الأفئدة المهاجرة التي أشعل طوفان الأقصى حنينها إلى جذورها

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 26 دقيقة للقراءة

ألهب خطيب المظاهرة حماسة جماهير دبلن، عندما ردّد من المنصّة هتافات معروفة اكتفى بشطرها الأوّل، فأجابه الحشد الكثيف بشطرها الثاني تلقائيًّا. هتف فيهم: “من النهر إلى البحر..” فأجابوه: “.. فلسطين ستكون حرّة!”، رفع صوته بعدها: “بالآلاف، بالملايين..”، فأكملوا الهتاف: “..نحن جميعًا فلسطينيون!”.

دوّت هذه المحفوظات الجماهيرية المعولمة في قلب العاصمة الأيرلندية خلال مظاهرة كبرى أقيمت السبت 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024، في ختام عام كامل من التحركات الجماهيرية الدؤوبة لأجل فلسطين. لم تكن دبلن وحدها في هذا المشهد الفلسطيني الأخّاذ، فقد تدفّقت بصفة متزامنة معه سيول بشرية في مئات العواصم والمدن الأوروبية والغربية ضد الإبادة الوحشية التي دخلت سنتها الثانية، وردّدت هتافات مماثلة تقريبًا بلغات عدّة ألهمت الجماهير في العالم حوْلًا كاملًا.

من يدعم غزة الآن في الغرب؟

يتميّز مشهد التظاهر المستجدّ لأجل فلسطين في البلدان الأوروبية والغربية بالضخامة في حجمه والتنوّع في مكوّناته الإثنية وخلفيّاته الثقافية واختياراته الفكرية. يظهر في تفاصيل المشهد عرب ومسلمون وأتباع كنائس متعددة ضمن مكوِّنات من ألوان وطوائف واتجاهات عقائدية وفكرية واجتماعية شتّى، بمن فيهم ناشطون يهود سجّلوا حضورًا غير مسبوق في شكله وحجمه وخطابه وجرأته.

أدركت هذه الجماهير في لحظة معيّنة، بعد أطوار من اختمار الوعي عبر المراحل، أنّ عليها مسؤولية التحرّك الفوري ورفع الصوت عاليًا لأجل حرية فلسطين، وعبّرت بأساليب شتّى عن إرادة الالتحام المعنوي بنضال شعبها دون أن تفارق المكان، وخاضت تحرّكات دؤوبة متنوِّعة الأشكال على هذا السبيل طوال عام كامل.

اقرأ أيضا

list of 2 items

list 1 of 2

تضامن عالمي مع غزة.. من الجندي الأميركي بوشنيل إلى حراك الجامعات

list 2 of 2

عرب ومسلمون لم تسحقهم الثقافة الأميركية فأشعلوا جامعاتها لفلسطين

end of list

لم تتحرّك هذه الجماهير من فراغ، فالوحشية التي صُبّت فوق رؤوس الشعب الفلسطيني على مدار الساعة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 تميّزت بأنها إبادة جماعية مشهودة، والصادم بالنسبة لبعض هؤلاء المتظاهرين أنّها حظيت بالدعم العلني والتبرير المستمرّ والتواطؤ الصريح من أبرز منصّات السياسة والإعلام في العالم الغربي.

صنع “طوفان الأقصى” الحدث العالمي وأعادت تفاعلاتُه قضية فلسطين إلى مربّعها الأوّل متمثِّلًا بشعب يواجه الاحتلال والاضطهاد والاقتلاع والتطهير العرقي. فبعد ثلث قرن من المراوغة المديدة التي انطلقت مع “عملية سلام الشرق الأوسط” في مدريد (1991)، ثم اتفاقات أوسلو (1993) التي تورّطت بتكريس الاحتلال وتفاقم الاستيطان وخنق وعود “الدولة الفلسطينية المستقلّة القابلة للحياة”، شوهد الفلسطيني الجسور ذات صباح وهو يقتحم أسوار سجن حصين ويتحدّى العبودية المركّبة التي أراد الاحتلال، المدعوم غربيًّا، فرضها عليه بصفة مؤبّدة.

