظمة عسكرية، وربما كتنظيم سياسي، سوف يتطلب هذا شهورا من العمليات العسكرية، بحيث يتم تنظيف القطاع من أعضاء حماس والجهاد الإسلامي والتخلص من سلاحهم حيا حيا، سوف ندفع بالطبع ثمنا باهظا من أرواح الجنود الإسرائيليين، وكذلك من أرواح المدنيين الفلسطينيين، لكن هذا هو الثمن المطلوب دفعه من أجل أن نعيش كشعب على أرضنا ووسط جيران من هذا النوع. (ص 71)

فماذا تفعل إسرائيل الآن وبعد 10 سنوات من الحرب التي شنتها على غزة عام 2014 ومن زمن كتابة هذه الخطة “العسكرية” والإستراتيجية التي وضعها بيني موريس في مقالة؟

إنها تنفذ الخطة بحذافيرها، لكن لا بهدف التخلص من كل مقاومة فلسطينية، بل من أجل التخلص من الفلسطينيين ومن شبحهم الذي يطاردها كدولة محتلة استيطانية كولونيالية إحلالية لا تشعر بالأمان ولن تشعر به يوما.

“فالوجود الفلسطيني ذاته” -أي كونهم يعيشون هنا والآن في هذه البقعة من الأرض- كما يقول رجا شحادة هو الذي يقض مضاجع سكان هذه “الدولة” ويمنعهم من النوم “قريري الأعين” تلك هي الرسالة التي يحاول الكاتب والمحامي الفلسطيني رجا شحادة إيصالها إلى قرائه في الغرب.

———————————————————————————

  • الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *