مقدمة للترجمة
افترضنا -منذ فترة طويلة- أن العناكب شأنها شأن العديد من الكائنات اللافقارية الأخرى، لا تملك سوى سلوكيات تلقائية مثل الآلات، وتفتقر إلى حياة داخلية (يقصد الوعي*). لكننا نكتشف الآن أن بعض أنواع العناكب تتمتع بقدرات معرفية خفية تنافس قدرات الثدييات والطيور، مثل القدرة على الاستبصار والتخطيط، والتعلم المعقد، وحتى القدرة على الإحساس بالمفاجأة. والأغرب من ذلك الدور الحيوي الذي تلعبه خيوط العنكبوت في قدراتها الإدراكية، كان ذلك السبب في دفع بعض العلماء إلى الاعتقاد بأن تلك الخيوط يجب اعتبارها جزءًا من عقل العناكب نفسه. هذه المادة من نيوساينتست تسبر أغوار عالم العناكب العجيب.
نص الترجمة
تعيش بيننا كائنات غريبة تتمتع بوعي استثنائي وذكاء وقّاد إلى الحد الذي يتجاوز فيه وعيُها حدود جسدها المادي. ومع ذلك، وبسبب جهلنا وغرورنا البشري، لن نتورع عن محاولة قتلها فورًا بمجرد رؤيتها.
تتوارى هذه العقول الغريبة فعليًا في ظلال منازلنا وحدائقنا، ولطالما افترضنا -منذ فترة طويلة- أن العناكب شأنها شأن العديد من الكائنات اللافقارية الأخرى، لا تملك سوى سلوكيات تلقائية مثل الآلات، وتفتقر إلى حياة داخلية (يقصد الوعي*). لكننا نكتشف الآن أن بعض أنواع العناكب تتمتع بقدرات معرفية خفية تنافس قدرات الثدييات والطيور، مثل القدرة على الاستبصار والتخطيط، والتعلم المعقد، وحتى القدرة على الإحساس بالمفاجأة.
والأغرب من ذلك، أن الخيوط الحريرية التي تنسجها العناكب خلفها -والتي يمكن محوها بمنفضة الغبار بسهولة- تساعدها على استشعار عالمها وتذكّره. هذا الدور الحيوي الذي تلعبه خيوط العنكبوت في قدراتها الإدراكية كان السبب في دفع بعض العلماء إلى الاعتقاد بأن تلك الخيوط يجب اعتبارها جزءًا من عقل العناكب نفسه.
ومع اكتشاف القدرات الفكرية لهذه العناكب، لا بد من تغيير نظرتنا لهذه الكائنات التي تُعد من أكثر الحيوانات انتشارًا وأهمية، وأكثرها كرهًا على الإطلاق. والأهم من ذلك أن هذه الكائنات المدهشة قد تُجبرنا على إعادة النظر في فهمنا لذكائنا وعقولنا.
تملك العناكب جذورًا تكيفية عميقة، إذ يعود أول دليل أحفوري للعناكب المنتجة للحرير إلى ما يقرب من 400 مليون سنة مضت، أي بعد وقت قصير من أول دليل قاطع على وجود الحشرات. يقول عالم الأحياء التطورية في جامعة برشلونة بإسبانيا، ميغيل أرنيدو: إن “الحشرات هي السلالة الأكثر نجاحًا في التكيف على وجه الأرض، تليها العناكب”. واليوم، يوجد أكثر من 48 ألف نوع معروف من العناكب، لدرجة أن كل متر مربع من الأرض يسكن فيه نحو 130 عنكبوتًا. قد يخيف ذلك مَن يعانون من رُهاب العناكب، لكن بدون العناكب، سيكون من المستحيل زراعة المحاصيل لأن الحشرات ستلتهمها كلها.