ولوحِظ المجتمع الفلسطيني، بنسائه ورجاله وشيوخه وأطفاله، وهو يصنع ملحمة مذهلة من الصمود والتحدّي رغم وحشية الإبادة والتدمير والتجويع التي أُنزِلت به. صار صوت فلسطين مسموعًا من ميدان الحدث مباشرة، من خلال طفلة عالقة في سيارة سيجري قصفها، أو شيخ يودّع حفيدته الحبيبة بكلمات مؤثِّرة عن “روح الروح”، أو شاعر يرثي ذاته بقصيدة ملهمة نسجها بالإنجليزية البديعة فوجدت سبيلها إلى ألسُن الأرض، أو ناشط شبكي بثّ مقطعًا مرئيًّا ثمّ سحقته قذيفة أميركية الصنع.

ورغم المحاولات المضنية، لم يستطع الاحتلال وأعوانه أن يحجبوا حرب الإبادة على قطاع غزة عن الأنظار، فمشاهدها المروّعة وتفاصيلها الوحشية تدفّقت إلى العالم بألوان الدم والنار والرماد عبر تغطيات مباشرة ومقاطع مرئية لا تنقطع، حتى عُدّ هذا الفصل المديد من الأهوال أوّل إبادة جماعية تجري وقائعها عبر البثّ الحيّ.

ثمّ إنّ جرائم الحرب المشهودة تميّزت بغطاء علنيّ من القوى الغربية، التي وفّرت لها الإسناد العسكري والدعم السياسي والسخاء التمويلي والغطاء الدعائي، وقد اجتذب هذا الانحياز الفجّ الأنظار مبكّرًا إلى غزة من خلال محاولة أسطرة السابع من أكتوبر على منوال الحادي عشر من سبتمبر.

 

فلسطين في بؤرة العالم

لم تكن تطوّرات فلسطين التي اندلعت بدءًا من السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حدثًا خاصًّا بالشرق الأوسط بالنسبة للدول الأوروبية والغربية التي انزلقت في معظمها إلى خندق الاحتلال وجادت عليه بالدعم والمساندة.

اتُّخِذت لحظة “طوفان الأقصى” توطئةً لانعطافة حادّة في خطابات ومواقف أوروبية بارزة نحو تبنِّي دعم الاحتلال والتبرير المسبق لحرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب، مصحوبة بإجراءات عقابية ضدّ الجانب الفلسطيني؛ منها وقف التمويل الرسمي من دول أوروبية عن السلطة الفلسطينية لبعض الوقت ثم معاقبة وكالة الأونروا التابعة للأمم المتحدة بقطع التمويل عنها مؤقتًا.

بلغ الأمر في بعض البيئات الغربية، خلال الأسابيع والأشهر الأولى، حدّ التماهي مع حالة احتلال فلسطين وتمجيد جيش الاحتلال علنًا في منصّات سياسية وإعلامية وامتداح مقاتليه وحشد التأييد السياسي والإعلامي والمالي للحرب، مع تغييب الواقع وجوهر القضية وخطورة الأحداث.

ممّا فاقم هذه النزعة في بعض الدول الأوروبية اعتبار أنّ الانحياز للاحتلال والإبادة هو من استحقاقات التكفير عن ماضي الإبادة النازي المقيت، أو بتعبير الرسمية الألمانية الحرفي المنحوت في عهد المستشارة أنجيلا ميركل؛ فإنّ “أمن إسرائيل مصلحة وطنية للجمهورية الاتحادية”.

واكبت هذا المنحى قيود غير مسبوقة على حرية التعبير فيما يخصّ نقد الاحتلال وحرب الإبادة في بلدان أوروبية وغربية معيّنة، شملت في بعضها حظر التظاهر ومنع شعارات أو هتافات معيّنة تطالب بحرية فلسطين، علاوة على تقييد رموز وشارات ثقافية ذات صلة بهذه القضية، واتِّخاذ تدابير إجرائية وقانونية في سبيل ذلك. لكنّ الحالة الجماهيرية الداعمة لفلسطين تمدّدت في الواقع واتّسع نطاقها أسبوعًا بعد أسبوع وطوّرت رموزها الملهمة، ولم تصمد محاولات الحظر والتقييد طويلًا في بعض البيئات.

وإنْ هيمنت تقاليد الانحياز على الصناعة الإعلامية فإنّ مواقع التواصل فاضت بالمحتوى الداعم للشعب الفلسطيني والمندّد بإبادة غزة، رغم أنّ الاتجاه السائد في المنصّات السياسية والإعلامية في العديد من الدول الغربية ظلّ منحازًا بدرجة أو بأخرى إلى الاحتلال وحربه.

وفلسطين إجابة للباحثين عن الهوية والمعنى

لم يعد الفلسطيني هو ذلك الذي ينتسب إثنيًّا إلى رقعة البلد المحتلّ، فقد توسّع مفهوم الانتماء ليستوعب أوساطًا متزايدة ترغب في تعريف ذاتها، من الناحية الرمزية والتضامنية، على أنها فلسطينية أيضًا. صدحت هتافات “نحن جميعًا فلسطينيون” بهذا المعنى الصريح، كما جاء الانتظام الجماهيري تحت راية فلسطين في الميادين والجامعات ورفع العلم الفلسطيني في الحسابات الشبكية في العالم كناية عن انتماء معنوي لا تخطئه العيْن.

تجاوز هذا الانتماء فكرة التضامن التقليدية ليصير آصرة التحام يُعبِّر أحدهم أو إحداهنّ من خلالها عن انخراطه الجادّ في حمْل القضية وتمثُّل رموزها، فصار علم فلسطين رايته والكوفية وشاحه والعربية -التي لا يتقنها- هُتافه.

تجود فلسطين على هذه الجماهير بامتياز منح الهُوية واسترجاع المعنى واستلهام المغزى، فثمّة قيم ومبادئ يتجنّد المرء لأجلها في الميادين ويبذل تضحيات على طريقها من مكتسباته؛ كأنْ تعاقبه الجامعة المرموقة أو تعتقله قوات الشرطة أو يواجه غرامات مالية أو تطارده حملات تحريض، وقد يضحِّي بطموحه الوظيفي لتسجيل موقف مبدئي.

يبلغ الأمر مبلغه عند بعضهم، كما في حالة ضابط سلاح الجوّ الأميركي آرون بوشنل الذي أقدم على التضحية بالنفس عبر إشعال النار في بدنه (24 فبراير/شباط 2024)، فقد كان هذا خياره في الاعتراض لأجل التطهّر من خطيئة الضلوع في الإبادة عبر العمل في جيش يدعم الاحتلال، كما ذكر قبل أن يهتف لحرية فلسطين وهو يحترق.

إنّ فلسطين هي بهذا المنحى مانحة هُويّة بالأحرى لأجيال عاشت قلق السؤال: “من نحن؟” بعد أن نشأ بعضهم في بيئات لا ترحِّب بحضورهم ومشاركتهم لأسباب إثنية.

ثمّة “سقف زجاجي” مزمن أعاق صعود أجيال المسلمين والعرب وحاملي خلفية هجرة في مراتب الحياة المختلفة إلا بشروط التنصُّل من الذات أحيانًا، وثمّة أسئلة حائرة راودت هذه الأجيال الصاعدة عن صفتها وانتمائها بين عالميْن مفترضيْن. جادت لحظة غزة بمنحة اكتشاف الذات واستشعار الانتماء إلى قضية عادلة تستحقّ نصرة الإنسان في كلّ مكان وتنتظم فيها جماهير غفيرة من مشارب ومكوِّنات متنوِّعة.

كان النضال المقترح على أجيال الحاضر منحصرًا في شواغل محلية أو قضايا بيئية أو اهتمامات جنسية تدور حول السرير حسب طقوس “مسيرات الفخر” الملوّنة، مع ترك شواغل السياسة الخارجية لأولي الأمر من راسمي الإستراتيجيات ودهاقنة “الأمن القومي” ورجال الاستخبارات الذين لا يُسائلهم أحد تقريبًا.

عبّرت حالة الناشطة البيئية الأبرز في العالم، غريتا تونبرغ، عن تحوُّلات وعظات لافتة للانتباه في هذا الاتجاه. كانت القضية التي قدّمت الفتاة السويدية إلى أبرز المنصّات الأممية هي محنة الكوكب الأزرق مع العبث البيئي والتحوّل المناخي.

جرى التصفيق لها بحرارة في المنصّات الغربية، وأبرزتها وسائل الإعلام في هيئة أيقونية عندما نجحت في تحريك جيل المدارس في مظاهرات أسبوعية كلّ يوم جمعة في نضال دؤوب لأجل مستقبل الكوكب.

ثمّ أدركت الفتاة الجريئة أنّ إبادة وحشية تجري على ظهر الكوكب المأزوم بحقّ شعب تُسلب حريّته وتُسحق كرامته، فدعت مع رفيقاتها من مناضلات البيئة إلى إدراج فلسطين في أولويّات التظاهر والاعتصام، وربطت بشكل حاذق بين تخريب الكوكب وممارسة الإبادة فوقه.

