في خطابه صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أجمل محمد الضيف القائد العام لكتائب الشهيد عز الدين القسام، الأسباب التي قادت إلى إطلاق “عملية طوفان الأقصى”، فاستحضر بشكل مختصر ومقتضب، سمات البيئة التي حكمت السنوات الأخيرة من مشهد الصراع في فلسطين. فالتهديدات التي باتت تفرضها الجماعات الاستيطانية اليهودية على المسجد الأقصى والقدس، ومشاريع الاستيطان والضم في الضفة الغربية التي تولى أصحابها زمام الحكم في “إسرائيل”، وقضية الأسرى التي كاد ينساها أهلها ويتجاهلها العالم، قد بلغت كلها ذروة عالية لا يطالها سوى الطوفان.
لقد استشعرت المقاومة الفلسطينية خطراً وجودياً يتهدد الشعب الفلسطيني وقضيته وهوية أرضه، وهو التهديد الذي اقترن للمرة الأولى بموجات التطبيع التي نمت في ظلال “صفقة القرن” الترامبية المصممة على أساس طي صفحة نضال الفلسطينيين، وتمهيد الطريق لنزع الأرض منهم ونزعهم من أرضهم.
اقرأ أيضا
list of 2 items
غزة كشفت الواقع فأعاد مسلمو الغرب اكتشاف أنفسهم
أشهر قصص التجسس الإسرائيلية على العرب وأميركا
end of list
وكما بدأ “الضيف” خطابه، فإن الطريق إلى الطوفان طويل وصعب وضارب في سنوات النكبة والاحتلال والقتل والتهجير وتجاهل الأعراف والقوانين الدولية، إلا أن أشد مراحل هذا الطريق قتامة بدأت ملامحها بالظهور جليةً حين اكتملت معالم حسم “إسرائيل” لوجهتها يميناً، بينما حزمت كبرى الدول العربية أمتعتها للركوب في مقطورة التطبيع التي تقودها قاطرة أميركية الصنع.
“إسرائيل” أخذت مشروعها إلى أقصاه
بدا من اللحظات الأولى لمعركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس في غلاف غزة، أنها نتاج تخطيط إستراتيجي وعملياتي منذ شهور وربما سنوات، وأن هذا الأداء الذي فاجأ الجميع كان يُعد من أجل توظيفه في لحظة فارقة تحتاجها القضية الفلسطينية ويحتاجها الفلسطينيون. وظهر من خطابات قيادة حركة حماس وقيادة القسام منذ شهور وعشية انطلاق “طوفان الأقصى”، أن المقاومة الفلسطينية تأخذ طبيعة التحولات الجارية في المجتمع والحكومة الإسرائيلية بشكل جدي. وتظهر الدلائل مرة تلو الأخرى، أن هناك قدرة استثنائية للمقاومة الفلسطينية -وحركة حماس على وجه التحديد- على قراءة المشهد الإسرائيلي بكل مستوياته السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية، وطبيعة علاقاته الخارجية، وأن هذا الإدراك المعمق للمشهد الإسرائيلي يتم توظيفه في إدارة الصراع مع دول الاحتلال.
والخلاصة الأهم التي دفعت المقاومة الفلسطينية إلى إطلاق طوفانها تجاه “إسرائيل الجديدة والمتطرفة”، أن المجتمع الإسرائيلي أصبح أكثر يمينية وتطرفاً، وأن سمات المجتمع هذه وجدت طريقها إلى مؤسسات دولة الاحتلال.
وتستهدف هذه الجماعات المتطرفة عبر انضمامها إلى الحكومة؛ تعزيز وتسريع مسارات حسم الصراع وتصفية القضية الفلسطينية عملياً وعلى الأرض. بمعنى أنها تريد أن تحقق إنجازات تتعلق بالسيطرة على الأرض وطرد الفلسطينيين ووضع اليد على القدس والمسجد الأقصى، بل وهدمه وبناء الهيكل المفترض مكانه.
لقد كانت هذه الأهداف قبل سنواتٍ مجرد شعارات لمجموعات دينية متطرفة واستيطانية معزولة عن صنع القرار في “إسرائيل”، بل ولديها تحديات مع المؤسسات الأمنية والعسكرية لدولة الاحتلال. لقد باتت هذه الشعارات برنامج عمل تتبناه الحكومة الحالية وتوضع له الميزانيات، فقرارات تشريع البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، وخطط جلب مزيد من المستوطنين اليهود من أرجاء العالم، هي جزء من برنامج وزارة المالية التي يشغلها زعيم التيار الديني القومي المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي يتولى أيضا منصب وزيرة الإدارة المدنية بوزارة الدفاع. كما أن مسارات الضغط على فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 والتي يقودها وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال المتطرف إيتمار بن غفير، تعمل بصمت لتغيير الوضعية القانونية والسياسية والسكانية لفلسطينيي الداخل. وبات كلا المتطرفين، وبتحالف ودعم من نتنياهو، يملكان مقدرات الدولة ونفوذها ومؤسساتها لتنفيذ مخططاتهما الاستيطانية والإحلالية.
وفي المسجد الأقصى المبارك، باتت الاقتحامات برنامجا ترعاه أحزاب وهيئات حكومية ويقودها وزراء في الحكومة، وباتت المنظومة الأمنية والعسكرية في خدمة تأمين الاقتحامات في الطريق إلى تهويد الأقصى.
ومع تصاعد دور اليمين الديني المتطرف والمستوطنين في المؤسسات الإسرائيلية السياسية والعسكرية وبروزهم ككتلة حاسمة في حكومة بنيامين نتنياهو، تصاعدت التهديدات التي تتعرض لها الضفة الغربية على مستوى السيطرة على الأرض والضغط على الفلسطينيين لمغادرة أراضيهم، واستهداف بنى المقاومة وحاضنتها، وتفكيك أي كيان سياسي للفلسطينيين.
ومنذ قدوم رئيس الوزراء نتنياهو إلى السلطة عام 2009، حكم مبدأ “إدارة الصراع” التصورات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وليس السعي إلى الحل، وأقيمت بناء على ذلك سياسات خاصة لكل منهما.
ويضاف إلى ذلك ضرورة التأكيد على أن “إدارة الصراع” تهدف في نهاية المطاف إلى تجريد الفلسطينيين من أي مستقبل سياسي في الضفة الغربية، والحيلولة دون قيام دولة فلسطينية مستقبلية ضمن ما يُعرف “بحل الدولتين”، والإبقاء مؤقتا على الدور الأمني للسلطة.
ويبرز تصور تيار اليمين القومي الديني المتطرف كتصور “القوى الحاكمة” اليوم للتعامل مع الصراع. وفيما يخص الضفة الغربية تقوم مجمل تصورات تيار اليمين الديني القومي المتطرف على متطلبات عدة:
- تقسيم الضفة إلى مناطق عدة تحكمها إدارات مدنية منفصلة.
- احتفاظ إسرائيل بالمسؤولية الأمنية الكاملة والحرية العسكرية المطلقة للجيش.
- تفكيك السلطة الفلسطينية مع الإبقاء على وحدات فرض النظام والقانون فقط.
وفي سبيل ذلك، عمدت حكومة اليمين المتطرف ومعها جماعات الاستيطان والتهويد، إلى فرض وقائع جديدة في الضفة الغربية عبر تشريع البؤر الاستيطانية “غير القانونية” التي دشنها المستوطنون بدون الحصول على إذن من حكومة الاحتلال وجيشه، مع التوسع في هدم المنازل والمرافق الإنشائية الفلسطينية بحجة عدم الترخيص.
ومن بين تصورات تيار اليمين الديني القومي المتطرف، تظهر “خطة سموتريتش” كخطة يمتلك أصحابها التصور والخطة العملية والسلطة اللازمة وأدوات التنفيذ، فالضفة الغربية تمر بمرحلة حساسة ومفصلية قد تشكل مستقبلها وهويتها لعقود.
ولا تعكس هذه الأهداف الرؤية النهائية لخطة سموتريتش، إذ تهدف خطته المسماة “خطة الحسم” إلى السيطرة الكاملة على الضفة الغربية، ومنع قيام أي كيان سياسي للفلسطينيين فيها، وزيادة عدد المستوطنين ليصل إلى مليونين، ودعم برامج التهجير الطوعي للفلسطينيين، واستخدام الحسم العسكري مع الرافضين للهجرة أو الامتثال لحكم إسرائيل.
وتعتمد العوامل التي تساعد سموتريتش على تنفيذ مخططاته بشكل أساسي؛ على امتلاكه أوراق ضغط للتأثير على نتنياهو والجيش والسلطة الفلسطينية، بالإضافة إلى كونه لا يأبه للموقف الدولي ويترك لرئيس الوزراء مهمة التعامل مع الضغوط الخارجية.
وقبل كل ذلك، فإن مشروع الاستيطان في الضفة الغربية يشكل محط إجماع شبه مطلق في البيئة السياسية الحالية بكافة أطيافها، كما تنظر له المؤسسة الأمنية والعسكرية كحاجة أمنية.
بلا شك، فإن تداعيات خطة سموتريتش حاسمة بشأن وجود ومصير الفلسطينيين في الضفة الغربية ومجمل الصراع، لكنّ ذلك له انعكاس مهم على البيئة السياسية للعدو وتسريع حسم اتجاه الدولة والمجتمع نحو اليمين المتطرف وليس فقط اليمين، إذ إن سياسات سموتريتش وخطط الاستيطان وضم الأراضي تهدف إلى زيادة عدد المستوطنين الذين يميلون في العادة نحو التوجهات اليمينية والدينية منها، الأمر الذي يعد ارتفاعا في نسبة التأييد لليمين الديني.
كما أن نجاح التيار في تنفيذ أجندته يعد نجاحا داخل البيئة السياسية للعدو، وسينظر إلى قادة ورموز التيار على أنهم قادرون على فرض رؤيتهم، كما أن تعزيز نفوذ التيار في مؤسسات الحكومة وفي المجتمع سينعكس تلقائيا على المؤسسات الأمنية والجيش، وهو ما تظهر مؤشراته وتتصاعد بشكل مستمر، خاصة بعد طوفان الأقصى.
وتُعتبر سيطرة اليمين بكافة أطيافه على الحكومة واستمرار حاجة نتنياهو إلى التحالف مع اليمين الديني القومي المتطرف، وقرب انتهاء ولاية إدارة بايدن، واحتمالية عودة إدارة ترامب، وتراجع قدرة الجيش على التأثير في البيئة السياسية، كلها عوامل تسهم في مواصلة سموتريتش والحكومة اليمينية تنفيذ مخططاتهم للضم خلال سنوات قليلة قادمة.
يضاف إلى تلك العوامل؛ تزايد تأثير الصهيونية الدينية في أوساط الجيش وتركيزها على قيادة المنطقة الوسطى، وتعمق القناعة بإستراتيجية الاستيطان في الضفة الغربية وعدم القدرة على التعايش مع وجود الفلسطينيين، علاوة على تواطؤ السلطة الفلسطينية في قمع المقاومة بالضفة، وتَركّزِ المقاومة في بؤر محدودة.
وهذا سينعكس على المساحة التي يسيطر عليها الفلسطينيون أو تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، إذ تستهدف مخططات سموتريتش ضم 70% من مساحة الضفة في المدى المتوسط، مما سينعكس على عدد الفلسطينيين فيها وجغرافيا تواجدهم وحصرها فيما تعرف بمناطق “أ”.
ولا يظهر أن بيئة التفاعلات الإسرائيلية الداخلية تتجه إلى لجم خطة سموتريتش واليمين الديني القومي وجماعات الاستيطان، بل على العكس، إذ تظهر المؤشرات تزايد القناعة بهذا المسار وتغطيته من قبل نتنياهو والسكوت عنه، وتمريره من قبل الجيش والمؤسسة الأمنية.
لقد باتت سياسات “حسم الصراع” لليمين المتطرف وأيديولوجية التهجير (الترانسفير) والمزيد من العنف العسكري؛ مقارباتٍ قد تصبح “العقيدة الجديدة” للجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، وأن تتحول هذه السياسات اليمينية في ظل انتفاء أي أمل بالتسوية السياسية إلى مركّب أصيل من مركّبات الحكم العسكري في المستقبل.
ولوج ناعم إلى غزة
ما بين “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”، عمدت إسرائيل إلى التسلل لواذاً نحو تغيير نهجها في التعامل مع قطاع غزة، والذي قام بالأساس على فكرة احتواء حماس وإغرائها بالامتيازات. وفي سبيل ذلك، نهجت “إسرائيل” سلوكاً جديداً بتركيز استهدافها لحركة الجهاد الإسلامي وجناحها العسكري، سرايا القدس، عبر فرض جولات من التصعيد المركز معها. وكان الهدف من هذه الإستراتيجية الولوج إلى غزة وفرض قواعد اشتباك جديدة عبر عزل حركة حماس عن المواجهة واختبار استجابتها لإستراتيجية الاحتواء.
سعى الاحتلال حينها إلى فرض قواعد اشتباك جديدة عبر استهداف حركة الجهاد الإسلامي وجناحها المسلح، سرايا القدس، وتنفيذ اغتيالات نوعية ومركزة لقيادتها، وتجنب الاشتباك مع حركة حماس رغبة في تحييدها، الأمر الذي يشكل ضغطا عليها أمام الجمهور الفلسطيني، ويحدث خللاً في إدارتها للمشهد المقاوم في قطاع غزة.
وكررت إسرائيل تجربتها لثلاث جولات مع سرايا القدس، وحاولت فرض معادلة الاستفراد بفصيل بعينه، حيث سبق أن نفذت عملية اغتيال بحق القائد في السرايا بهاء أبو العطا، تبعتها جولة قتال معها كان لها تأثير سلبي على صورة حماس والعلاقة مع حركة الجهاد. وبعدها بسنتين، خاضت جولة أخرى اغتالت فيها مجموعة من أعضاء المجلس العسكري لسرايا القدس، كان أبرزهم تيسير الجعبري وخالد منصور، عقب اعتقال الاحتلال للقيادي في حركة الجهاد الشيخ بسام السعدي. وفي كلتا الحالتين، كان تقدير حركة حماس وقتها بعدم الانجرار إلى مواجهة موسعة في ظل استعداد الاحتلال الإسرائيلي العسكري. وقد قوبل هذا الموقف من الحركة بكثير من التندر والحيرة، وقد يكون أسهم بشكل كبير في تعطيل جهاز الإنذار الاستخباري لمُعدي تقديرات الموقف في أجهزة الأمن الإسرائيلية.
ويبدو أن الاحتلال الإسرائيلي فهم سلوك حركة حماس وجناحها المسلح، كتائب القسام، بشكل خاطئ وقتها، حين اعتبر أن لديه القدرة على فرض هذه المعادلة، فبادر بتنفيذ عملية اغتيال نوعية ومتزامنة لثلاثة من قادة سرايا القدس، حيث التقت مصلحة نتنياهو في استعادة زمام الأمور بعد الأزمة السياسية الخانقة التي مر بها منذ تشكيل حكومته الأخيرة؛ مع رغبة الجيش والأجهزة الأمنية في محاولة ترميم الردع مع الفلسطينيين وتثبيت قواعد اشتباك جديدة مع المقاومة في قطاع غزة.
كان واضحاً في إدارة حركة حماس لتلك المرحلة عدمُ السماح للاحتلال بفرض قواعد الاشتباك التي يرغب بها وكسرُ محاولاته لتمرير الردع، فلا يمكن السماح لنتنياهو بتحويل قطاع غزة إلى مسرح عمليات مستباح يلجأ إليه في لحظات الأزمات السياسية الداخلية، أو لتحقيق صور إنجازات أمنية وعسكرية على حساب الفلسطينيين. وبدت إستراتيجية المقاومة الفلسطينية فاعلة في إيقاع نتنياهو في الفخ الذي نصبه بنفسه. وحتى إذا صعّد الاحتلال من هجماته، سواء بمزيد من استهداف المدنيين أو بتوسيع الهجمات لتشمل حركة حماس وجناحها العسكري، أرسلت حماس وقتها رسائل بالنيران عندما وظفت غرفة العمليات المشتركة ومنحت الجهاد الإسلامي وسرايا القدس القدرات العسكرية والدعم الأمني والاستخباري لكسر المعادلة وعدم السماح بفرضها، لأن عواقب ذلك ستكون وخيمة، وستفقد غزة مع الوقت معادلة الردع التي فرضتها، بل وتمدد تأثيرها الذي فرضته في معركة “سيف القدس” في مايو/أيار 2021.
يمكن القول إن إستراتيجية حركة حماس في الأشهر التي كانت تُعِد فيها للطوفان، قامت على اجتراح إستراتيجية مقابلة لإستراتيجيات الاحتلال الإسرائيلي الذي كان وقتها ما يزال يتمسك بنظريته الأمنية التقليدية القائمة على الاستباق والمعارك القصيرة وحصر المعركة في أرض الخصم. فإذا كان الاحتلال، نظراً لتفوقه العسكري والتقني وامتهان الغدر، قادرا على الاستباق في تنفيذ عمليات الاغتيال، فإن المقاومة أفقدته عنصريْ التحكم في المدى الزمني للمعركة وحصرها في أرض الخصم. ومع إطالة أمد الجولة وتطور أداء المقاومة في غزة، سينتقل الضغط تدريجياً من كونه منصبًّا على جبهة المقاومة في غزة، إلى جبهة الاحتلال الداخلية، وهذا ما حصل بالفعل.
موجة التطبيع المسمومة
في ظل هذا المشهد الصعب الذي يواجه القضية الفلسطينية ويواجه الفلسطينيين، سبق الطوفان رحى تحولات إقليمية كبيرة في المنطقة لتعزيز مسار التطبيع مع دولة الاحتلال وإدماجها في المنظومة الإقليمية. وترعى الولايات المتحدة هذا المسار وتضم إليه تباعاً الدول العربية والإسلامية الرئيسية في المنطقة وخارجها. والأخطر في موجة التطبيع أنها قامت على فلسفة تجاوز القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وترك الموقف العربي التقليدي من الصراع -حتى بحدّه الأدنى- وراء الظهر، الأمر الذي يحوّل القضية الفلسطينية، في أحسن التصورات، إلى قضية إنسانية لمجموعات سكانية تنشد العيش والطعام والشراب والسكن.
فالمنظور الأساسي الإسرائيلي لعمليات التطبيع التي اجتاحت البيئة العربية والإسلامية منطلقها أساساً منطلق أمني. وفي ظل ما تشهده المنطقة من حالة تراجع وغياب لأي مفهوم للأمن العربي أو الإسلامي المشترك، بل واستبداله بتصدعات عربية وإسلامية، ترى دولة الاحتلال أن عمليات التطبيع يمكن أن تتطور إلى مرحلة تقود فيها دولة الاحتلال تحالفات إقليمية على المستوى العسكري والأمني والاقتصادي.
وانطلاقاً من هذه المقاربة، لم يعد التطبيع مجرد نزوات سياسية معزولة أو اضطراراً لنظام معين، أو اختراقات محدودة ينفذها العدو في المنطقة، بل بات يمثل تهديداً إستراتيجياً وأمنياً للمنطقة العربية، ويهدد مستقبلها وهويتها، ويمهد الطريق لوضع اليد على مقدراتها ومقومات أجيالها.
كما أن محاولة تأطير التطبيع في اتفاقيات إستراتيجية وأمنية مثل “اتفاقيات أبراهام” وتصديرها في سياق تشكيل إقليمي أوسع، لا يخفي حقيقة أن التطبيع يوفر البنية التحتية لدولة الاحتلال لتهيمن على الأمن الإقليمي وتلحق الدول المطبعة بها، وتوظف قدرات هذه الدول في رسم نظام أمني إقليمي يحمي دولة الاحتلال ومصالحه، وفي المقابل، يكشف دول التطبيع أمنياً وسياسياً أمام شعوبها وأمام كل المناهضين لدولة الاحتلال.
كذلك، لم تنجح جهود مقاومة التطبيع التقليدية في تحقيق إنجاز ملموس في صد موجة التطبيع المسمومة، ونظرت حركة حماس إلى هذه الموجة على أنها مُهدد إستراتيجي سيغيّر قواعد اللعبة لصالح الاحتلال، وسيفرض واقعاً جديداً قد يصعب مقاومته في حال استقراره وامتلاك الأدوات وآليات التحالف الفعلي بين دول التطبيع والاحتلال.
وفي الأشهر الأخيرة التي سبقت الطوفان، سيطرت على الأجواء احتماليةُ تحقيق موجة تطبيع جديدة تقودها الولايات المتحدة عبر توقيع اتفاقيات بين إسرائيل ودول عربية كبرى. وبلا شك فإن التداعيات السياسية والأمنية لأي اتفاق تطبيع كامل بين البلدان العربية ذات الثقل السياسي والكيان الصهيوني تُشكل خطورة على القضية الفلسطينية وعلى الموقف العربي والإسلامي من القضية، تتجاوز خطورة اتفاقات التطبيع السابقة التي أقدمت عليها العديد من الأطراف العربية الأخرى، فالوزن السياسي لتلك الدول قد يدشّن مرحلة جديدة متسارعة من اتفاقيات التطبيع عربياً وإسلامياً مع الكيان الصهيوني.
وتُعد موجة التطبيع الجديدة مرحلة مهمة في مسار التحولات الإستراتيجية التي ترعاها الولايات المتحدة لإعادة تشكيل المنطقة، واستمرارا لإستراتيجيتها في الحفاظ على الهدوء في المنطقة، لتحقيق فرصةٍ أفضل لإدارتها وعدم تأثيرها على صراعات دولية أخرى تحتل أولوية لدى واشنطن، فهي ليست مجرد إنشاء علاقات دبلوماسية، بل تغيير في شكل التحالفات في المنطقة.
على الصعيد الفلسطيني، ستكون القضية الفلسطينية برمتها والمقاومة الفلسطينية من أكثر المتأثرين سلباً بمسار التطبيع الجديد، لما يعنيه الأمر من مستوى جديد من تجاوز للقضية الفلسطينية، ومن دفعٍ للاحتلال إلى تنفيذ برامجه في الضفة الغربية والقدس، وتعزيزٍ للجهود الأميركية والإقليمية والإسرائيلية للقضاء على المقاومة في الضفة واحتوائها في غزة.
وبشأن استجابتها لموجة التطبيع، فإن السلطة الفلسطينية تمر بحالة من الضعف دفعتها إلى مزيد من التساوق مع أدوار تتعارض ومصلحة القضية الفلسطينية، وعليه فإن تصديها للتوجه التطبيعي كان أمراً مشكوكاً فيه. بل ظهرت بوادر لقبول السلطة بفكرة التطبيع مقابل مكاسب ضيقة وإجراءات إسرائيلية رمزية، وفق منظور يهدف إلى الاستفادة منه لتعزيز استقرارها وإحياء شكلي لمشروعها السياسي، وتحقيق مكتسبات تساهم في المحافظة على وجودها، حتى ضمن الرؤية الأميركية الإسرائيلية التي يقتصر دورها على الجانب الأمني. وبدا الفريق الحالي الذي يقود السلطة مندفعاً بشكل كبير للتعاطي مع الخطوة والسير وفقها، لما يوفره ذلك له من تعويم محلي وإقليمي مطلوب لمرحلة ما بعد محمود عباس.
لقد فرض تَعمّد تجاهل القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين نفسَه على الواقع الإقليمي. فالمنطقة التي بنت بيئتها الإقليمية لعقود على أساس “مقاومة” إسرائيل أو “الاعتدال” معها، باتت تأخذ شكلاً جديداً من المحاور لا يرى من الموقف من إسرائيل عنواناً ملحاً لنسج التحالفات. ولقد حظيت القضية الفلسطينية بلحظة “مشمشية” -كما يسميها الفلسطينيون- في سنوات الثورات الشعبية العربية الأولى، إلا أنها كانت لحظة عابرة عانت بعدها القضية من انشغال حلفائها أو انكسارهم وغلواء خصومها وميلهم نحو أعدائها. وسادت في السنوات الأربع التي سبقت “الطوفان” أجواء المصالحات الإقليمية التي أدارت رحاها إدارة بايدن، وعانق أقطاب المنطقة بعضهم البعض، بينما يشد اليمين المتطرف الإسرائيلي على عنق الفلسطينيين ومقدساتهم.
كما انحسرت خيارات الفلسطينيين، وفشلت رهانات قيادة السلطة الفلسطينية وأصبحت أكثر ميلاً إلى التعايش مع الاحتلال، بدلاً من نسج إستراتيجية وطنية شاملة.
بجانب هذا المشهد، راحت المقاومة الفلسطينية في غزة تُراكم قوتها العسكرية وتعزز وضعيتها السياسية في القطاع، وتناور مع الدول الإقليمية ومع الاحتلال، الأمر الذي بدا صبيحة 7 أكتوبر/تشرين الأول أنها عملية تضليل إستراتيجي انتهجتها قيادة حماس في قطاع غزة مع إسرائيل، عطلت على إثرها أدوات الاستشعار الاستخباري السياسية قبل العسكرية، وباغتت مشروع تصفية القضية الفلسطينية بطوفان غيّر شكل المنطقة وما زال، وأدخل إسرائيل في أصعب اختبار لوجودها.