تتميز العناكب بأرجلها الثمانية ومغازلها المعقدة التي تفرز الحرير الذي هو عبارة عن بروتين يتكون من سلاسل أحماض أمينية، أهمها الغلايسين والألانين. تسحب العناكب هذا الحرير وتمشطه بأرجلها الخلفية لتقويته. ويمكن لبعض الأنواع إنتاج ألياف حريرية بتركيبات كيميائية مختلفة حسب احتياجاتها الخاصة.
إن حرير العناكب -الذي يثير حسد المهندسين- لديه استخدامات متعددة تشمل بناء شرانق العنكبوت، والتزلج الشراعي، واستخدامه كحبل للتسلق والهبوط. كما تستخدمه العديد من العناكب في نوع من “الطيران” يُعرف باسم “التحليق بالمناطيد”، حيث تستخدم العناكب بعض خيوط الحرير التي تتأثر بالقوى الكهروستاتيكية الموجودة في الجو، مما يسمح لهذه الخيوط بالارتفاع وحمل العناكب لمسافات بعيدة بالاعتماد على رياح خفيفة.
وتستشعر هذه الأنواع من العناكب تلك القوى من خلال شعيرات موجودة على أرجلها، تسمح لها بتحديد الوقت المناسب لرفع أشرعتها (خيوطها الحريرية). وعن ذلك، تقول الأستاذة بجامعة بريستول في المملكة المتحدة، إيريكا مورلي، التي توصلت إلى هذا الاكتشاف: “تستطيع العناكب الشعور بالتغير في الهواء”.
ذكاء العناكب
يقول أرنيدو، إن تعدد استخدامات الحرير الذي تصنعه العناكب يُفسِّر جزئيًا نجاحها الهائل في التكيف. ومع ذلك، لعب ذكاؤها دورا حاسمًا في هذا النجاح. وأفضل دليل على ذكاء العناكب نجده في النشاط اليومي المتمثل في بناء شبكاتها، إذ تبني ثلث أنواع العناكب شبكات دائرية هندسية جميلة نراها في منازلنا وحدائقنا، والهدف منها أن تكون فخاخا لفرائسها. تحمل هذه الشبكات أسراراً أكثر مما نتوقع، لأن كلاً منها يعكس الخيارات والقرارات التي اتخذتها العناكب أثناء عملية بناء الشبكات.
دعنا نتأمل هنا السؤال الأساسي الذي يتلخص في المكان الذي ينبغي للعناكب أن تبني فيه شباكها، إذ يفضل كل نوع من العناكب الغازلة للنسيج الدائري حجما وشكلا معينيْن للشبكة بما يتناسب مع نوع جسمه وفريسته. لكن المثير للانتباه، أن أنواع العناكب هذه تغزل شباكها بطرق معينة لتتناسب مع المساحات المحدودة، أو للتكيّف مع العوائق التي قد تعترض سبيلها، وهو ما يشير إلى أن هذه العناكب تؤسس نوعا من التخطيط قبل البدء في بناء شبكاتها، وهو ما يُعدُّ أمرًا مدهشًا، خاصة إذا علمنا أن أغلب العناكب عمياء تقريباً، فكيف تفعل ذلك إذن؟
يضع الأستاذ بجامعة أكسفورد، توماس هيسلبرغ، احتمالًا لكيفية تخطيط العناكب لمواقع بناء شبكاتها، ويرى أن العناكب قد تستخدم حريرها “كخيط الشاقول” أو “خيط الميزان”، وهو خيط يحمل ثقلًا في نهايته ويُستخدم في البناء والمساحة لتحديد الاتجاه العمودي بدقة، وتستخدمه العناكب في استكشاف الموقع المحتمل لبناء الشبكة.
وبمجرد استكشاف المكان جيدًا، تبدأ بعض العناكب بإلقاء خيط أفقي بين سطحين ثم تعبره، وتستمر في الصعود والهبوط في نقاط مختلفة على طول المسار، وهو ما قد يساعدها في تقدير أبعاد المكان. وعن ذلك، يقول هيسلبرغ: إن “العناكب قد تكون قادرة على معرفة كمية الحرير المستخدمة والوقت الذي قضته في الاستكشاف، مما قد يعطيها فكرة عن عدد مرات عبورها لمنطقة معينة ومساحتها”.