نُزِع التكريم سريعًا من الناشطة السويدية، وطاردها الذمّ والتشهير في وسائل الإعلام وحسابات التحريض الشبكية، وواجهت فوق ذلك الاعتقال والتضييق خلال مظاهرات انخرطت فيها دون أن تتخلّى عن إصرارها على رفع الصوت وإبداء الموقف. تبدو تونبرغ اليوم ناشطة فلسطينية عنيدة، تظهر بالكوفية في ميادين أوروبية رغم القمع المتوقّع، تهتف لغزة وتندِّد بالاحتلال وتذمّ الإبادة الوحشية.

قدّمت هذه النماذج المُلهمة حافزًا إضافيًّا لأوساط عريضة من الشبان والشابات في عموم البلدان الغربية كي تحذو حذوها، رغم الأثمان الباهظة التي يتكبّدها الناشطون وحملات الترهيب والتشويه التي تطاردهم وتهدِّد طموحاتهم المستقبلية.

الأجيال الغربية الجديدة تصطدم بالحقيقة

ومع ذلك لم يكن هيّنًا على أجيال أوروبية وغربية صاعدة، من المسلمين وغيرهم، أن تتفتّح أبصارها على مروق دولها من قيم ومبادئ تُرفع شعارًا في الداخل ويُطاح بها في الخارج.

عبّأت المناهج المدرسية والمقرّرات التثقيفية والخطابات السياسية أجيال الغرب بمقولات الحرية والحقوق وكرامة الإنسان وتقديس حرية التعبير، ثمّ صارت هذه الأجيال شاهدة على ضلوع قادة دولها وحكوماتها في عملية سحق مرئية لا هوادة فيها لهذه القيم والمبادئ على مدار الساعة في خاصرة المتوسط الجنوبية الشرقية دون أن تعترض الطبقة السياسية والنخب الإعلامية والثقافية المتنفِّذة على ما يجري.

تعيّن على كلّ مَن واكب حرب الإبادة معايشة انفصام فجّ بين الشعار والسلوك، فتوالت الاعتراضات المباشرة على قادة السياسة وصانعي القرار وطورد بعضهم بأسئلة حرجة وهتافات مدويّة في الفضاءات العامّة. طوّر المتظاهرون هتافًا شهيرًا يقول: “أيّها السياسيون الغربيون.. ليس بوسعكم الاختباء، سنحاسبكم على الإبادة!”.

صيغ هذا الهتاف المسجوع بالإنجليزية على نحو يسمح بإدراج اسم أيّ سياسي أو شخصية عامّة في بدايته، ليصير رسالة مسدّدة بعناية في مواقف المواجهة والمساءلة التي تنتهي بجرّ “مثير الشغب” خارج القاعة من حرّاس مفتولي العضلات لتظهر زميلة له في مرافعة شبيهة قد تنتهي بسحلها، وهكذا دواليك.

لا عجب أن حفّزت حرب غزة مُساءلة السياسات الخارجية وملفّات الماضي الاستعماري ومصداقية الرواية الرسمية المعتمدة بشأن فلسطين والعالم، وكان من تعبيرات ذلك أن أقدمت شابّة بريطانية بعد خمسة أشهر (مارس/آذار 2024) من انطلاق حرب الإبادة على إتلاف لوحة تاريخية ظلّت مثبّتة على أحد جدران كلية ترينيتي الشهيرة بجامعة كامبردج قرنًا من الزمن دون أن يمسّها أحد، يظهر فيها اللورد آرثر جيمس بلفور صاحب التصريح الشهير الذي منح فلسطين “وطنًا” للحركة الصهونية.

لا ينفكّ هذا الفعل عن منحى متواصل منذ أعوام يقوم على نقض رواية الغزاة المستعمرين وتلطيخ رموزهم الشهيرة بالأصباغ الحمراء وإزاحة تماثيلهم من الميادين العامّة، كما فُعل بتمثال كريستوف كولومبوس مثلًا، وقد أعادت ملحمة غزة تحفيز المراجعات ومنحتها زخمًا متجددًا.

