قَرصة الذبابة والضمير
في عام 1984، كان الدكتور إبراهيم أحمد المقادمة (1952-2003) يقيم مع شيخه الشيخ أحمد ياسين في غرفة واحدة بالسجون الإسرائيلية، وكان المقادمة بما عُرف عنه من نشاط وحيوية داخل السجون وخارجها، يقدم محاضرة للأسرى يحدثهم فيها عن ضرورة “إحداث تغـيير جذري في نفسية الإنسان الفلسطيني بشكل خاص والمسلم بشكل عام، تنقله من حياة الاتكالية على الغير والركون إلى الحياة الدنيا والأنانية؛ إلى حياة المبادرة والإيجابية والتضحية”، مستحضرا غزوة مؤتة واستقبال أطفال المدينة المنورة ونسائها للمجاهدين ووصمهم إياهم بالفرار.
في ثنايا المحاضرة، قال المقادمة، وشيخه ياسين يستمع، “إننا بحاجة إلى تربية عميقة لشعبنا للوصول إلى هذه الروح التي تجعل الشعب بأكمله مجاهداً، شيباً وشباباً ونساء”.. ضحك الشيخ ياسين وقال للمقادمة: “متى ستعمل ذلك؟”، فأجاب التلميذ المحاضر: “بالجد والمثابرة نستطيع، ورغم أننا في بداية الطريق، فإننا حققنا بعض الإنجازات”، فقال الشيخ ياسين بهدوئه المعروف وحكمته المعهودة: “يا بني لن تصل إلى ذلك إلا من خلال الجهاد.. ابدؤوا الجهاد وسترى تحققَ ذلك على الأرض”.. يقول المقادمة: “وكانت لفتة جميلة من هذا الشيخ المربي الذي آمن دائما بأن العمل الصالح هـو مفتاح التوفيق والهداية، والعلم والتطوير”.
اقرأ أيضا
list of 2 items
قبرص والدور الخفي في الحرب على غزة ولبنان
ما بعد استشهاد السنوار.. هل تنتهي الحرب على غزة قريبا؟
end of list
بعد ذلك الحوار بين الشيخ وتلميذه المقرب، رأى المقادمة نموذج الحاضنة الجهادية الذي حلم به في غزة يوم شيّع نصفُ سكانها الشهيد يحيى عياش عام 1996، ورآه في خنساء فلسطين أم نضال وهي تودع أبناءها للاستشهاد. وبالطبع لم يكن الطريق سالكا إلى الجهاد في فلسطين بعد نكسة 1967، ولا بناء نموذج الحاضنة سهلا في شعب سلطت عليه كل أسباب الفتن، وكان الضباط الإسرائيليون يحاضرون في أبنائه يحذرونهم من الجهاد، ويرسخون اليأس في نفوسهم وفلسفة العدمية في ضمائرهم.
وقد حضر المقادمة وهو في السادسة عشرة من عمره، محاضرة لنائب الحاكم العسكري الإسرائيلي في غزة، وقد جمع أبناء مخيم الشاطئ من سن 16 عاما إلى عمر الستين، وكان يخوفهم من العمل الفدائي وهم في فترة منع تجول استمرت 24 يوما، وألقى على مسامعهم “محاضرة مقرفة خلاصتها التشكيك في العمل الفدائي وجدواه من جانب، والتشكيك في أخلاقيات الفدائيين من جانب آخر”.
كان مما قاله الضابط الإسرائيلي “إن هؤلاء الفدائيين تأثيرهم بالنسبة لجيش الدفاع الإسرائيلي مثل قرصة الذبابة، فهم لا تأثير لهم، وإن جميع الدول العربية أوقفت إطلاق النار إلى أن يفرجها االله، لأن جيش الدفاع الإسرائيلي هزم كل الجيوش العربية ولم يبق إلا مخيم جباليا لم يوقف النار، فلماذا لا توقفوا النار إلى أن يفرجها الله”.
كان كلام الضابط المحتل مقرفا عند المقادمة بطبيعة الحال، لكنّ تفهّم أحد الحضور لكلامه كان عميق الأثر في حياة المقادمة، فقد قال رجل كبير يجلس بجواره “(والله بيحكي نقدي)، أي يؤمّن على كلام الضابط الإسرائيلي”.. كان هذا التعليق صاعقا لإبراهيم، وأيقن من حينها أن شعبه “بحاجة إلى تغيير جذري حتى يستوعب فكرة المقاومة ويدعمها ويلتف من حولها ويحميها ويطورها”.
ما إن استوى المقادمة على سوقه فكريا وقياديا، وقد رأى مع شيخه ورفاق دربه ثمار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي أسسوها قد بدأت تَيْنَع، وتجاوزوا بفضل الله وبتضحيات شعبهم وصموده كل المحن والضربات الأمنية، وبدأت الانتفاضة الثانية، حتى تفاجأ بأن مناضلي الأمس من أبناء حركة فتح وغيرها “وصلوا إلى قناعة ذلك المسن الجاهل وبدؤوا يتقبلون آراء ضباط الاحتلال”، وكان يقرأ في الصحف ويسمع في وسائل الإعلام مطلع عام 2003 “من يتبنى نفس الموقف بأن وسائل المقاومة لا قيمة لها وأنها لا تزعج اليهود، بل تجلب لنا الخراب والدمار والقتل والاعتقال”.
لم تؤثر المفاجأة على نفسية المقادمة المطارد حينها من قوات الاحتلال والسلطة، فقد كان صدره مفعما بالأمل وتجاوز صدمة موقف ذلك المسن الجاهل، ورأى “التغيير الهائل الذي حصل في تركيبة شعبه ونفسيته تجاه الجهاد والمقاومة بشكل إيجابي”، هذا التغيير المذهل لعب المقادمة فيه دور المنظر والمؤرخ والمربي، واشتهر بصفة “مفكر حماس” أو “مفكر المقاومة”.
التفكير بأسماء مستعارة
لم يكن إطلاق مفكر المقاومة أو حماس على الدكتور المقادمة اعتباطيا، ولا مجاملة أيديولوجية من أتباع، فقد شهد له بذلك شيخه أحمد ياسين يوم خرج في تشييع جنازته الحاشدة، فقال عنه: “كان الدكتور رجل فهم ورجل علم وبحاثة، وكان يدرس الكثير الكثير جداً بينما غيره يلهو ويلعب في السجون أو غير ذلك، له لمسات كثيرة في فكر الحركة وتربية أبنائها، وله بعض المؤلفات والكتب عن فلسطين، وكان مدرسة في البناء والتربية، وهذا قدرنا وقدره أن يلقى الله شهيداً غير مضيّع ولا مفرط”.
فلئن اشتُهِر دور الدكتور الشهيد إبراهيم المقادمة في تأسيس حركة حماس، وعرفتْ جهوده وتضحياته في القضية الفلسطينية، وأُعجب الدارسون بجمعه بين جهاد السيف وجهاد القلم، كما عرف معاصروه مزاياه الشخصية والتربوية، سواء في أزقة مخيمات غزة ومساجدها، أو في جامعات مصر، أو سجون إسرائيل، فإن ثمة ملمحا من حياته تميز به، لم ينل حظه من الدراسة في سياقه الفلسطيني الخاص، وسياقه الإسلامي العام، وهو جانبه الفكري وتنظيره للمقاومة ووضعه “معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين”.
هذا الجانب الفكري من حياة الدكتور المقادمة نوّه به شيخه أحمد ياسين، ورفاق دربه أمثال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي والدكتور محمود الزهار، فهو لدى الأول “مفكر واسع الثقافة والاطلاع”، ولدى الثاني “أكثر الناس إدراكاً للتاريخ الفلسطيني ووعياً بمجريات ما يحدث، بالإضافة إلى قدرته على التحليل والاستفادة من هذه التجارب”.
إشارة الشيخ أحمد ياسين إلى لمسات المقادمة في صياغة فكر حركة حماس وتربية أبنائها، تجعل التوقف مع معالم فكره محطة أساسية لتتبع خطى الحركة من الانطلاق عام 1987 إلى طوفان الأقصى فجر 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو دور فكري وقيادي أهّله لأوصاف كثيرة منها “نووي حماس”، و”المفكر الشهيد”، و”فيلسوف الشهداء”.
وكان المقادمة صاحب قلم موسوعي، إذ كتب في الفكر والسياسة والتاريخ والأدب والشعر والمسرح والإعلام، وهو القائد الأكثر تنظيرا للتحرير في تاريخ الحركة، مما جعل أعماله الكاملة غير المنشورة تقع في مجلدين ضخمين بنحو 1400 صفحة.
جمع المقادمة بين التنظير والتطبيق في عمله الإسلامي والمقاوم، فقد كان يدَ ورجل ولسان الشيخ أحمد ياسين، والشارح لرؤاه، والمؤصل لأفكاره، وتميز “بالبعد الحركي والقومي، ولذلك وجدناه في فترة من الفترات مسؤولا عن ترتيبات إدارية وأمنية في الحركة، وهذه الترتيبات قادرة على أن تحقق الهدف العام لرؤيته الإستراتيجية الواضحة”، وفقا للدكتور محمود الزهار.
كما جمع بين العمل داخل فلسطين وخارجها، فهو “أول من أطلق لحيته في كلية الطب” بجامعة القاهرة، وكان نظيره الدكتور موسى أبو مرزوق في كلية الهندسة، وهما ممن أعادا تنظيم صفوف الإخوان المصريين والفلسطينيين في جامعات مصر مطلع السبعينيات.
كان مقام المقادمة في مصر لدراسة طب الأسنان منذ قدومه إليها يوم 16 أغسطس/آب 1971 مرحلة محورية في حياته الدعوية والتنظيمية، فقد جاءها بعد مبايعته جماعة الإخوان في غزة عام 1970، وهي الجماعة التي سمع عنها عام 1965 أيام محنتها من عبد الناصر، وكان ناصري الهوى قبل أن تصعقه هزيمة 1967، فصحا فهمه على حقيقة الدعاية الناصرية التي عوّل عليها جيله في تحرير فلسطين وهو في الإعدادية ابن 15 ربيعا، فكان الإخفاق قاسيا يوم أخبره أستاذه أن الجيش المصري في بئر السبع سيسحق إسرائيل في ساعات، فكان العكس المؤلم.
لقد تركت تلك النكسة في نفس المقادمة أثرا عميقا تحدث عنه في أكثر من موضع، فقال: “كنت ممن نشؤوا في زمن حكم جمال عبد الناصر، وكنت من المفتونين بشخصيته وبالشعارات التي يطرحها والمصطلحات الثورية التي تربينا عليها، حتى جاءت حرب 1967 فكشفت زيف هذه الشعارات وخواء هذه المصطلحات، وكذب هذا الزعيم بل وكل الزعماء الذين قادوا الأمة إلى الهزيمة”.
عرف المقادمة جماعة الإخوان أكثر بعد تعرفه على الشيخ أحمد ياسين الذي سمع عن خطبه التجديدية في قطاع غزة، فسافر إلى مسجد العباس في مدينة غزة حتى رأى ذلك الخطيب المشلول الذي يحدث الناس عن شمول الإسلام، ويحثهم على العمل “المنظم”. وفي مصر لقي أعلام الدعوة أمثال الشيخ محمد الغزالي وسيد سابق، وأتيحت له الكتب والموسوعات فكان “عينا على الدراسة وعينا على السياسة”.
عند عودته إلى قطاع غزة طبيبا للأسنان عام 1976، انخرط مع الشيخ أحمد ياسين في الدعوة والتنظيم، فكان من الجيل الثاني المؤسس للحركة الإسلامية في فلسطين، فعمل في مستشفى ناصر الحكومي وفي العريش وتعلم الأشعة، ثم فتح عيادة للطب والدعوة في مخيم جباليا الذي ولد فيه يوم 14 مايو/أيار 1952، فكان سفير الدعوة إلى المخيم الذي نزح إليه أهله عام 1948 من بيت دراس في قضاء غزة، ثم هجروا منه إلى مخيم البريج عام 1971.
في قطاع غزة بعد رجوعه طبيبا، جمع المقادمة بين العمل الحكومي والخاص والنشاط الدعوي، قبل أن يدخل مع شيخه أحمد ياسين السجن الذي مكثا فيه 9 سنوات، علاوة على سنة أخرى في سجون السلطة بتهمة تأسيس جهاز عسكري سري. وكانت فترة السجن الأولى “هي المحضن لتطوير فكرة المقاومة ونفسية المقاومين التي تعتمد على الإنسان المؤمن أولاً وقبل كل شيء”، وكان هو ممن أسس ما عرف في أدبيات حركة حماس الأسيرة “بالمدرسة اليوسفية”.
خلال إقامته في السجن كتب المقادمة أهم كتبه وبحوثه، وبعضها كتبه بأسماء مستعارة بسبب الأوضاع الأمنية في السجون، مثل بحث “الصراع السكاني في فلسطين” الذي كتبه باسم محسن كريم، ومسرحية “محاكمة يحيى عياش” التي كتبها باسم عبد الله الخليلي، وبحث “أساسيات في التربية” باسم سلامة خليل.
بحوث المقادمة ومقالاته كثيرة جدا كُتبت في فترات متفاوتة وفي أحوال متباينة من تاريخ القضية الفلسطينية، وكتبت بلغة صارمة متحررة من إكراهات السياسة، وتناولت مختلف القضايا التاريخية والديموغرافية والإسلامية، وأسس التربية والبناء الحركي، وتصحيح المفاهيم والصراع السياسي الداخلي وفكر المقاومة. وما يهمنا من كل ذلك هو رؤيته لتحرير فلسطين باعتبار أن أكبر كتبه خصصه لهذا الأمر، وكل الكتب والبحوث والمقالات الأخرى تُعد كالهوامش لهذا الكتاب، فما هي معالم طريق تحرير فلسطين عند مفكر حماس؟
إهمال فكري
أدرك المقادمة أن القضية الفلسطينية منذ ظهور مقدماتها أواخر القرن 19 وظهورها عملياً أمام الجميع بعد وعد بلفور يوم 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، لم تعالَج “معالجةً حقيقيةً لا على المستوى النظري والفكري، ولا على المستوى السياسي والعملي والعسكري”.
ويرى أن كل المعالجات التي سبقت معالجتَه الفكرية للتحرير كانت “إما مشوهة منحرفة أو كانت قاصرة عن الإحاطة بجميع جوانبها، وفي الوقت الذي كانت تبرز فيه بعض التصورات والمفاهيم الجيدة، كانت تنقصها الخبرة العملية لمواجهة المؤامرة بحجمها الحقيقي، مما جعل بعض الحركات الناضجة فكرياً تُجهض في مهدها نتيجة للظروف والتحديات التي كانت أكبر حجماً من هذه المعالجة”.
ومن ثم يرى أنه آن الأوان لتقديم رؤية للتحرير منبثقة من الإسلام، فالحركة الإسلامية عنده هي المهيأة للقيام بهذا الدور بعدما فشلت كل الأطروحات التي سبقتها، فبعد “المعاناة المريرة والفشل الذريع الذي تميزت به المواجهة العربية، لا بد لنا من وقفة صادقة مع النفس نراجع فيها كل معادلة الصراع بأطرافها المشتركة فيها وأبعادها وطرق مواجهتها”، كما يقول في مقدمة كتابه “معالم في الطريق إلى تحرير فلسطين” المؤلف في السجن عام 1987 قبيل وأثناء انطلاق المفاوضات الأولى، وهو أطول كتبه وأهمها، وإن طرأت بعده تغيرات في معادلة القضية الفلسطينية غطاها بمقالات مواكبة لكل التطورات وفي بحوث وكتب أخرى، أهمها كتابه عن “اتفاق غزة-أريحا.. رؤية إسلامية”، وبحث “الصراع السكاني في فلسطين”.
التسلح بالخصائص
في اعتقاد المقادمة أن الحركة الإسلامية في فلسطين هي المسؤولة عن التحرير وهي القادرة عليه، بشرط أن تتسلح في جهادها بستِّ خصائص حددها، وهي:
- تحديد رؤية واضحة لطبيعة المعركة، تجيب عن حقيقة الحركة المتصدية للتحرير، وتعرف الأعداء الحقيقيين، وطبيعة الصراع بين الحركة والأعداء.
- ارتباط الحركة بعقيدتها وتاريخها، وعدم خضوعها في التصورات والتوجهات للأهواء الآنية، فبقدر تمسكها بالمنج الإلهي يكون النصر.
- إخلاص التوجه والعمل لله، فبذلك تستحق النصر والاستخلاف وميراث الله.
- التخطيط الشامل في كل المراحل، والبعد عن الارتجال والحركات الانفعالية المتسرعة.
- العمل المستمر والصبر المتواصل والجهاد الطويل لبلوغ الأهداف.
- وحدة العمل الإسلامي وعدم بعثرة الجهود الإسلامية في خلافات داخلية أثبتت كل التجارب أنها سبب الهزيمة.
وهذه المحددات المنبثقة من التصور الإسلامي للعمل والجهاد محورية عند المقادمة، باعتبار أن الإسلام هو وحده القادر على حشد الطاقات لتحرير الأرض، فلا بد “من العودة إلى الإسلام وإنشاء جيل مسلم يتولى حل القضايا الإسـلامية”.
معرفة أطراف الصراع
يرى المقادمة أن معرفة العناصر المشاركة في الصراع داخل فلسطين شرط أساسي للتحرير، فيجب أن يُعرف كل واحد منها على حدة، وأن تُعرف “أهدافه من الدخول في هذا الصراع حتى يكون واضحاً لدينا أسلوب التعامل مع كل هذه العناصر”. كما يجب عنده “معرفة طبيعة هذا الصراع حتى نعدّ له عدته، ونتسلح بأدواته ونعدّ أنفسنا إعداداً يكافئ تحدياته، لأن معرفة طبيعة المعركة وتحديدها هي أول الطريق إلى النصر”.
والعناصر المشاركة في الصراع عند المقادمة أيام تأليفه للكتاب؛ أربعة، وهي:
- اليهودية العالمية وتنظيمها الحركي المتمثل في المنظمة الصهيونية.
- الصليبية العالمية على اختلاف توجهاتها، وخص بالذكر بريطانيا والولايات المتحدة.
- الشيوعية العالمية ممثلة في الاتحاد السوفياتي.
- المسلمون بمن فيهم أهل فلسطين نفسها.
قام المقادمة “بدراسة كل فريق من هذه الفرق على حدة، درس فيها دوافعه للصراع وصفاته ودوره فيه”، وبدأ باليهود وانتهى بالمسلمين الذين عليهم “المعوّل في تحويل مسار القضية من الهزائم المتلاحقة إلى النصر الحاسم بإذن االله”.
ينطلق المقادمة في دراسته لهذه العناصر الأربعة من حقائق قررها القرآن الكريم، لا سيما عن اليهود وخصائصهم النفسية، ثم تحولاتهم التاريخية وما كتبه مؤسسو الصهيونية في مذكراتهم، ويستعرض الأساطير المؤسسة للفكرة الصهيونية. وقد أخذت دراسة هذه العناصر جزءا كبيرا من صفحات الكتاب، لا سيما التجارب التي مر بها النضال الفلسطيني قبل حركة حماس. وقد توقف المقادمة مع تلك التجارب طويلا دارسا ومعتبرا.
عبر التجارب
توقف المقادمة مع تجارب النضال الفلسطيني منذ بدء المؤتمر الصهيوني عام 1897، مرورا بأحداث موسم النبي موسى عام 1920، وأحداث البراق عام 1929، وثورة القسام بين عامي 1935 و1939، وهي الثورة الفلسطينية الكبرى. كما استعرض ما أسماها الحلول الترويضية وتاريخها، ونشأة حركة التحرير الفلسطينية ومآلاتها، في سرد تاريخي متقن وتأمل متأنٍّ، وكان رصده التاريخي والعبر المستخلصة منه دعوة لحركة حماس إلى تجنب أخطاء الماضين.
ورأى أن ثورة القسام اختفت تماما بسبب “طريقة التجميع” لأفرادها، وهي ببساطة “جمع كل من يقوم للعمل ضد الاحتلال بدون أي دور من أدوار التربية والتثقيف الروحي والعقائدي والسياسي، وبدون التركيز على روابط تنظيمية قوية. وكانت الطرق المتبعة في تجميع الأنصار هي القيام بالمؤتمرات الخطابية في هذه المدينة أو تلك القرية، حيث تلهب عواطف الجماهير بدون تركيز على التكوين الفردي والجماعي للأفراد”.
وأدرك أن هذا “الأسلوب من فوائده سرعة تجميع أكبر عدد من الأنصار، ولكن من سلبياته الخطيرة أن هؤلاء الأنصار سرعان ما ينفضون عن الثورة إذا طال الطريق أو بدت في الأفق علامات انتكاس. وعلى هذا فإن الكثير من الثوار ينقلبون تحت وطأة اليأس إلى عمال في معسكرات جيش الاحتلال، إن لم يتحولوا تماما إلى الصف الآخر”.
ومن عيوب هذه الطريقة عنده أيضا، “سهولة اختراق جسم الثورة من قبل العملاء والمرتزقة والمتسلقين، حيث لا تدقيق في نقاء الأفراد، ويكون مؤهل الدخول في الثورة والترقي في مراكزها القيادية من نصيب الأعلى صوتا والأكثر مالا ونفوذا، ولعل هذا يفسر كيف أن الثورة اختفت تماما بعد عام 1939 ولم يعد لها وجود”.
كما أخذ على الثورة الكبرى أيضا أنها بدأت مفاجِئة من غير تدرج، ومن شروط نجاح الثورة عنده أنها “تبدأ بدايات بسيطة ثم تنمو مع الزمن كالطفل الوليد يشتد ساعده يوما بعد يوم، ومن خلال التجارب والنجاحات الصغيرة والإخفاقات والمعاناة يشتد ساعد الثورة ويصلب عودها، حتى تلتف حولها في النهاية كل الجماهير، وبذلك تدخل الثورة في زمن الانتصار”.
وأشار المقادمة إلى أن فقدان الثورة للعمق الإستراتيجي أضرّ بها، “فقد كان واضحا لدى القيادة الفلسطينية البعد الإستراتيجي للصراع وحجم الأعداء الذين تواجههم، وكان طبيعيا أن تنظر هذه القيادة حولها لكي تشكل لها عمقا إستراتيجيا لحمايتها حتى لا تقف وحدها في صراعها الطويل، وهنا وقعت الثورة في تقديرين خاطئين”: أحدهما الاعتماد على الغير من غير وعي، والثاني الارتهان للأنظمة التي تتوهم دعمها، وهي بعض الأخطاء التي وقعت فيها حركة فتح فيما بعد.
وهذه الأخطاء التاريخية هي التي حاولت حماس تفاديها في التأسيس والمسار، ولخّصها المقادمة في كتاب معالم طريق التحرير، وأوضحها في كتاب ” اتفاق غزة-أريحا.. رؤية إسلامية”، وذكر في الأخير أن من شروط التحرير والتصدي للاتفاق الاستسلامي عدة أمور:
- مواصلة الجهاد المسلح وعدم التوقف عنه مهما كانت الظروف والصعوبات، لأنه رمز الحياة للمسلمين، وأن الجهاد هو الذي سيبقي القضية في نفوس المسلمين حية قوية.
- بناء الحاضنة الشعبية المتماسكة، وذلك بالتوسع في توصيل الدعوة إلى الجماهير بكل الوسائل الممكنة، واستغلال طاقة المقاومة التي اكتسبتها الجماهير في الانتفاضة وتحويلها إلى طاقة إيمانية تدفع الشعب إلى الالتفاف حول الحركة الإسلامية وتأييدها في الجهاد ومدّ يد العون لها وحمايتها.
- تركيز التربية الإسلامية في نفوس الشباب وصبغ حياتهم بالصبغة الإسلامية القوية.
- التربية الأمنية والعمل الأمني الدقيق في المرحلة القادمة، فكل دواعي الأمن التي كانت في السابق؛ ما زالت قائمة، بالإضافة إلى العوامل الجديدة التي ستدخل في الصورة من القوى الاقتصادية والاستخبارات المعادية التي ستحاول اختراق العمل الإسلامي في المستقبل، ولذلك يجب ألا تشعر الحركة الإسلامية بالاسترخاء، بل عليها أن تحرص ألا تخترقها سلطات الحكم الذاتي التي ستتعاون مع استخبارات العدو.
- زيادة الوعي السياسي لدى شباب الدعوة الإسلامية في المرحلة القادمة، فهي مرحلة دقيقة الحساسية، وما لم يكن الشباب الإسلامي على قدر كبير من الوعي السياسي والانضباط التنظيمي فلن يستطيعوا استيعاب بعض المواقف الحركية التي قد تقضي بالهدوء أحياناً والثورة أحياناً أخرى والتحالف مع قوى أخرى أو مهادنتها.
- مؤازرة الحركة الإسلامية في البلدان الإسلامية، سواء بين الفلسطينيين أو المسلمين بشكل عام؛ للقضية الفلسطينية، بحيث تشارك هذه الحركة العالمية في دعم الحركة داخل فلسطين وتحارب تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية كلٌّ في مجاله، فمن العار أن تمتد إسرائيل في العالم الإسلامي والحركة الإسلامية لا تُحرك ساكناً لمقاومة هذا التمدد.
كان الدكتور المقادمة يراجع نظرياته في التحرير باستمرار وفق التطورات التي عرفتها القضية، ويقيسها بمستوى الوعي الجهادي في الشعب الفلسطيني ومدى تمكن وانتشار تأثير الحركة الإسلامية، وهي عنده “حركة تغيير في المقام الأول، وانقلاب شامل على كل الأوضاع الفاسدة التي أدت إلى الهزيمة، لكي نحولها إلى أوضاع جديدة تؤدي بنا إلى النصر، وما لم يفهم دعاة الإسلام ذلك فإنهم سينجرون في النهاية إلى ما انجر إليه غيرهم من التسليم بالأمر الواقع والإقرار للمحتل بحقه فيما اغتصبه من أرضنا”.
وفي مراجعة أخيرة لمعالم تحرير فلسطين بعد قيام الانتفاضة الأولى وتوقيع أوسلو، ومؤتمر شرم الشيخ، وقبيل انطلاق الانتفاضة الثانية بشهور، رأى المقادمة أن فلسطين لن تُحرر قبل تَحرر أبنائها من 10 أوهام حددها في ورقة بحثية قدمها خلال ندوة “ضياع فلسطين.. دروس وعبر” التي نظمتها جمعية البحوث والدراسات الإسلامية في ذكرى النكبة يوم 20 مايو/أيار 2001 في قاعة المؤتمرات بالجامعة الإسلامية في غزة.
التحرر من الأوهام المضيِّعة
أولها؛ وهم إمكانية التحرر تحت راية غير راية الإسلام، فعنده أن فلسطين مدينة برمزيتها ووجودها للإسلام الذي فتحها باسمه عمر الفاروق، وحررها بسببه من الصليبيين صلاح الدين، وأن الإسلام وحده هو القادر على حشد الطاقات لتحريرها، وأنها ضاعت حين ضعف الإسلام بإسقاط الخلافة العثمانية، فهي عنده معيار لحضور الإسلام قوة وضعفا، متعالية على كل الشعارات الخاطئة التي رفعت في بعض الأزمنة لتحريرها.
الثاني؛ التحرر من وهم الشرعية الدولية، فهي لم تكن في يوم من أيام التاريخ وسيلة لإقامة الدول، والشرعية الدولية اليوم -كما هي عبر التاريخ- شرعية القوي، والقوة الدولية الآن هي مع الصليبيين المعادين لديننا ولوجودنا، وهم الذين صنعوا دولة إسرائيل. وحين كانت بريطانيا تمثل الشرعية الدولية، احتلت فلسطين وقدمتها على طبق من فضة لليهود، وهي التي أمدتهم بالمال والسلاح والدعم السياسي، وهي التي أوصلت العرب إلى حافة اليأس.
الثالث؛ التحرر من وهم المراهنة على الولايات المتحدة، فهو يرى أن المراهنة عليها أدت إلى ضياع الجهود والأوقات، وقادت الفلسطينيين إلى “متاهة تمكنت من خلالها أميركا من تكريس النكبة في الواقع العربي، وكان من نتيجته أن خرجت مصر من الصراع مع إسرائيل بالرعاية الأميركية، ولحق بها الأردن. وهكذا تستمر إسرائيل في عربدتها وتوسعها بمد أذرعها الأخطبوطية إلى كل بلدان الخليج حيث الثروة النفطية”. فعند المقادمة أنه لا بد من معاملة “أميركا وبريطانيا على أنهما العدو الأول”، موضحا أن العداء لهما لن يزيد في بؤس الفلسطينيين “شيئًا عن محاولة الصداقة معهما، بل سيضع أقدامنا على بداية الطريق الصحيح للتحرر”.
الرابع؛ التحرر من وهم المراهنة على الحكام العرب، فلا يتصور المقادمة أن يأتي الحكام لتحرير فلسطين، فليس ذلك من شأنهم “ولا يفكرون في هذا التحرير، وكيف يفكرون في تحرير فلسطين وأوطانُهم غير محررة وإراداتهم مسلوبة ومرهونة بالأجنبي”. ويذهب المقادمة في رؤيته التحررية إلى أبعد من ذلك، فيقترح “على الشعب الفلسطيني أن يكون وقود المعركة التي من شأنها حرق هؤلاء الحكام العرب وتثوير شعوبهم عليهم، وحينها نستطيع أن نتعاون جميعا لتحرير فلسطين”.
الخامس؛ التخلص من وهم إمكانية تحرير الأرض قبل تحرير الإنسان المسلم، فعنده أنه لا بد من تحرير الإنسان العربي المسلم “من الوهن والضعف ومن روح الاستكانة والاستسلام، وتحريره من الرعب الذي وضعه فيه حكام العرب والمسلمين، وانخلاعه عن السلبية التي فرضتها عليه الأنظمة”، وفي سبيل ذلك التحرير لا بد عنده من “أن ينتهي تكميم الأفواه وسلب الإرادة”.
السادس؛ التحرر من وهم إمكانية منح الحكام للحرية، فعنده أن تحرر المسلم لا يمكن أن يكون هدية من الحكام، فهؤلاء ليس عندهم من هدايا لشعوبهم إلا الهراوات والكرابيج والمعتقلات لكي يحفظوا عروشهم”. وبالنسبة له، غنيٌ عن القول بأن هذا “التحرير لا يأتي لأناس كسالى مسلوبي الإرادة غارقين في الأوهام.. بل لا بد أن يُنتزع انتزاعا”.
السابع؛ التحرر من وهم المساعدات الأوروبية والأميركية والعالمية في بناء فلسطين، فيرى أن هذه المساعدات لم تأت لبناء الدولة، وإلا فأين كانت هذه المساعدات عنا حين كنا نناضل من أجل التحرير؟! فالمساعدات جاءت لتنسي الشعب الفلسطيني دولته، بدليل أنها لم تأت إلا حين “القبول بالحلول الأميركية والأوروبية كوسيلة لدعم تيار الانهيار حتى يكون له زخم شعبي”، مشيرا إلى أن شظف العيش والتقشف هما السبيل الوحيد للتحرر عبر التاريخ.
الثامن؛ التخلص من وهم إمكانية الوحدة العربية تحت أي راية غير راية الإسلام، فلا يمكن للمسلمين أن يتوحدوا تحت أيٍّ من الشعارات التي تطرحها الأنظمة، “لأن هذه الأنظمة ما وُجدت إلا لمنع الوحدة العربية، وأي حاكم يحاول تغيير هذا الواقع عن طريق القوة فإن أميركا له بالمرصاد، وحربُ العراق والكويت خير دليل على ذلك. ولكن من خلال الإسلام، فإن الوحدة تكون وحدة شعوب، ولن تستطيع أميركا أن تقف في وجه شعوب ثائرة تريد حريتها”.
التاسع؛ التحرر من وهم المراهنة على السياسة الإسرائيلية في رسم مستقبل القضية الفلسطينية، “فاليهود لن يعملوا أبدا لمصلحة الشعب الفلسطيني، وإنما كل همهم -على اختلاف مشاربهم السياسية- كيف يتخلصون من الشعب الفلسطيني.. تتعدد الوسائل والهدف واحد وهو التمكين لدولة اليهود في بلادنا وتوسعها على حسابنا وتصفية وجودنا على أرضنا”، مشيرا إلى زيف حكاية جماعات السلام الإسرائيلية.
العاشر؛ التحرر من وهم إمكانية استرداد الأرض وحماية المقدسات وإقامة الدولة بدون جهاد في سبيل االله، فكل وقائع التاريخ تقرر أن الأرض لمن غلب، وأن الأوطان لا تنتزع وتؤخذ من محتليها إلا غلابا.
تلك هي خلاصات فكر الدكتور إبراهيم المقادمة في تحرير فلسطين، وهي خلاصات صاغها رجل عاش كل التجارب داخل حركة حماس المتصدرة للمقاومة، عاشها من موقع تأسيس العمل العسكري والأمني والسياسي والتربوي والمجتمعي، وهو أول قائد سياسي تغتاله إسرائيل وذلك يوم 8 مارس/آذار 2003 في عيد المرأة العالمي، وقد بكته كل فلسطين وغزة نساء ورجالا، وكانت بصماته الأمنية والسياسية والتربوية واختياراته التنظيمية واضحة في مسارات الحركة، بما فيها عملية “طوفان الأقصى”.