لقد وثّق العلماء بالفعل القدرة على تكوين تصور ذهني للمكان لدى العديد من الثدييات والطيور، ولكن هذه القدرة كانت نادرة جدًا بين الكائنات اللافقارية. وأفضل دليل على ذلك هو النحل، الذي يُعتَقد أنه يستخدم خرائط ذهنية لمساعدته على التنقل. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة ما زالت محل جدل بين العلماء.
وتشير التجارب الأولية التي أجراها هيسلبرغ إلى أن الخرائط الذهنية التي تشكلها العناكب “الغازلة للنسيج الدائري” ليست مفصلة للغاية، إذ تبدو كأنها تضع في حسبانها العقبات الكبيرة، ولكنها تتجاهل العقبات الصغيرة. ومع ذلك، فإن القدرة على توليد تمثيل بسيط للبيئة قد يفسِّر بعض السلوكيات الأخرى التي تتطلب مستوى معيناً من الفطنة والتخطيط.
على سبيل المثال، تعمل هذه العناكب على تغيير حجم وبنية شبكاتها بناءً على الكمية المتبقية من الحرير في غددها، لضمان عدم نفادها في منتصف عملية بناء الشبكة. كما أنها حساسة للطقس، ففي درجات الحرارة المنخفضة، تبني هياكل أبسط مع فجوات أكبر بين اللوالب أو الدوائر الحلزونية التي تشكل جزءًا من تصميم شبكة العنكبوت، وذلك لتجنب قضاء وقت أطول في البرد.
يتجلى مستوى التطور المعرفي للعناكب في كيفية صيانتها وتعديلها للشبكة بعد بنائها، إذ تعدِّل شد خيوط الحرير في المناطق التي يترجّح أن تصطاد فيها الحشرات بناءً على صيدها السابق. وتعمل زيادة الشد على تحسين نقل الاهتزازات الناتجة عن حركة الحشرة العالقة، مما يمكِّن العناكب من الاستجابة بسرعة أكبر.
كما تعمل العناكب على تغيير أبعاد الشبكة اعتمادًا على حجم الفريسة. ويمكنها أيضًا التعلم من المحاولات الفاشلة، فإذا اصطدمت فريستها بالشبكة ثم هربت، تبدأ العناكب في زيادة إفراز الحرير اللزج لضمان عدم حدوث ذلك في المستقبل. وتتعامل العناكب مع هذه العملية كأنها أدوات “تضبطها” بعناية وفقاً لتجاربها السابقة. ويضيف هيسلبرغ: “لا شك في أن العناكب أكثر مرونة مما كنا نعتقد سابقًا”.
تشكِّل العناكب مجموعة متنوعة من الكائنات، ولكن حتى الأنواع التي تحيا بطرق مختلفة تُظهِر مستويات ذكاء مشابهة. خذ على سبيل المثال العناكب القافزة التي تنتمي إلى النوع “بورشيا” الذي يشتهر بافتراسه للعناكب الأخرى حتى لو كانت أكبر منه بمرتين. تصطاد هذه العناكب فرائسها بطريقة حذرة ومتخفية، وقد طورت بصرًا مدهشًا لمساعدتها في ذلك. في السياق ذاته، تقول الأستاذة بجامعة كانتربري في نيوزيلندا، فيونا كروس: إن هذه العناكب “تصطاد مثل القطط الصغيرة”. كما تكشف أبحاث كروس أن هذا الصيد غالبًا ما يتطلب التخطيط المسبق، وتحديد المسارات بعناية.
خرائط ذهنية
بالتعاون مع زميلها روبرت جاكسون، أجرت كروس تجارب على عناكب من النوع “بورشيا”. ولضمان خلق بيئة تمنع العناكب من الهروب أو التحرك عشوائيًا، وضعوا كل عنكبوت على برج في خزان مائي، لأن هذه العناكب تكره البلل، مثل القطط. ومن هذا المكان، كان بوسع العناكب رؤية مسارين عائمين، أحدهما يقود إلى فريسة على برج آخر. والمثير للإعجاب أن العناكب كانت قادرة على اختيار المسار الصحيح الذي يؤدي إلى الفريسة حتى بعدما اختفت الفريسة عن نظرها بمجرد نزول العناكب من البرج، مما يشير إلى أنها تحتفظ بخريطة في ذاكرتها العاملة.
وفي تجربة أخرى، صممت كروس وجاكسون مسارين يؤدي كل منهما إلى الفريسة، ولكن أحدهما أقصر. والمُدهش أن معظم العناكب اختارتْ المسار الأقصر. وتعليقًا على ذلك، تقول كروس: “يشير هذا إلى أن عناكب بورشيا تضع خطة إلى المكان الذي ستذهب إليه”. وفي البرية، تستخدم العناكب هذا النوع من التخطيط المسبق لمباغتة فرائسها الخطيرة من الخلف.
يبدو أن عناكب البورشيا قادرة على الشعور بالدهشة أو المفاجأة. ففي تجارب مشابهة لتلك التي أجرتها كروس وجاكسون، قرر الباحثون تغيير نوع الفريسة أثناء غيابها عن أنظار العناكب. والمثير للانتباه أن هذا التغيير دفع العناكب إلى التوقف، وهي علامة على الارتباك.
وغالبًا ما يستخدم علماء النفس تجارب مشابهة لاختبار ما يجول في ذهن الأطفال. بالإضافة إلى ذلك، لوحظ أن العناكب تتوقف لفترة أطول إذا ما وجدت عددًا أكبر أو أقل من الفرائس في نهاية المسار، مقارنةً بما رأته من برجها، وهو ما يشير إلى أن هذه العناكب تمتلك حسًا أساسيًا بالأعداد.
على الرغم من أن أسلوب المطاردة الذي تتبعه عناكب البورشيا يشبه أسلوب القطط، فإنها ما زالت معتمدة إلى حدٍ كبير على الحرير لبقائها واستمرارها. تستخدم هذه العناكب الحرير بطرق متعددة أثناء الصيد، فأحيانًا تبني شبكة لتكون موقع مراقبة يمكنها من خلاله الانزلاق والانقضاض على الفريسة، أو كوسيلة لصيد الحشرات لاستخدامها كطعم للعناكب اللذيذة. كما تقتحم عناكب البورشيا شبكات العناكب الأخرى وتنتزع الحرير لتقليد حركة الحشرات العالقة، مما يدفع العناكب الأخرى إلى الخروج من أماكن اختبائها بحيث تتمكن عناكب البورشيا من الانقضاض عليها وقتلها. يبدو أن هذه العناكب تتعلم كيفية تمييز الاهتزازات الصحيحة، مثل تلك التي تشبه حركة حشرة عالقة في الشبكة عن طريق التجربة والخطأ.
ورغم وجود قدرات معرفية متقدمة لدى العديد من أنواع العناكب، فإن أدمغة هذه الكائنات صغيرة جدًا. فمعظم العناكب الغازلة للنسيج الدائري تزن ما بين 50 إلى 80 ملغ، وبعضها يزن أقل من ميليغرام واحد، وأدمغتها تمثل جزءًا صغيرًا من هذا الوزن.
كما أن الأصول القديمة للعناكب تثير بعض التساؤلات الفلسفية العميقة حول تطور الدماغ. في السابق، كان البحث عن الذكاء مقتصرا على الثدييات، لكن حاليًا توسع نطاق البحث ليشمل حيوانات مثل العناكب. وعن ذلك، تقول الأستاذة بجامعة تكساس في أوستن، كارولين سترانغ، التي تدرس إدراك الحشرات: “إن نجاح هذا الاتجاه من البحث يُظهر أنّ علينا توخي الحذر بعد ذلك في أسئلتنا البحثية حول الأنواع التي ندرسها”.
على الجانب الآخر، سنجد أن هذه النتائج دفعتنا إلى إعادة النظر في تعريف “العقل” الحيواني. خذ على سبيل المثال مفهوم الإدراك الممتد، وهي فكرة جذبتْ انتباه علماء النفس في الآونة الأخيرة. صاغ الفلاسفة هذا المصطلح لوصف كيفية استخدامنا للأشياء المحيطة بنا كمساعدات لتعزيز عمليات تفكيرنا، مثل استخدامنا لدفتر أو هاتف ذكي، على سبيل المثال، باعتباره مصدرا خارجيا للذاكرة يمكن الوصول إليه متى شئنا، وهو ما يعني أن قدرتنا على التفكير لا تقتصر على العمليات العقلية، بل تمتد لتشمل جميع الأشياء التي تساهم في إدراكنا وذاكرتنا وتفكيرنا بمنطق.
قدَّم الأستاذ بجامعة باهيا الفيدرالية في البرازيل، هيلتون غابياسو، والأستاذ بجامعة سانت أندروز في المملكة المتحدة، كيفن لالاند؛ حجة قوية مفادها أن استخدام العنكبوت للحرير يُعدُّ مثالاً طبيعيًا للإدراك الممتد.
تستند هذه الفكرة إلى أن التجارب التي مرت بها العناكب في الماضي تلعب دورًا مهمًا في تشكيل كيفية بناء شبكتها، والتي بدورها تؤثر على كيفية إدراكها لبيئتها، مما يؤثر مباشرةً على الخيارات والقرارات التي تتخذها في المستقبل. ونتيجة لهذا، لا يعتمد العنكبوت فقط على قدراته “العقلية” الداخلية لاتخاذ القرارات، بل أيضًا يستخدم البيئة المحيطة به، وخاصة خيوط الشبكة التي يبنيها، كجزء من عملية اتخاذ القرار. ومن الواضح أن العناكب مثل البشر، تحتاج إلى إستراتيجيات تفكير متقدمة للتكيف مع تحديات بيئاتها المختلفة. ومع وجود أدمغة صغيرة، قد تحتاج إلى استخدام أدوات مثل خيوطها، مما يمكنها من توسيع إدراكها وتحسين عمليات اتخاذ القرار.
هل يمكن اعتبارها واعية؟
على الرغم من أن معظم اللافقاريات تُعتبر غير قادرة حتى على أدنى مستويات الوعي، إذ تستجيب للمواقف بشكل تلقائي، فإن العناكب على النقيض من ذلك، وخاصة الأنواع المشابهة للنوع “بورشيا” مثلا، تُظهر قدرات واعية مثل إنشاء خريطة ذهنية للبيئة المحيطة بها، بجانب القدرة على التفكير في المستقبل والتخطيط له، مما قد يدل على وجود تجارب داخلية أكثر تعقيدًا. وتقول فيونا كروس: “اتضح لنا خلال التجارب أن العناكب قادرة على التفكير فيما تفعله قبل أن تفعله”.
قد تساعدنا دراسة العناكب في فهم الهياكل العصبية الضرورية لوجود تجربة واعية، وكيفية تطور هذه الهياكل. في الفقاريات على سبيل المثال، يجمع الدماغ الأوسط المعلومات الحسية والإشارات الجسدية، ثم يدمجها ليكوّن تمثيلًا عقليًا للعالم وللمكان الذي يتواجد فيه الكائن.
هذا التمثيل العقلي يوجه الانتباه والحركة استنادًا إلى احتياجات الكائن، ويخلق نوعًا من “الوعي التجريبي” الذي يُبنى عليه أنواع أخرى من الوعي، مثل التأمل الذاتي. ويشير الأستاذ بجامعة ماكواري في أستراليا، أندرو بارون، إلى أن هذا الوعي التجريبي يمثل الأساس لكل شيء. (بمعنى أنه يشكل الركيزة الأساسية التي تقوم عليها التجارب الإدراكية الأخرى والوعي بمحيطنا*)
تأخذ أدمغة اللافقاريات شكلاً مختلفًا عن أدمغة الفقاريات، لكن هناك تشابهات في بعض الهياكل العصبية، إذ يوضح أندرو بارون أن ثمة بنية تُسمى “المجمع المركزي” في الحشرات، تُظهر الروابط العصبية ذاتها التي توجد في أدمغة الفقاريات. أما في العناكب، فقد تكون منطقة تُدعى “الجسم المقوس” لها نفس الوظيفة.
وعلى الرغم من أن الدراسات التفصيلية حول أدمغة العناكب ليست من أولويات علماء الأعصاب، فإن اكتشاف هذه المناطق قد يخلق تمثيلاً داخليًا للعالم يمكن أن يساعدنا في تحديد متى بدأت التجارب الواعية في التطور. قد يشير ذلك إلى أن الوعي ربما ظهر قبل أكثر من نصف مليار سنة، في فترة الانفجار الكامبري الذي شهد ظهور معظم المجموعات الحيوانية التي نعرفها اليوم.
وفي النهاية، قد يدفعنا فهمنا المتزايد للقدرات “العقلية” لدى العناكب إلى التفكير مليًا في المرة القادمة التي نجد فيها عنكبوتًا مختبئًا في زوايا منازلنا. فشبكاتها الحريرية قد تحمل في المستقبل دلائل على أصول التفكير ذاته.
الشبكات الاجتماعية
عادةً ما يُنظر إلى العناكب باعتبارها كائنات منعزلة، لكن هناك حوالي 20 نوعًا من العناكب تعيش في مستعمرات تضم آلاف الأفراد، حيث تتشارك في المهام، مثل البحث عن الطعام، بجانب بناء وصيانة الشبكات، ورعاية الصغار. هذا النمط من الحياة الجماعية ينتشر بصورة أساسية في المناطق الاستوائية، وربما طورته بعض الأنواع للتكيف مع الأضرار التي تلحق بالشبكات نتيجة الأمطار الغزيرة. كما تُعد الحماية من هجمات النمل إحدى الفوائد المحتملة لهذا الأسلوب المعيشي.
إلى جانب ذلك، تكون العناكب في المستعمرات أكثر قدرة على اصطياد الحشرات الكبيرة الموجودة في هذه المناطق. وعن ذلك، تشير الأستاذة بجامعة كاليفورنيا، نوا بينتر وولمان، إلى أن بعض الأفراد من المستعمرة يقتربون معًا من الفريسة ويحقنونها بالسم، وعندما تتوقف الفريسة عن الحركة، تنضم عناكب أخرى لتبدأ بتناولها وسحبها إلى مخبئها.
أظهرت الأبحاث الحديثة أن الأفراد داخل مستعمرة العناكب غالباً ما يتمتعون بأنواع مختلفة من “الشخصيات”، وهو ما يُفضي إلى توليهم وظائف مختلفة. فالعناكب الأجرأ هي التي تتعامل مع الفرائس الخطيرة، في حين تظل العناكب الأكثر خجلاً في المناطق المحمية. وقد وجدت بينتر وولمان وزملاؤها أن الأفراد الأجرأ قد يصبحون قادة قادرين على تشجيع بقية أفراد المستعمرة على التصرف بصورة أكثر عدوانية عند مهاجمة الفرائس التي تقع في شباكهم.
وفي النهاية تختتم الأستاذة حديثها قائلة: “يحدث هذا السلوك بصورة أكبر في المناطق التي تكون فيها الفرائس نادرة، وبالتالي تكون المخاطر أعلى”.
* إضافات من المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت