يأمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال قمة بريكس التي تنطلق أعمالها اليوم الثلاثاء في بناء نظام عالمي جديد للمدفوعات المالية لمهاجمة هيمنة الولايات المتحدة على المالية العالمية وحماية روسيا وأصدقائها من العقوبات، وفق تقرير لصحيفة إيكونومست البريطانية.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في مؤتمر صحفي الشهر الماضي، “الجميع يدركون أن أي شخص قد يواجه عقوبات أميركية أو غربية أخرى”، مضيفًا أن من شأن نظام مدفوعات بريكس أن يسمح “بالعمليات الاقتصادية من دون الاعتماد على من قرروا تحويل الدولار واليورو إلى سلاح”.
ومن المقرر أن يتم بناء هذا النظام، الذي تطلق عليه روسيا اسم “جسر بريكس”، في غضون عام، وسيسمح للدول بإجراء تسوية عبر الحدود باستخدام منصات رقمية تديرها بنوكها المركزية، وفق إيكونومست.
ومن المثير للجدل أن هذا النظام قد يستعير مفاهيم من مشروع مختلف يسمى “إم بريدج”، الذي يدار جزئيًا من قبل بنك التسويات الدولية الذي يتخذ من سويسرا مقرًا، وهي أحد معاقل النظام الذي يقوده الغرب.
وحسب الصحيفة البريطانية، فإن المناقشات ستركز خلال القمة على السباق لإعادة تشكيل مسارات نقل الأموال؛ فلطالما راهنت الصين على أن تكنولوجيا المدفوعات من شأنها أن تقلل من قوة أميركا لكونها في مركز التمويل العالمي (عبر السيطرة على أنظمة تحويل الأموال)، وقد توفر خطة مجموعة بريكس معاملات أرخص وأسرع، وقد تكون هذه الفوائد كافية لإغراء الاقتصادات الناشئة، وفق الصحيفة.
وفي إشارة إلى أن الخطة تنطوي على إمكانات حقيقية، يخشى المسؤولون الغربيون أن يكون النظام المزمع استحداثه مصممًا للتهرب من العقوبات، في حين يشعر البعض بالإحباط إزاء الدور غير المقصود الذي يلعبه بنك التسويات الدولية، وهي منظمة مقرها سويسرا والمعروفة باسم البنك المركزي للبنوك المركزية.
أساس الهيمنة الأميركية
وكانت هيمنة أميركا على النظام المالي العالمي أساسًا لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تعكس ثقلها الاقتصادي والعسكري، ولكنها تعكس كذلك حقيقة مفادها أن الأصول المقومة بالدولار -مثل سندات الخزانة الأميركية- تعد آمنة من مصادرة الحكومات والتضخم ويسهل شراؤها وبيعها، حسب الصحيفة.
ورغم أن البنوك المركزية عملت على تنويع حيازاتها بما في ذلك الذهب، فإن نحو 58% من احتياطات النقد الأجنبي موجودة بالدولار، كما أن تأثيرات شبكة الدولار تضع البنوك الأميركية في مركز أنظمة المدفوعات العالمية.
ووفق الصحيفة، يشبه إرسال الأموال حول العالم إلى حد ما السفر في رحلة طيران طويلة؛ فإذا لم يكن ثمة ارتباط مباشر بين مطار الإقلاع والوصول فسوف يحتاج الركاب إلى تغيير الرحلات (ترانزيت)، ويفضّل أن يكون ذلك عبر مركز مزدحم يتصل بالكثير من الطائرات الأخرى.
وفي عالم المدفوعات الدولية، فإن أكبر مركز هو أميركا، حيث تقوم العديد من بنوك العالم بمبادلة العملات الأجنبية من أولئك الذين يدفعون بالدولار، ثم بالعملات التي يتم بها استلام المدفوعات.
وبالنظر إلى أن جميع البنوك التي تتعامل بالدولار تقريبًا يجب أن تفعل ذلك من خلال بنك مراسلة في أميركا، فإنها قادرة على مراقبة التدفقات بحثًا عن علامات تمويل الإرهاب والتهرب من العقوبات، مما يوفر لقادة أميركا قوة كبيرة كانوا حريصين على استخدامها كبديل للذهاب إلى الحرب، حسب الصحيفة.
وارتفع عدد الأشخاص الخاضعين للعقوبات الأميركية بنسبة تزيد عن 900% (إلى نحو 9400 شخص) في العقدين حتى عام 2021، وطالبت أميركا بفصل بعض البنوك الأجنبية عن “سويفت” (SWIFT)، وهو نظام مراسلة مقره في لجيكا يستخدمه حوالي 11 ألف بنك في 200 دولة لتحويل الأموال عبر الحدود، وفي عام 2018 قُطع سويفت عن إيران.
تسونامي روسيا
لكن هذا لا يقارَن بشراسة الهجوم المالي على روسيا بعد اندلاع الحرب مع أوكرانيا في عام 2022، فقد جمّد الغرب 282 مليار دولار من الأصول الروسية المحتفظ بها في الخارج، وفصل البنوك الروسية عن نظام السويفت ومنعها من معالجة المدفوعات من خلال البنوك الأميركية، كما هددت واشنطن بفرض “عقوبات ثانوية” على البنوك في البلدان الأخرى التي تدعم المجهود الحربي الروسي، وحتى صناع السياسات الأوروبيين الذين يؤيدون العقوبات شعروا بالفزع إزاء السرعة التي أغلقت بها “فيزا” و”ماستركارد” أبوابهما في روسيا (وهما شركتان أميركيتان تعتمد عليهما منطقة اليورو في المدفوعات بالتجزئة).
ودفع “التسونامي” الذي ضرب روسيا خصوم أميركا إلى تسريع جهودهم للابتعاد عن الدولار، كما دفع العديد من الحكومات الأخرى إلى النظر في اعتمادها على التمويل الأميركي، وتعتبر الصين هذا الاعتماد إحدى كبرى نقاط ضعفها، وفق إيكونومست.
ويأمل بوتين في الاستفادة من هذا الاستياء من الدولار في قمة بريكس، وبالنسبة له فإن إنشاء خطة جديدة يشكل أولوية عملية ملحة، فضلاً عن كونه إستراتيجية جيوسياسية، والآن تتعامل أسواق الصرف الأجنبي في روسيا باليوان حصريا تقريبا، ولأنها لا تستطيع الحصول على ما يكفي من العملة الصينية لدفع ثمن كل وارداتها، تقلصت إلى المقايضة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الجاري وافقت روسيا على شراء فاكهة اليوسفي من باكستان مقابل الحمص والعدس، ووفقا لبعض التقارير فإن هذه الضغوط على السيولة تتزايد.
ويأمل بوتين في جعل الحياة خارج النظام الأميركي أكثر احتمالاً من خلال السيطرة على بعض وسائل تحويل الأموال، وقد عقد مسؤولو مجموعة بريكس سلسلة من الاجتماعات قبل القمة في قازان، وناقشوا إنشاء وكالة تصنيف ائتماني لمنافسة الوكالات الغربية الرئيسية التي ترى روسيا أنها “عُرضة للتسييس”، كما درسوا إنشاء شركة إعادة تأمين لتجنب الوكالات الغربية التي تُمنع من إعادة التأمين بعض الناقلات التي تنقل النفط الروسي، ونظام مدفوعات ليحل محل فيزا وماستركارد.
ودفع بوتين نحو إنشاء عملة مشتركة لمجموعة بريكس ترتكز على سلة من الذهب وغيره من العملات غير الدولار، لكن المسؤولين الهنود اعترضوا على هذا في الأسابيع الأخيرة.
الأمول الرقمية
وأشارت الصحيفة إلى أن المبادرة الأكثر جدية على الإطلاق هي خطة لاستخدام الأموال الرقمية المدعومة بالعملات الورقية، ما من شأنه أن يضع البنوك المركزية -وليس البنوك المراسلة التي لديها القدرة على الوصول إلى نظام المقاصة بالدولار في أميركا- كوسيط في المعاملات عبر الحدود.
ومن خلال اللامركزية في النظام المالي، فإن الاقتراح يعني أنه لا يمكن لأي دولة أن تقطع الاتصال بدول أخرى، وبما أن البنوك التجارية ستتعامل من خلال بنوكها المركزية، فلن تحتاج إلى الحفاظ على علاقات ثنائية مع البنوك الأجنبية، وتتجاوز التأثيرات الشبكية لنظام المراسلة المصرفية الحالي.
وحسب إيكونومست، يبدو أن خطة بريكس الجديدة، التي تركز على العملات الرقمية التي تديرها البنوك المركزية، مستوحاة جزئيًا على الأقل من منصة مدفوعات تجريبية تسمى “إم بريدج” (mBridge)، التي طوّرها بنك التسويات الدولية جنبًا إلى جنب مع البنوك المركزية في الصين وهونغ كونغ وتايلند والإمارات والسعودية، بالإضافة إلى 31 عضوًا مراقبا آخر.
وتقول وسائل الإعلام الحكومية الصينية إن خطة بريكس الجديدة “من المرجح أن تبنى على الدروس المستفادة” من مشروع إم بريدج.
وأشارت الصحيفة إلى أن اقتحام مجموعة بريكس سباق شبكات المدفوعات يكشف عن التحديات الجيوسياسية الجديدة التي تواجه المنظمات المتعددة الأطراف، ففي اجتماع مجموعة العشرين للاقتصادات الكبرى في عام 2020، أوكل إلى بنك التسويات الدولية تحسين النظام الحالي، وتجربة العملات الرقمية بناءً على مقترح الصين.
وفي وقت سابق من هذا العام، دعا رئيس البنك أوغستين كارستينز إلى “هياكل جديدة تمامًا” و”إعادة التفكير الجذري في النظام المالي”. لكن مع وجود أهداف متنافسة لأعضاء مختلفين في المنظمة، أصبح البقاء فوق المعركة أكثر صعوبة.