مسلمو الغرب في مواجهة أسئلة حرجة

وجدت أجيال المسلمين في البيئات الغربية ذاتها في مواجهة أسئلة حرجة، فلماذا تستسهل السياسات الغربية دعم الاحتلال والإبادة عندما يكون الضحية شعبًا عربيًّا مسلمًا؛ بينما تُذرف الدموع انتقائيًّا عندما يُحسب الضحايا على النسق الأوروبي الغربي؟ وهل تتكافأ أرواح البشر وكرامتهم في عالمنا حقًّا؟ وهل بقي للقانون الدولي والمواثيق الأممية والشعارات الأخلاقية من معنى بعد أن حجبتها القوى الغربية عندما طاب لها واستدعتها عندما وافق ذلك مصالحها؟ وهل اتّعظت أوروبا حقًّا من ماضيها الاستعماري وفصول الإبادة والاضطهاد والاستغلال التي أوقعتها على شعوب جنوب العالم؟

أيقظ موسم غزة المديد أسئلة كبرى من مراقدها، بالنسبة للمسلمين في البيئات الغربية، ولأوساط أوسع في المجتمعات من حولهم أيضًا. وجدت مُكوِّنات متنوِّعة في قضية فلسطين صدى لمحنتها العميقة، فالسياسات العنصرية الداعمة للاحتلال والإبادة هي بالنسبة لبعض الناشطين السّمر في حركة “حياة السود مهمّة” نسخة مُطوّرة من عنصرية الداخل المعهودة في مراحل خلت.

واكتشفت حركات العدالة الإثنية في نضال الإنسان الفلسطيني انبعاثًا رمزيًّا لروحها المُختنقة تحت ركام الإبادة التي سحقت شعوبًا أصلية في قرون خلت. ورأى الناشطون في بلدان وأقاليم أوروبية مُعيّنة أنّ محنة فلسطين امتداد لأوجاع ذاكرتها مع سطوة دول وثقافات هيمنت عليها ردحًا من الزمن، كما تجسِّدها الحالة الإيرلندية مثلًا.

وعبّر إقليم الباسك في الشمال الإسباني بطريقته الخاصّة عن تعاطف مُرهَف الحسّ مع إبادة الشعب الفلسطيني، فشهد فعاليات رمزية أخّاذة ربطت فظائع قطاع غزة بماضي الأرض المحروقة التي جسّدتها مأساة بلدة غرنيكا الواقعة في الإقليم، التي خلّدها بيكاسو في اللوحة الشهيرة التي تحمل اسمها.

وعُدّت مأساة فلسطين، بمنظور أممي أوسع، تكثيفًا لسطوة المركزية الغربية على جنوب العالم المهمّش، واختبارًا مستجدًّا للحقوق والعدالة والإنصاف في عالم متنوِّع. هكذا اكتسب شعار “فلسطين في كلّ مكان” الذي يرفعه المتظاهرون والمعتصمون وطلبة الجامعات دلالة عميقة على حضور فلسطين في مركز الوعي وإدراك كلّ موقعه في نضال شعبها حتى انتزاع الحرية.

ورغم تواطؤ السياسيين، فلم يحمل التنديد الواسع في العواصم الأوروبية والغربية بهجوم المقاومة الفلسطينية على مواقع الاحتلال الإسرائيلي أيّ مفاجأة تقريبًا، لكنّ الخطابات السياسية والإعلامية والثقافية الغربية التي منحت الانطباع بأنّ التاريخ بدأ يوم السابع من أكتوبر تحديدًا ولم يتزحزح عن هذا اليوم؛ مثّلت استفزازًا لوعي أوساط عريضة في أعماق البيئات الغربية ذاتها، كان المسلمون ضمنها بطبيعة الحال.

تملّكت هذه الأوساط حالة من الذهول وهي ترى أعلام الاحتلال الإسرائيلي تُرفع فوق مقارّ سيادية عبر القارّة الأوروبية، بما فيها مقارّ الاتحاد الأوروبي ذاته. بلغت مُزايدات الانحياز حدّ أن يقول المستشار الألماني أولاف شولتس متباهيًا: “لألمانيا مكان واحد فقط، هو مكان إلى جانب إسرائيل” (13 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، كما ذهبت وزيرة خارجيته، أنالينا بيربوك، في اليوم ذاته إلى حدّ القول: “نحن جميعًا إسرائيليون”.

لم تلتفت الوزيرة التي تفخر بانتهاج “سياسة خارجية نسوية” منذ ذلك الحين إلى الأعداد الهائلة من النساء والفتيات والأطفال التي تُشرّد وتُجوّع وتُروّع ثمّ يسحقها جيش الاحتلال في قطاع غزة على مرأى من العالم، وهو الجيش الذي تُعدّ ألمانيا الداعم العسكري الثاني له بعد الولايات المتحدة.

وجد مسلمو الغرب أنفسهم في جوف فقاعة المركزية الغربية التي تفرض رؤية أحادية على العالم بأسره، ولا ترغب في الاعتراف بأنّ ما يجري في قطاع غزة إبادة جماعية أو تطهير عرقي أو جرائم حرب أو حتى أي شيء يستحقّ التنديد، بل هو “حقّ إسرائيل بل واجبها في الدفاع عن النفس”.

واصل المسؤولون الغربيون، ومنصّات سياسية وإعلامية وثقافية تشاطرهم ذلك، توفير الذرائع المحبوكة لتبرير جرائم الحرب الإسرائيلية التي تلوم الضحية الفلسطيني، من قبيل “اتخاذ المدنيين دروعًا بشرية”، بينما لم يكفّوا عن تشديد النكير على ممارسات دون ذلك بكثير لأنها وقعت في أوكرانيا ببساطة، إلى حدّ اعتبار الإضرار الروسي بالبنية التحتية الأوكرانية “عملًا إرهابيًّا”، حسب تعبير رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، المعروفة بانحيازها للاحتلال الإسرائيلي إلى حد التمجيد أحيانًا.

لم تجد المسؤولة الأوروبية الأبرز أيّ مفردة لذمّ قطع الغذاء والماء والدواء والغاز و”كلّ شيء” عن أكثر من مليوني إنسان في قطاع غزة المحاصر بقرار أعلنه وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت عبر الشاشات يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

استفزّت هذه المواقف أوساطًا عريضة في المجتمعات الأوروبية والغربية فأعلنت سخطها، كما فعل الصحفي والكاتب الأيرلندي ديفيد كرونن الذي صاح برئيسة المفوضية خلال مؤتمر صحفي عقدته في بروكسيل يوم 18 إبريل/نيسان 2024 على هامش “قمّة الدفاع والأمن” قائلاً: “يداكِ مُلطّختان بالدماء، ينبغي القبض عليكِ، مكانك لاهاي” في إشارة إلى المحكمة الجنائية الدولية.

على الجانب الآخر يتمسّك القادة الغربيون بوصم مقاومة الشعب الفلسطيني بالإرهاب مع مزايدات واضحة في إلصاق نعوت “الترويع” بها، بينما امتنعت عواصم النفوذ الغربي عن أي نقد واضح لجيش الاحتلال وإن أظهرت القلق والأسى على “موت مدنيين” أو “خسارة أرواح” في غزة، دون أي إشارة إلى قاتليهم. تبدو المفارقة في ذروتها قياسًا بتمجيد أولئك القادة “شجاعة الأوكرانيين وبسالة مقاومتهم وتصميم قيادتهم على التصدِّي لقوات الاحتلال”، وشحن الأسلحة والذخائر دعمًا لذلك، علاوة على التقارير الإعلامية التي تمتدح العسكرة والتجييش.

النخب السياسية الغربية تفقد ثقة المسلمين وأصواتهم

اختمرت في غضون حرب غزة حالة ملحوظة في بعض البلدان الغربية من فقدان المسلمين وأوساط أخرى من حولهم الثقة بالطبقة السياسية العريضة، التي تواطأت على مساندة الاحتلال وتجاهلت الإبادة الرهيبة التي تجري تحت الأسماع والأبصار. عبّرت حركة “غير مُلتزم” الناشطة في قواعد الحزب الديمقراطي عن هذا المنحى في سعيها إلى حجب الأصوات في الولايات المتأرجحة عن مرشّح الحزب جو بايدن ثمّ نائبته التي خلفته في الترشّح كامالا هاريس، على خلفية ضلوعهما في دعم الاحتلال والإبادة.

برز المنحى ذاته على الجانب الآخر من الأطلسي بفقدان حزب العمّال ثقة بعض ناخبيه في دوائر معيّنة ذات كثافة مسلمة، خلال انتخابات مجلس العموم البريطاني التي أجريت في يوليو/تموز 2024. لجأ الناخبون المسلمون في بلدان أوروبية أخرى إلى التعبير عن فقدان ثقتهم بالطبقة السياسية بأن صوّتوا في الانتخابات الأوروبية والوطنية والمحلية لصالح محاولات حزبية حديثة التشكّل وقوائم انتخابية جديدة، رغم إدراكهم أنها لن تحظى بفرص جادّة لخوض المعترك السياسي، كما حصل في ألمانيا والنمسا مثلًا.

وفي الأخيرة تشكّلت “قائمة غزة” من مكوِّنات متنوّعة في المجتمع لتكون صوت المعترضين على المشهد الحزبي المتواطئ كلّيًّا مع حرب الإبادة بالتأييد المُعلن أو التجاهل المُطبِق.

أمّا في فرنسا فقد صبّ كثير من الناخبين المسلمين أصواتهم في رصيد “الجبهة الشعبية الجديدة” اليسارية التي تبنّت مضامين داعمة للشعب الفلسطيني في انتخابات البرلمان الأوروبي (يونيو/حزيران 2024) ثم الانتخابات البرلمانية الفرنسية التي أعقبتها مباشرة.

لم يأتِ فقدان الثقة بالطبقة السياسية وأحزابها في بعض البلدان الغربية من فراغ، إذ يكفي أن تعقد قلاع الديمقراطية التمثيلية جلسات مخصّصة لإظهار التأييد الجارف لدولة تمارس الاحتلال والاضطهاد والإبادة وتتعهّد بدعمها، وأن يتبارى البرلمانيون في إظهار ذلك.

وعندما يقف أعضاء الكونغرس إجلالًا لمجرم حرب يُنظر ملفّه في المحاكم الأممية ويواصلون التصفيق له؛ فإنّ ما يجري تحت سقف قلعة الديمقراطية الأبرز في العالم يثير غثيان جماهير تواكب ذلك وتستنكره. شوهد مثل ذلك في هيئات برلمانية أوروبية عدّة، مثل مجلس العموم والبوندستاغ وغيرهما، كما شوهد الإجراء العقابي الذي أنزلته رئيسة الجمعية الوطنية بنائب فرنسي اجترأ على رفع علم فلسطين.

لا عجب أن تعترك ديمقراطية الأروقة المحظية هذه مع ديمقراطية الشارع التي تواصل التجمهر والاعتصام والهتاف، وأن ينبري عضو كونغرس متغطرس إلى تحذير عميدة جامعة كولومبيا من أنّ لعنة الربّ، بمقتضى “الكتاب المقدس”، قد تحلّ على جامعتها المرموقة إن استمرّ الاعتصام الداعم لفلسطين!

وإن سدّت ديمقراطية الأروقة أبوابها في مواجهة الحسّ النقدي الجادّ الموجّه إلى رهانات المصالح الخارجية وطقوس أرباب “الأمن القومي”؛ فإنّ ديمقراطية الشارع والميدان والحرم الجامعي تبدو أقدر على استيعاب مشاركة مكوِّنات متنوِّعة فيها من المسلمين وغيرهم، وإنضاج مقاربات نقدية جريئة في نقد الواقع وكشف التواطؤات.

الطوفان.. من غزة ليعلّم العالم

تطوّرت في البلدان الأوروبية والغربية، رغم القيود والمعيقات، حالة تضامن غير مسبوقة في حجمها وامتدادها، مع الحرية والعدالة في فلسطين وضدّ حرب الإبادة الجماعية الجارية. جاء هذا التطوّر ضمن تطوّر عالمي متضافر تميّز بانخراط واسع للشباب فيه واتّخذ نمطًا متعاظمًا.

وإذ تحيل بعض التفسيرات هذا التطوّر إلى خصائص “جيل زد” المولود بين 1995 و2010؛ فإنّ كلمة السرّ الجوهرية تكمن في أهوال الواقع وحقيقة أنها مبثوثة ومرئية وتحظى بالمساندة العلنية؛ قبل أن تكون قابعة في خصائص جيل الشباب الشاهد على الفظائع التي تُمارَس تحت أنظاره. ولا يبدو أنّ “جيل ألفا” من بعده سيتهاون مع سياسات الإبادة المشهودة تبعًا لذلك.

اكتسبت ملحمة غزة أهمية خاصّة بالنسبة لمسلمي البلدان الأوروبية والغربية؛ على صعيد المواقف والتفاعلات والتحدِّيات؛ علاوة على تفاعلات الحرب في الأوساط المجتمعية والجماهيرية عبر العالم الغربي عمومًا. انضمّ مزيد من الأوساط إلى المدّ التضامني الصاعد مع فلسطين، ومثّلت هذه الحالة ظاهرة عالمية تلاشت فيها الحدود الجغرافية وتمدّدت عبرها الشارات والهتافات والرموز والأغاني بصفة سريعة وجرى خلالها تناقُل خبرات الفعل الجماهيري في الاعتراض والتظاهر والاعتصام.

سجّلت الحالة الجماهيرية اتِّساعًا ملحوظًا في حجمها وتنوُّعًا في تعبيراتها، وبلغ الأمر مع طول أمد الحرب واستمرار الفظائع المرئية التي يمارسها جيش الاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني أن أطلقت الجماهير الطلابية في جامعات النخبة الأميركية في إبريل/نيسان 2024 مخيّمات اعتصام جريئة سرعان ما استنسختها مبادرات تضامنية في مئات الجامعات في البلدان الغربية وحول العالم. باشرت مبادرات أخرى محاصرة مصانع السلاح الغربية الضالعة في تعاقدات مع الجيش الإسرائيلي وصناعاته العسكرية، وتصعيد الاعتراضات على مؤسّسات وشركات متعاقدة مع سلطات الاحتلال وقوّاتها ومصالحها.

عاش مسلمو البيئات الغربية موسم غزة العالمي بأبعاده المتعدِّدة، فقد انخرطوا في التحركات الجماهيرية العارمة، وإن غابت بعض مؤسساتهم وشخصياتهم عن المشهد خشية دفع أثمان الموقف المبدئي؛ إلى درجة أظهرت فجوة واضحة في بعض البلدان بين تفاعل الجمهور المسلم وانزواء مؤسسات تزعم التعبير عن مصالحه. وهكذا خسرت مؤسسات وشخصيات مسلمة ثقة مجتمعاتها المحلية في البلدان الغربية بعد أن لاحظت سقوطها في اختبار غزة وأشاحت بوجهها بعيدًا عن الإبادة صوب أولويات اجتماعية وبيئية يحبِّذها ولاة الأمر السياسي في بلادهم.

ما يدركه النظر الفاحص ضمنًا أنّ خلف بعض مواقف الانحياز للاحتلال والاستهانة بأرواح الشعب الفلسطيني موقف غطرسة لا يرى البشر متكافئين في المكانة أو متساوين في الحقوق، بل يعتقد أنّ بعضهم يستحقّ ذرف الدموع دون أن يُكترث ببعضهم الآخر. ممّا يعزِّز هذا الانطباع أن القوى العنصرية واليمينية المتطرفة وما يتساوق معها في البيئات الغربية تبالغ في إظهار الانحياز للاحتلال والغطرسة على الفلسطينيين.

ثمّة بُعد آخر لا تخطئه العين، فقد منحت ملحمة غزة اهتمامًا من وجوه مستجدّة بالمسلمين ودينهم وثقافات مجتمعاتهم، ونُشرت وفرة من التقارير والتعليقات والملاحظات عن سرّ صمود المجتمع الفلسطيني في ظلّ الأهوال التي تُصبّ عليه، وعن التجلِّيات الإنسانية المُلهِمة في بعض الحالات المرئية من قطاع غزة. قادت هذه الخبرة أعدادًا يصعب حصرها أو تقديرها من الغربيين إلى اعتناق الإسلام، وأفصح بعضهم عن وجهتهم الاعتقادية الجديدة في منشورات شبكية ومقاطع مصوّرة، أشاروا فيها إلى روح غزّة التي سرت فيهم وفتحت أعينهم على عالم لم يدركوه من قبل ومنحتهم فرصة قراءة القرآن الكريم بعيون مبصرة وأفئدة منفتحة على نحو لم يحظوا به من قبل.

في نهاية المطاف لم تتزحزح السياسات الغربية الأساسية عن مواضع الانحياز المعهود فيها، رغم دخول الإبادة الوحشية سنتها الثانية، ولم يُنصِت راسمو الإستراتيجيات وسدنة “الأمن القومي” لجماهير غفيرة واصلت التظاهر لأجل حرية فلسطين عبر العواصم والمدن الغربية بلا هوادة، لكنّ المؤكّد أنّ هالة المبادئ والشعارات التي تكلّلت بها الدول الأوروبية والغربية طويلًا وعُدّت ضمن رصيدها المعنوي وقوّتها الناعمة؛ انقشعت من عيون جماهير غفيرة استحوذت عليها من قبل. هكذا صار ما حذّر منه مفوّض السياسة الخارجية الأوروبي، جوزيب بوريل، أمرًا واقعًا، عندما نبّه في كلمة أمام البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إلى أنّ قارّته قد تخسر “سلطتها الأخلاقية” إن واصلت نهجها هذا في السياسات الخارجية بشأن فلسطين على نحو يتناقض مع نهجها في أوكرانيا.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *