“حصار شامل على غزة: لا ماء، لا كهرباء، لا وقود، لا طعام” هكذا أمر يؤاف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي يوم التاسع من أكتوبر، لتكون الإبادة ذروة السياسات الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، قبل ذلك بيومين وفي السابع من أكتوبر 2023، كانت سرايا نخبة القسام تقتحم كامل مناطق غلاف غزة ليكون الانفجار، ذروة العمل المقاوم الفلسطيني في غزة.
قبل ذلك بسنوات، وفي الثلث الأخير من الليل، وقبيل فجر يوم صيفي من أيام شهر حزيران 2006، أنهت عصبة من المقاتلين الفلسطينيين تجهيزاتها الأخيرة قبل الانطلاق شرقاً، وعلى ضوء الشفق أغارت على موقع عسكري قرب معبر كرم أبو سالم، ونجحت باختطاف العريف غلعاد شاليط، ردت إسرائيل بـ”أمطار الصيف” والحصار.
أسست لحظة “شاليط” لمسارين حكما الحياة في غزة وعاش المجتمع بينهما، الحصار ومساعي الانعتاق منه “المقاومة”، كانت لحظة قصف إسرائيل لمحطة الكهرباء بعد ثلاثة أيام من اختطاف شاليط، وقبلها فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية ولاحقاً سيطرتها على غزة، واتصال القطاع بعد انسحاب الاحتلال منه، بدايات تأسيسية لهذا الواقع الذي عاشت فيه أجيال من “المحاصرين/ المقاومين”.
يحاول هذا المقال رسم صورة عن القطاع ومجتمعه وحكامه خلال السنوات 20 الماضية، عبر قراءة تفاعل سياسات الجهات الحاكمة -خلال السنوات 100 الماضية حَكمت غزة 6 جهات مختلفة- والمواجهة مع الاحتلال وسياساته، وأثر كل هذا على غزة ومجتمعها.
من الانتفاضة إلى الانتفاضة
النكبة، هي الحدث المؤسس الذي شكل مجتمع غزة وجغرافيته، وظهرت كضرورة عسكرية أنتجها تراجع الجيش المصري أمام قوات الحركة الصهيونية خلال حرب عام 1948. في هذه الحرب حُرمت غزة من امتدادها الحيوي بعد أن فقدت أراضيها التي تشكل منها قضاء غزة، الذي وصلت مساحته إلى ما يقرب من 11 كيلومترا مربعا، وانقطع اتصالها مع المدن العربية والفلسطينية التي شكلت عمقها الاقتصادي والثقافي، والأهم تضاعف عدد سكانها بعدما استقبلت الجزء الأكبر من اللاجئين القادمين من قرى قضاء غزة وخارجها.
عدد السكان الكبير مقارنة بالمساحة التي تشكلت على وقع الاضطرار، أدى إلى فقر في الموارد والإمكانيات الاقتصادية، كما لعبت المواجهة الدائمة مع الاحتلال الإسرائيلي الدور الأهم في تشكيل الواقع السياسي والاقتصادي في قطاع غزة، الذي سعى سكانه ونخبه إلى الانعتاق من هذا الواقع بمواجهة الاحتلال أو بمحاولة التكيّف والبناء.
لم يمض وقت طويل على النكبة قبل أن يعود قطاع غزة إلى واجهة الصراع من جديد، فطيلة سنوات الخمسينيات لم تهدأ حدوده مع دولة الاحتلال، بدءا من حركة المتسللين الذين عاد جزء منهم إلى بيوتهم بغرض استرداد ما تركوه، وجزء آخر بغرض الانتقام. هذه الحركة أسست لخلايا الفدائيين المنظمة من الإخوان المسلمين وغيرهم، وصولاً إلى رعاية الإدارة المصرية لتشكيلات فلسطينية عسكرية، وجاء العدوان الثلاثي عام 1956 ليشكل ذروة المواجهة بين الاحتلال الإسرائيلي وبين مصر والفلسطينيين في غزة.
غير أن نكسة 1967 قطعت مع المرحلة المصرية، فخلال السنوات التي تلت احتلال غزة، وعلى مدار ما يقرب من 20 عاماً، دخل القطاع في حالة هدوء نسبي، باستثناء بعض جولات المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
https://www.youtube.com/watch?v=891p2CX
حاول المجتمع الغزي خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات تجاوز آثار النكبة والنكسة، فبدأت المؤسسات الفلسطينية بالنشاط والظهور بقوة، وامتدت إلى مختلف القطاعات التعليمية والصحية والمجتمعية والنقابية، كما نشطت الفصائل الفلسطينية في ترتيب صفوفها وبناء قوتها، واتخذت من مواجهة مشاريع الاحتلال المختلفة، كروابط القرى والتوطين وخلق النخب المتعاونة، هدفاً لها. وساهمت إجراءات الاحتلال بفتح سوق العمل الإسرائيلي أمام القوى العاملة من غزة؛ في التخفيف من وطأة البطالة وتحسين الوضع الاقتصادي.
تجاوز الجيل الثاني من أبناء المخيمات الفلسطينية -ولو نسبياً- الأوضاع الكارثية التي خلفتها النكبة من بوابة التعليم أو الهجرة أو لاحقاً بعد الاحتلال بالعمل في إسرائيل، مما أدى إلى إيجاد طبقة جديدة من نشطاء وكوادر الفصائل الفلسطينية من أبناء المخيمات وتجمعات اللاجئين، نجحت لاحقاً في السيطرة على المشهد السياسي. خلال الإدارة المصرية والعقود الأولى من الاحتلال الاسرائيلي لغزة، كان المشهد السياسي مرتكزاً على العائلات الغزية التقليدية إداريا وسياسيا.
كان لخميرة العمل التنظيمي والمؤسساتي والتحسن الاقتصادي النسبي التي تكونت في ظل استمرار الاحتلال وسياساته في منع أي أفق سياسي فلسطيني، موعدٌ للانفجار في الانتفاضة الأولى عام 1987 التي شكلت المواجهة الأكبر والأوسع بين الاحتلال والفلسطينيين منذ عقود.
تكمن أهمية الانتفاضة الأولى فيما أنتجته سياسياً ومجتمعياً في غزة، فالاحتلال بدأ خطواته في عملية حصار القطاع وفصله -وفصل تأثيره- عن محيطه الفلسطيني. كما أظهرت الانتفاضة أن القدرة على حكم غزة بصورة منفردة يكاد يكون مستحيلا.
على صعيد المجتمع الفلسطيني، عززت الانتفاضة من نفوذ الفصائل الفلسطينية وكوادرها الذين تحولوا إلى الطبقة السياسية التي سوف يرتكز عليها لاحقاً مشروعُ السلطة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، وتحديداً قطاع غزة، الذي شهد تنافساً سياسياً بين كوادرها المحليين بعضهم مع بعض من جهة، وبين أهل الداخل والقادمين من الخارج الذين أطلق عليهم لقب “العائدين”، من جهة أخرى.
وظف ياسر عرفات هذا التنافس لصالح بسط نفوذه على المشهد في غزة، وأدخل عليه أطرافاً أخرى، كالعائلات التي استخدمها في مواجهة نفوذ كوادر حركة فتح داخل القطاع، فأسس عرفات في الأشهر الأولى من نشأة السلطة الفلسطينية هيئة للتعامل مع العائلات الغزية التي استمال الجزءَ الأكبر منها بالوظائف وتوزيع النفوذ. ومن المهم ملاحظةُ أن المجتمع الغزي يتكون في غالبيته من اللاجئين الذين تضعف لديهم التشكيلات العائلية والعشائرية كما هي الحال عند عائلات المواطنين، هذا الأمر مهمٌ في تقييم قدرة العائلات والعشائر الفلسطينية التي ظلت قادرة على أن تكون عاملا مؤثراً دون أن تكون فاعلا حاكما في قطاع غزة، خاصة بعد أن فقدت موقعها السياسي لصالح الفصائل الفلسطينية.
وعود سنغافورة
دخلت غزة سنوات التسعينيات بآمال مرتفعة، فالسلطة الفلسطينية التي اتخذت من القطاع مركزاً لها قامت بعمليات توظيف واسعة استوعبها جهازها المدني والأمني، مما ساهم في توطين المشروع الجديد اجتماعياً وسياسياً. وسيطرت كوادر حركة فتح على المستويات العليا والوسطى لجسم السلطة الذي تضخم بشكل قياسي، عدديا ونوعياً، واستُثنيت بقية المكونات الفلسطينية من عملية التوزيع هذه إلا في إطار المساومة أو الحصص المحدودة التي خصصت لبعض الفصائل طمعاً في كسب رضاها لمسار أوسلو الجديد.
فالأجهزة الأمنية بُنيت ووزعت بين مراكز القوة في حركة فتح، وامتدت عملية التوزيع والسيطرة هذه إلى الموارد المالية والاقتصادية التي بدأت تتدفق إلى قطاع غزة على شكل مساعدات دولية أو أموال مخصصة لبناء جهاز السلطة الفلسطينية، وتأثرت بعض القطاعات بالوافد الجديد، كقطاع الترفيه والسياحة، فظهرت المشاريع السياحية على شاطئ بحر غزة وتحولت إلى رمز للسلطة الجديدة ووعودها بجعل القطاع مركزاً سياحياً واقتصادياً في فلسطين وتحويلها إلى “سنغافورة”، خاصة أن غزة تحولت إلى مقر السلطة الفلسطينية الأساسي، ورجال تنظيم غزة في حركة فتح هم الأكثر نفوذاً.
ورغم رفض عدد كبير من الفصائل الفلسطينية، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي والفصائل اليسارية، لمشروع السلطة الفلسطينية، فإنها لم تصطدم مع الوافد الجديد الذي بادر بإرسال الرسائل إلى خصومه السياسيين بقدرته على البطش، فالسلطة التي دخلت قطاع غزة في مايو/أيار 1994 شنت أول حملة اعتقالات بحق نشطاء من حركة حماس في أغسطس/آب من العام نفسه، وارتكبت بعد ذلك مجزرة مسجد فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني.
هذا المسار سوف يبلغ ذروته مع حملة اعتقالات عام 1996 التي استهدفت عناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي، في حين لم تبادر حماس إلى مواجهة السلطة وأجهزتها الأمنية، ولم تمانع أن يلتحق عناصرها بالعمل في أجهزتها المدنية دون الأمنية، وهو الأمر الذي أصبح أكثر صعوبة لاحقاً مع هيمنة حركة فتح على الجزء الأكبر من الوظائف. وفضلت الحركة مواجهة المسار القائم بالتركيز على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي نفسه، فكان على كوادرها العمل في ظل ملاحقة الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال.
أخرت اتفاقية أوسلو وعودة السلطة الفلسطينية المواجهة بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ففي غزة لم يتنازل الاحتلال إلا عن السيطرة على مراكز المدن بعد إعادة الانتشار التي قام بها مع عودة السلطة الفلسطينية، وظل محتفظا بمستوطناته التي انتشرت على شكل “أصابع خمسة” قطعت محافظات القطاع ومنعت تواصلها. ولم يمض وقت طويل قبل أن تصطدم السلطة الفلسطينية الجديدة وحركة فتح بهذه الحقيقة، وتنفجر الانتفاضة الثانية على شكل مواجهة شعبية في البداية، تطورت لاحقاً إلى مواجهة مسلحة أنتجت نواة العمل المسلح الحالي لفصائل المقاومة في غزة.
الانسحاب.. قطاع غزة متصلا
أسست الانتفاضة الثانية لواقع جديد في قطاع غزة، فعلى صعيد العلاقة مع الاحتلال، تطورت المقاومة الفلسطينية بصورة تجاوزت محاولات إسرائيل الحثيثة لاحتوائها، مما أدى في النهاية إلى تشكل واقع جديد صعّب على الاحتلال البقاء والاستمرار في القطاع، لكنه في المقابل شدد من حصاره وعزله عن الضفة الغربية.
امتدت آثار الانتفاضة كذلك إلى السلطة الفلسطينية، الجسم الذي يحكم قطاع غزة، فلم تصمد السلطة كثيراً في مواجهة التحدي الجديد، وبدأت معالم التفكك والضعف تظهر عليها، عززها غياب الانسجام بين أجهزتها الأمنية وأجنحة الحكم فيها، وشكل الانفلات الأمني لاحقاً أهم مظهر لضعف وتراجع السلطة الفلسطينية.
على الصعيد الاجتماعي، أدخلت الانتفاضة شرائح أوسع من المجتمع الفلسطيني في طور المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، بما يتضمنه ذلك من زيادة في مظاهر الحداد مع ارتفاع عدد الشهداء، وانتهاء كل مشاريع التعايش مع الاحتلال، وانتهت في هذه الفترة كافة مشاريع الترفيه والسياحة الداخلية التي حاولت السلطة تطويرها في القطاع، كما أدت حالات الإغلاق ومنع العمال الفلسطينيين من العمل في الداخل إلى تفاقم الوضع الاقتصادي.
وبحلول سبتمبر/أيلول 2005، خرج آخر جنود الاحتلال من غزة.. فككت إسرائيل “أصابعها الخمسة”، ليعود للقطاع اتصاله الجغرافي بعد عقود من الفصل والاحتلال، فأصبح بإمكان سكان الجنوب ومحافظات الوسطى الوصول إلى مدينة غزة بكل أريحية، بعدما كان عليهم اجتياز عدد من الحواجز والمستوطنات للوصول إلى المدينة التي تشكل مركز القطاع. كما أن انسحاب الاحتلال من معبر رفح، عزز اتصال غزة مع العالم والعكس، خاصة أن فئات كبيرة كانت محرومة من السفر لاعتبارات أمنية. اتصال أجزاء القطاع بعضها ببعض، قابله تصاعد في إجراءات حصاره إسرائيلياً، وهو ما منع عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين من العمل داخل إسرائيل، وأدى إلى ارتفاع كبير في مستويات البطالة.
“فك الارتباط” الإسرائيلي عن قطاع غزة، ومنعُ عشرات آلاف العمال من دخول إسرائيل، أدى إلى تراجع الهيمنة الإسرائيلية على المجتمع الفلسطيني في غزة. وامتداداً للوضع الذي كان قائماً خلال انتفاضة الأقصى، تضاعفت عمليات التجنيد داخل الأجهزة العسكرية للفصائل الفلسطينية التي بدورها انتقلت من مرحلة عمل الخلايا إلى الشكل المؤسسي، بما أهلها لاستيعاب المجندين الجدد. وبعد انسحاب الاحتلال مباشرة، أنشأت الفصائل مواقعها العسكرية فيما أصبح يعرف بمناطق “المحررات” التي كانت مستوطناتٍ إسرائيلية فيما سبق.
بذور المواجهة
حتى خسارة السلطة الفلسطينية للقطاع، كانت غزة مركزاً لها وأجهزتها، إذ حوّل ياسر عرفات السلطة إلى وعاء احتضن حركة فتح بأجنحتها وتبايناتها، مما جعل الأجهزة الأمنية أدوات في الصراع الداخلي الذي ظهرت معالمه في مرحلة مبكرة من تأسيس السلطة. فقد انخرطت أجهزة الأمن الوقائي والاستخبارات العسكرية والأمن الوطني وحتى جهاز الشرطة المدنية، ومن خلفهم تنظيم حركة فتح بمناطقه المختلفة؛ في صراع غذاه واستفاد منه رئيس السلطة آنذاك عرفات، وترافق معه ارتفاع في معدلات الفساد الحكومي التي أصبحت محط حديث وتندّر المجتمع الفلسطيني في غزة.
بهذه البنية المختلة، دخلت السلطة الفلسطينية الانتفاضة الثانية التي فاقمت هذه الخلافات بدلاً من إنهائها، خاصة أن أجهزة السلطة في بدايات الانتفاضة كانت محط استهداف إسرائيلي، مما أدى في المحصلة إلى تراجع قدرتها على ضبط المشهد في غزة، وظهور ما بات يعرف “بالانفلات الأمني” الذي دخل فيه -إلى جوار الأجهزة الأمنية- لاعبون جدد، كأبناء العائلات الكبرى، وعناصر تنظيم فتح، خاصة الجناح المسلح، وعصابات إجرامية مختلفة.
في مقابل هذه الحالة المفككة، بدأت حالة المقاومة -الأكثر تماسكاً على المستوى التنظيمي، والأعلى شرعية على مستوى نظرة المجتمع لها- بالنمو والتوسع، مستفيدة من تجند المجتمع الفلسطيني لمواجهة الاحتلال، وتراجع قبضة السلطة الأمنية. ولاحقاً مع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، عززت المقاومة من هيكلها التنظيمي والعسكري ووجودها الشرعي المعلن في غزة، لذلك ليس غريبا أنّ من أوائل ما صنعته المقاومة بعد الانسحاب تنظيم عروض عسكرية عامة في مختلف محافظات القطاع، وظهور عدد من قياداتها بدون لثام.
ومع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، بعد عام من رحيل ياسر عرفات، دخلت الحالة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الانتفاضة، وشكلت الانتخابات أهم عناوينها، إذ جرت انتخابات رئاسية في العام نفسه فاز فيها محمود عباس برئاسة السلطة، وانتخاباتٌ بلدية شاركت فيها حركة حماس، واستطاعت الفوز والتقدم في غالبية البلديات، بينما بدأت المرحلة الأخيرة بالانتخابات التشريعية في صيف 2006.
دخلت حركة حماس مرحلة الانتخابات بجسم تنظيمي متين قادر على الوصول إلى مختلف شرائح المجتمع عبر مجالات عمل متنوعة كالعمل الدعوي والاجتماعي والإغاثي، وشعبية مرتفعة عززها أداء الحركة في الانتفاضة الثانية، وقيادات سياسية واجتماعية محلية تحظى بثقة شعبية. في المقابل نهش “الانفلات الأمني” والفساد الحكومي، والتنظيم المتصارع؛ من حظوظ حركة فتح، وهذا ما ظهر في الانتخابات التشريعية عام 2006 التي خسرتها أمام حماس.
الحسم
جذور المواجهة بين حركة حماس وفتح ترجع إلى بدايات ظهور الأخيرة في ثمانينيات القرن الماضي، ومرت بمراحل عدة تصاعدت مع نهاية الانتفاضة الثانية، وشكّل فوز حركة حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006 ذروتها التي انتهت بسيطرة الحركة على قطاع غزة صيف 2007. شغل الانفلات الأمني المتصاعد المجتمعَ الفلسطيني أكثر من أي قضية أخرى، ورأى فيه الفلسطينيون في غزة أهم القضايا التي تهدد معاشهم، فكان القضاء عليه أهم الوعود الانتخابية التي قدمتها الفصائل الفلسطينية خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية.
لم يمتد التصارع ولاحقاً الاشتباك السياسي والعسكري بين حركتي فتح وحماس إلى الحيز المجتمعي، إلا في حالات استثنائية، كمحاولات حركة فتح توظيف بعض العائلات الكبرى في مواجهة حركة حماس. وسبق أن ظهر في قطاع غزة ما يعرف بالمربعات الأمنية، التي بدأت مع أجهزة السلطة التي فرضت إجراءات أمنية خاصة حول أهم مواقعها الأمنية والإدارية، قامت بعض العائلات الكبرى بمحاولة تطبيقها، واستمدت هذه العائلات نفوذها من وجود جزء من أبنائها في أجهزة السلطة الأمنية، وتسلحها الذاتي، والأهم عدد أفرادها الكبير.
حاولت حركة فتح بعد عام 2006، وتحديداً تحت قيادة محمد دحلان، توريط هذه العائلات في المواجهة مع حركة حماس، لكنها حققت نتائج محدودة لاعتبارات عدة، منها أن جزءا من هذه العائلات أو قياداتها لديها خلافات تاريخية مع دحلان، كما هو الحال مع عائلة حلس، التي لم يكن القيادي فيها أحمد حلس “أبو ماهر” على توافق معه.
كما أن حركة حماس، ومن خلال عناصرها في هذه العائلات، أثنتها عن الانخراط في مواجهة معها، فضلا عن خشية هذه العائلات من مواجهة الحركة. هذا بالإضافة إلى أن الخلافات السياسية بين الحركتين لم تنعكس على المستوى الاجتماعي، فالمجتمع ظل يراقب صراعهما دون أن ينحاز أيٌ من مكوناته إلى أحد الطرفين، في حين كان المطلب الوحيد هو إنهاء الانفلات الأمني ووقف عمليات القتل، التي كانت عناصر فتح تشكل رموزه الأساسية (فرقة الموت، ومربعات الأجهزة الأمنية، والسلوك غير المنضبط لمسلحي الحركة).
وهذا ما يفسر جزءا من الطريقة التي استقبل بها قطاع غزة سيطرة حركة حماس على المشهد، إذ رأوا فيها نهاية لحالة الانفلات الأمني وما حملته من مآسٍ، وهو ما أدركته حماس بدورها، فلم تسمح بامتداد المواجهة، ومنعت أيَّ أعمال انتقام أو تنكيل بحق ضباط الأجهزة الأمنية وقيادات حركة فتح، وجعلت من ضبط الحالة الأمنية في غزة على رأس أولوياتها. لذا، من غير العجيب أن يكون “الأمن والأمان” أحد أهم شعارات حركة حماس الدعائية في تلك الفترة التي تحولت فيها “القوة التنفيذية” -وهي الجهاز الأمني الذي أسسه وزير الداخلية الشهيد سعيد صيام- إلى رمز الضبط الأمني الأول في غزة.
لم تكن أجهزة فتح الأمنية هي التحدي الوحيد الذي واجه حركة حماس، بل كان على الأخيرة التعامل مع تركة الانفلات الأمني بكافة مكوناته التي عانى منها القطاع لسنوات، فاعتمدت مجموعة من السياسات التي هدفت إلى ضبط استخدام الأسلحة الفردية، الشخصية أو الفصائلية. وجاء التحدي الثاني للحركة من العائلات الكبرى في غزة، التي حاولت مساومة الحكومة الحمساوية الجديدة بنفس الطريقة التي تعاملت بها مع حكومات السلطة الفلسطينية التي فضلت بموجبها مهادنة هذه العائلات بدلا من مواجهتها. ولا يمكن إهمال الجانب المتعلق بالتباين السياسي بين هذه العائلات الأقرب إلى حركة فتح وبين الحكومة الجديدة.
ولم يمض صيف واحد على سيطرة حركة حماس على القطاع حتى داهمت القوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية في غزة المربع الأمني لعائلة حلس في أغسطس/آب 2008، بعد أن رفضت العائلة تسليم القيادي في كتائب شهداء الأقصى زكي السكني، الذي اتهم بالوقوف خلف تفجير “البحر” الذي أدى إلى مقتل وإصابة عدد من عناصر القسام. لم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تحسم “التنفيذية” المربع الأمني للعائلة وتعتقل المطلوبين. نفس المشهد سوف يتكرر في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، لكن هذه المرة مع المربع الأمني لعائلة “دغمش” شرقي مدينة غزة.
حملت الضربة الموجهة لعائلتي حلس ودغمش أبعادا رمزية كبيرة، فهذه العائلات من كبرى العائلات الغزية ومن أكثرها بطشاً ورهبة، وحسمها بهذه الطريقة شكّل رسالة لكافة العائلات الأخرى تنذر بعهد جديد تحكمه سلطة فتية تسعى لضبط الوضع الأمني والقطع مع كل مظاهر الفترة الماضية، وهذا ما فهمته العائلات التي تراجعت خطواتٍ إلى الخلف وبدأت تتأقلم مع زمن حماس الجديد.
وما إن انتهت حماس من العائلات وحركة فتح، حتى ظهر تحدٍّ جديد من بيئة الحركة الإسلامية، تَمثل في السلفية الجهادية. ومع أن الخلاف بين جماعة الإخوان المسلمين التي تنمي إليها حركة حماس، والتنظيمات السلفية الجهادية خلاف تاريخي، فإنه كان ضامراً في غزة بفعل عوامل عدة، على رأسها حالة الاشتباك والمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي. ولاحقاً بعد مشاركة حماس في الانتخابات التشريعية وتوليها الحكم في القطاع، بدأت معالم الخلاف بالظهور، وشكلت حادثة مسجد ابن تيمية عام 2009 نقطة الكسر في العلاقة بين الطرفين، بعدما هاجمت القوة التنفيذية ووحدات من كتائب القسام المسجد الذي تحصن فيه الطبيب والشيخ عبد اللطيف موسى وعناصره. انتهت المواجهة بمقتل الشيخ وأهم قياداته، وسيطرة حماس على المشهد الأمني في محافظة رفح التي وقعت بها الأحداث، لكنه أسس لمسار من المواجهة بين الحركة وتنظيمات السلفية الجهادية.
وبخلاف الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، والعائلات المسلحة التي تمكنت حماس من إنهاء خطرها بضربات قاضية، ظلت السلفية الجهادية تمثل مشكلة أمنية مزمنة نجحت الحركة في احتوائها بالمراوحة بين الاحتواء والتفاهم أحياناً، والقمع والملاحقة أحياناً أخرى.
حماس تبني حكمها
سعت حركة حماس مباشرة بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006 لبناء أدوات الحكم التي ستتحرك بها، لإدراكها طبيعة السلطة الفلسطينية والشكل الذي بنيت عليه. وبسبب الوضع الأمني الذي عاشته الساحة الفلسطينية، ومركزية الأجهزة الأمنية في بنية السلطة، كانت القوة التنفيذية أول أجهزة الحكم التي أسستها حركة حماس، وتكونت من مجموعة من العناصر القادمة من الأجنحة العسكرية للمقاومة الفلسطينية، والجزء الأكبر منهم من كتائب القسام.
شارك هؤلاء المقاتلون في فعاليات الانتفاضة الثانية، وكانت القوة التنفيذية بوابة دخولهم إلى جسم الحكم الرسمي الفلسطيني، ومن خلالها أصبح هؤلاء جزءا من القوة الضابطة للمجال العام. وفي الوضع الطبيعي كان يصعب على هؤلاء أن يكونوا في بنية السلطة الفلسطينية وتحديداً الأمنية منها، وهذا الأمر فتح المجال أمام فئات جديدة من المجتمع الفلسطيني لتدخل ضمن عملية التوظيف، لكن من بوابة حماس، فربطت هذه الفئة مصيرها بالحركة معنوياً ومادياً كذلك، ولاحقاً كان لهذه القوة دور هام في عملية بسط الحركة سيطرتها الأمنية على قطاع غزة إلى جوار كتائب القسام.
بعد سيطرة حماس على القطاع في صيف 2007، طلبت الحكومة الفلسطينية في رام الله من جميع الموظفين الحكوميين الامتناع عن العمل في الجهاز الأمني والمدني مع استمرار صرف رواتبهم (المستنكفين).. هذا الفراغ الإداري شكّل تحديا آخر للحركة، لكنها استطاعت بسرعة تعبئة الشواغر الجديدة عبر عملية توظيف واسعة في مختلف الوزارات والإدارات الحكومية. غير أن هذه العملية واجهت تحديات كبيرة، على رأسها الدعم المادي اللازم لإنجاح التوظيفات. وعلى عكس السلطة الفلسطينية في رام الله التي اعتمدت على التمويل الدولي المستقر، لم تحظ حركة حماس بهذه الخاصية.
اعتمدت حماس في بناء الجهاز الإداري الجديد، بصورة كبيرة، على عناصر الحركة من خريجي الجامعات، فطوال سنوات الانتفاضة نجحت الحركة في التغلغل في الجامعات الفلسطينية وتكوين قاعدة طلابية قوية، شكلت النواة التي استندت إليها الحركة في حكمها وفي عملية بناء تنظيمها الذي شهد طفرة في العدد والبنى.
وإلى جوار الموظفين الجدد، استفادت الحركة من الموظفين السابقين في السلطة الفلسطينية، خاصة الذين قُطعت رواتبهم لانتماءاتهم التنظيمية. ولم تواجه عملية التوظيف نقصاً في الكوادر البشرية، بعد أن تجند تنظيم حركة حماس المدني لإتمام هذه المهمة، فسيطر أبناء الحركة على الإدارات العليا المختلفة في الجهاز الحكومي، ومفاصل العمل المركزية، كما اعتمدت الحركة على كوادرها الأمنية التنظيمية في بناء الأجهزة الأمنية الحكومية الثلاثة: الشرطة المدنية، والأمن الداخلي، والأمن الوطني.
فتحت الوظيفة العامة في حكومة غزة الباب أمام فئة جديدة من المجتمع للانضمام إلى طبقة الموظفين الحكوميين، والدخول إلى الطبقة الوسطى في المجتمع الغزي، مما ساهم في استيعاب أجيال جديدة من خريجي الجامعات، خاصة أن التوظيف في السلطة الفلسطينية توقف بعد طردها من قطاع غزة. هذه الطبقة من الموظفين الحكوميين الجدد بلغ عددها قرابة 40 ألف موظف حكومي مدني وعسكري، ارتبطوا عضوياً وسياسياً بحركة حماس، وخلال جولات المصالحة المختلفة أظهرت حركة فتح موقفاً رافضا لاستيعاب هذه الفئة الجديدة أو الاعتراف بشرعية وجودها.
لم تكن حماس منقطعة عن العمل العام، فإلى جوار عملها التنظيمي والعسكري امتلكت الحركة مجموعة من المؤسسات الاجتماعية والخدماتية التي احتكت وعملت في صفوف المجتمع الفلسطيني، لكن ذلك لا يقارن مع عملية تشكيل الحكومة التي نقلت كتلة تنظيمية كبيرة من أبناء الحركة إلى العمل الحكومي، مما أدى إلى فراغ تنظيمي سرّع من عملية تصعيد الكوادر التنظيمية في المستويات الدنيا إلى المستويات الوسطى في الجهاز المدني والعسكري.
على نقيض تجربة حركة فتح في الحكم التي تنافست فيها أجهزة السلطة الفلسطينية وتنظيم الحركة على النفوذ، واستطاعت السلطة لاحقاً احتواء التنظيم ونفوذه، فصلت حركة حماس الأجهزة التنظيمية والعسكرية عن الجهاز الحكومي، وظلت القيادة السياسية للحركة في غزة، والتي أصبحت تعرف باسم “المكتب السياسي لإقليم غزة”، هي المرجعية السياسية للجهاز الحكومي، الذي تحول إلى أداة من أدوات الحركة في حكم القطاع مثل “الجهاز العسكري” والأجهزة الدعوية والتنظيمية الأخرى. وعلى صعيد المستويات الأدنى، جرى ما يشبه تقسيما للعمل بين أجهزة حماس والجهاز الحكومي، نجحت به الحركة في تحقيق نوع من الانسجام والتكامل.
داخلياً، لم تواجه حركة حماس أي تحدٍ في شرعيتها لحكم القطاع، واستندت في ذلك إلى عدد من المقولات، مثل الشرعية الانتخابية التي وفرت إطاراً شرعياً خلال السنوات الأولى من الحكم بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006. كما استندت الحركة إلى تاريخها ودورها المقاوم في عملية الحكم، فوظيفة الأجهزة الأمنية هي حماية ظهر المقاومة ومواجهة الاحتلال في حربه على الجبهة الداخلية. ولم تقتصر حماس على هذه المقولات لتعميق شرعية الجهاز الحكومي، بل عززته بطبقة الموظفين وأبناء التنظيم وحواضن الحركة الذين وفروا الغطاء الشعبي للحكم في غزة.
كيف حكمت حماس؟
دخلت حماس الحكم محملة بمجموعة من الطموحات والآمال التي فرضتها هويتها الإسلامية المقاوِمة والظرفُ الذي جاءت فيه، والأهم منافِستُها السياسية والاجتماعية حركةُ فتح، في حين استقبل المجتمع الفلسطيني حكم حماس ولديه مجموعة من المطالب والاحتياجات.
التفاعل بين الحمولة التي دخلت بها حماس الحكم وتوقعاتِ المجتمع الفلسطيني، هي التي أنتجت ما يشبه العقد الاجتماعي الجديد الذي حكم قطاع غزة طيلة السنوات الماضية. فسياسياً حكمَ مفهوم المقاومة أجندة الحركة السياسية، خاصة بعدما أصبحت مادة تناقضٍ مع حركة فتح التي تبنت العملية السلمية، لكن بالمقابل عزز انخراط الحركة في العمل المقاوم من قدراتها البراغماتية، وقدرتها على التكيف. وأيديولوجياً، دخلت الحركة بحمولة مبنية على الفكر الإخواني الذي حظيت فيه مقولات مثل الإصلاح بصوره المختلفة، وشمولية الإسلام، موقعاً مركزياً في تشكيل النموذج المثالي لشكل الحكم الذي حدد المخزن القيمي للحركة.
في المقابل، تصدرت حركة حماس الحكم في لحظة عانى فيها المجتمع الفلسطيني في غزة من انفلات أمني وفساد مستشرٍ في السلطة الفلسطينية، وطموحات بتحسين الوضع الاقتصادي الذي تردى خلال سنوات الانتفاضة الثانية.
نجحت الحركة خلال فترة قصيرة في بسط الأمن والقضاء على مظاهر الانفلات الأمني، وانعكست محدودية الموارد وشحها على ممكنات الفساد في الجهاز الحكومي، أما الاقتصاد والوضع المعيشي فقد تراجع بشكل كبير، مما جعله مصدرا للاحتجاج والسخط الشعبي الذي تطور في بعض الأحيان إلى مظاهرات احتجاجية.
لم تتخل حماس عن أهدافها في تعزيز القيم الإسلامية المحافظة، وتغيير المجتمع الفلسطيني بما يتفق مع هذه القيم، فهذا الأمر في صميم وجودها ومعيار اتساقها مع ذاتها. وفي بداية حكمها للقطاع، أدركت الحركة تعقيدات الحكم والمجتمع الفلسطيني، ورغم بعض الحملات الحكومية التي مست حياة الناس وظهرت في السنوات الأولى من حكم الحركة، فإنها لم توظف الإكراه في عمليات التغيير هذه، واعتمدت بصورة أكبر على مؤسساتٍ مثل المساجد والمعاهد الشرعية والجمعيات التي تعنى بالقرآن الكريم والعلوم الشرعية والدعوية، بالاضافة طبعاً إلى جهازها التنظيمي والدعوي.
تجنبُ الجهاز الحكومي لاستخدام الإكراه في عملية التغيير لا يعني وقوفه على الحياد، بل كان له دور انصب على الحفاظ على الوضع الأخلاقي القائم الذي تشكل خلال سنوات الانتفاضة الثانية، كمنع عمليات بيع المشروبات الكحولية، وملاحقة أي شكل من أشكال إنتاجها أو استهلاكها، ومنع الفعاليات الترفيهية المختلطة وغير ذلك. وباستثناءات قليلة، لم يصطدم المجتمع مع أجندة حركة حماس الدعوية، ولم تشهد غزة صداما سياسياً أو اجتماعياً على خلفية الحريات الاجتماعية، بعكس الحريات السياسية التي اصطدمت بها الحكومة الفلسطينية في غزة مع فصائل سياسية كحركة فتح وبعض منظمات المجتمع المدني ونشطائه.
الجانب الثاني والأهم الذي تفاعلت فيه حماس مع المجتمع؛ كان المقاومة، فالجهاز العسكري “القسام” توسع منذ الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، وتضاعف بعد سيطرة الحركة، وبدأ شكل العمل فيه يأخذ طابعاً مؤسسياً بالاستفادة من الغطاء الأمني والمدني الذي وفره وجود حماس في الحكم. وفي ظل الصعوبات والإشكاليات التي واجهت العمل الحكومي وتحوله إلى ملف استنزف شعبية الحركة، عوضت سردية المقاومة والقسام هذا الاستنزاف، فصار من الطبيعي أن تتم عملية التمييز بين حماس كجهة حكم وحماس كجهة مقاومة.
غزة وأطوار الحصار
واجهت دولة الاحتلال الإسرائيلي التطورات الجديدة في غزة عبر سياستي الحصار والحرب، في حين أفقر الحصار اقتصاد القطاع وعزله عن محيطه الفلسطيني والعربي، ودمرت الحروب الإسرائيلية بنيته التحتية والصناعية، وحدّت من أي نمو اقتصادي حقيقي.
السياسات الإسرائيلية تجاه غزة كان لها الأثر الأكبر في تشكيل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في القطاع، إذ يمكن التحقيب للسنوات 20 الماضية من تاريخ غزة بناء على شكل سياسات الاحتلال، التي يلاحَظ أن كل حقبة منها ضمت طوراً من الحصار وحربا من الحروب الخمس التي شنتها إسرائيل على غزة، والتي هدفت في محصلتها إلى إفشال أي نموذج للحكم يحمل توجهات معادية للاحتلال الإسرائيلي، من بوابة فرض عقاب جماعي على سكان القطاع، وإكمال أهدافه في تفتيت أي كيانية فلسطينية تمتد على قطاع غزة والضفة الغربية.
ولطالما كان الاقتصاد إحدى أدوات الاحتلال في التعرض لحياة الفلسطينيين، لانكشاف الاقتصاد الفلسطيني أمام السياسات الإسرائيلية، وفي هذا الإطار طورت أستاذة الاقتصاد السياسي سارة روي مصطلح “الإفقار التنموي” للإشارة إلى الأهداف النهائية لهذه السياسات، التي تصب في النهاية باتجاه تدمير البنية الاقتصادية للفلسطينيين. وعلى خلاف المناطق الأخرى في فلسطين التي ألحقت فيها دولة الاحتلال القطاعات الاقتصادية الفلسطينية بالاقتصاد الإسرائيلي، فإنها في غزة قامت فقط بتدميرها وتركها بلا أي خيار، فالعاملون في القطاعين الصناعي والزراعي المدمرَين لم يجرِ استيعابهم لاحقاً كأيادٍ عاملة في الداخل المحتل، كما أن القطاعات الصناعية التي حُرمت من أسواقها لم يتم استيعابها لاحقاً في سلسلة الإنتاج بدولة المحتل، إنما دُمرت فقط.
ويمكن اعتبار قرار الاحتلال في سبتمبر/أيلول 2007 باعتبار قطاع غزة كياناً معادياً، بداية التشديد الأول للحصار الإسرائيلي على القطاع والذي امتد حتى صيف 2010، فبعد فترة قصيرة من سيطرة حركة حماس على غزة، أغلقت سلطات الاحتلال جميع المعابر، سواء المخصصة للبضائع أو للأفراد، وسبق ذلك قصفها محطة توليد الكهرباء صيف العام 2006، ليشكل هذا التاريخ بداية أزمة الكهرباء في القطاع، التي ظلت ملازمة له طيلة السنوات الماضية.
أدى الحصار الإسرائيلي إلى شلل كامل في كافة قطاعات الاقتصاد الفلسطيني بغزة، وصل إلى سلة غذاء المواطن الأساسية، وافتقرت الأسواق للكثير من السلع والمنتجات، وشكلت أزمة الطاقة العنوان الأهم لهذه الفترة، من الكهرباء وغاز الطهي وصولاً إلى المحروقات الأخرى.
حاول المجتمع الفلسطيني التكيف مع الأزمة الجديدة، وساعده في ذلك عوامل عدة، أهمها أن مدخرات العائلات الفلسطينية ما زالت قائمة، كما أن عمليات التوظيف التي قامت بها الحكومة في غزة ساعدت في احتواء جزء من البطالة التي بدأت تتصاعد في غزة بعد انهيار قطاعات التوظيف التقليدية، بدءا من العمالة في الداخل المحتل التي تركت عشرات الآلاف من العمال، وصولاً إلى تدمير القطاع الخاص في غزة، خاصة الصناعي منه الذي وجد نفسه بلا مواد خام ولا طاقة كافية للقيام بأي عملية تصنيع، والأهم من ذلك، بلا أسواقه التقليدية بعد أن حرمه الحصار من التصدير لأسواق الضفة الغربية والداخل المحتل، فانهارت صناعة النسيج والأثاث، ولم يعد بإمكان مزارعي الفراولة والزهور والبندورة تصدير منتجاتهم. ووجّه منع دخول الإسمنت وملحقاته، وانعدام المساعدات والمنح الدولية، ضربة قاصمة لصناعة الإنشاءات التي تستوعب عادة جزءا معتبراً من القوى العاملة.
وفي ظل اشتداد حالة الحصار ومساعي حركة حماس لترسيخ سلطتها في غزة، شن الاحتلال نهاية العام 2008، حرباً كانت الأكبر على القطاع منذ اندلاع الانتفاضة الثانية. اتساع نطاق العمليات وحجم النيران المستخدمة، بالإضافة إلى المدى الزمني للحرب، جعلا منها حدثاً فاصلاً في شكل حملات الاحتلال على قطاع غزة. وأدى الدمار الكبير الذي تعرضت له المنشآت الحكومية والمدنية والسكنية إلى مفاقمة آثار الحصار الإسرائيلي على غزة، فالاحتلال ركز في عمليات قصفه على تدمير المراكز الحيوية من مقرات الحكم إلى مواقع الأجهزة الأمنية، وصولاً إلى عمليات التجريف الواسعة التي تعرضت لها مناطق مختلفة من القطاع، خاصة تلك التي توغل الاحتلال فيها برياً.
اختبر الغزيون في هذه الحرب العدد الكبير من حالات الفقد بعد استشهاد قرابة 1400 فلسطيني وإصابة الآلاف، ولأول مرة يعيش سكان القطاع النزوح من مناطق سكناهم، وتجربة العيش في مراكز الإيواء.
عززت الحرب من الحراك التضامني مع غزة، وسلطت الضوء أكثر على الحصار الإسرائيلي على القطاع، بما شكل ضغطاً على دولة الاحتلال ومصر. وفي ظل هذا الوضع بدأت تزدهر الأنفاق التجارية بين مدينتي رفح المصرية والفلسطينية، بعد أن كانت تمثل ممرات هامشية للقيام بعمليات التهريب أو نقل الأسلحة إلى المقاومة الفلسطينية، كما هو الحال في فترة التسعينيات والانتفاضة الثانية.
تضاعف عدد الأنفاق التجارية وبدأت تتحول إلى الشريان الرئيسي للاقتصاد الغزي المتعطش للمواد بمختلف أنواعها، فخلال شهور عدة امتلأت الأسواق الغزية بالبضائع المصرية، من الإسمنت إلى الوقود، وليس انتهاءً بالمواد الغذائية، ومواد البناء التي ازداد الطلب عليها بعد توقفٍ لسنوات وازدياد حجم الدمار الذي تعرضت له مساكن المواطنين في حرب 2008، بالإضافة إلى قيمة المنازل في وعي المواطن الفلسطيني كمخزن للقيمة والمدخرات.
شغّلت الأنفاق ما يقرب من 12 ألف غزي في عملية حفرها وتشغيلها لاحقاً، وتركت الحكومة الفلسطينية في غزة عملية بناء الأنفاق وتشغيلها للقطاع الخاص، واكتفت بفرض الرسوم والضرائب، وشكلت هيئة الأنفاق الحكومية لهذا الغرض.
انشغال القطاع الخاص بالأنفاق أنتج طبقة جديدة من رجال الأعمال الذين ساعدتهم عوامل مثل وجود النفق في أرض تعود لهم في مدينة رفح، أو قدرتها على نسج علاقات مع الطرف الآخر في مصر، أو حتى مبادرتهم للتعامل مع هذا النمط الجديد من الاقتصاد بشكل مبكر، ولم تتأخر طبقة التجار ورجال الأعمال التقليدية في التعامل مع الفرصة الجديدة، وضخت جزءا من استثماراتها في اقتصاد الأنفاق. وعلى الرغم من الدور الهام الذي لعبته الأنفاق في كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، فإن حركة البضائع ظلت باتجاه واحد، ولم تتمكن الصناعات وقطاع الزراعة الغزي من الوصول إلى الأسواق، فظلت الصادرات محدودة، بما يعني أن اقتصاد الأنفاق ساهم في حل الإشكالية الاستهلاكية للسوق الغزي بينما ظلت إمكانيات التصدير محدودة. هذا الأمر كذلك يمكن ملاحظته في الظواهر التي ازدهرت إلى جوار اقتصاد الأنفاق، وخاصة تجارة العقارات والأراضي وحتى السيارات الحديثة التي دخل جزء منها عبر الأنفاق، وجزء آخر من خلال المعابر مع الاحتلال.
وفرت إيرادات الأنفاق للحكومة الفلسطينية موردا ماليا مكّنها من التوسع في عمليات التوظيف، مما أدى في المحصلة إلى زيادة القاعدة الاجتماعية للجهاز الحكومي في غزة، وزيادة تكاليف تشغيله مع زيادة فاتورة الرواتب. كما شهدت هذه الفترة زيادة في عمليات “المأسسة” للفصائل الفلسطينية، وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي، فبدأ عدد “المفرغين” الذين يتلقون رواتب ومخصصات دورية ويعملون في المجالات الإعلامية والسياسية والعسكرية والأمنية في التزايد.. هذه “البيروقراطية الفصائلية” ساعدت في بناء الفصائل الفلسطينية وزيادة تأثيرها في المجال السياسي والإعلامي، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، التي خصصت لها الحركة موارد مادية وبشرية للتعامل معها والاستفادة منها.
وشكل الهجوم الإسرائيلي على سفينة “مافي مرمرة” عام 2010، ضمن أسطول الحرية البحري الذي انطلق لفك الحصار الإسرائيلي على غزة؛ نقطة فاصلة في الحصار المفروض على القطاع، والذي بدأت حلقاته تتراخى، وتحديداً معبر رفح الذي زادت أيام فتحه أمام حركة المسافرين من وإلى غزة، وهو ما مكن أجيالا من الشباب الفلسطيني من إعادة اتصالهم بالعالم الخارجي والعكس، فكثرت في هذه الفترة الوفود التضامنية الأجنبية التي زارت القطاع من دول مختلفة، وساهم هذا الأمر في تعزيز مكانة غزة كقضية تضامنية من جماهير الحركات الإسلامية والعالمية، كما أتاح لقيادات تنظيم غزة الاتصال بقيادات هذه الحركات.
بحلول العام 2011، كانت غزة أكثر اتصالاً وتأثراً بمحيطها العربي، بعدما أصبحت أيام فتح معبر رفح أكثر من الفترة السابقة، والأهم زيادة استخدام شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي التي بدأت بالظهور في هذه الفترة.
تفاعل الشارع الغزي مع أحداث الربيع العربي التي بدأت في تونس ولاحقاً في مصر، وفي مارس/آذار 2011 بدأت مجموعة من الشباب مظاهرات في مركز مدينة غزة، وعلى خلاف الحراكات في الدول العربية التي غلبت عليها المطالب الاجتماعية والاقتصادية، طالب هؤلاء الشباب بمطالب سياسية تمثلت في إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية بين حركتي حماس وفتح. فشل الحراك لاحقاً بعد أن نجحت حماس في احتوائه والحيلولة دون تحوله إلى تهديد شعبي أو سياسي، بينما لم يتمكن هؤلاء الشباب من تجاوز مجال مؤسسات المجتمع المدني التي نشط فيها الجزء الأكبر من نشطاء الحراك، والذهاب نحو تأسيس عمق سياسي واجتماعي. في المقابل تحركت حركة حماس بفعالية وقوة في المجال الشبابي والطلابي والإعلامي سعياً منها لمواجهة التحدي الجديد.
غزة بين حربين
في خريف 2012، اندلعت مواجهة جديدة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي عُرفت باسم حرب “حجارة السجيل”، بدأتها قوات الاحتلال باغتيال القيادي في كتائب القسام أحمد الجعبري، وردت عليها المقاومة الفلسطينية بقصف مدينة تل أبيب الإسرائيلية. لم تدم المعركة طويلاً ولم تتجاوز حدود المواجهة الجوية الصاروخية بين الاحتلال والمقاومة، لكن الحرب قلصت المنطقة العازلة بين غزة ودولة الاحتلال، والتي أنشئت بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع ووصلت بحلول العام 2012 إلى قرابة 300 متر في عمق الأراضي الفلسطينية، منع فيها جيش الاحتلال أي عملية تطوير أو زراعة لهذه المساحات. وكان من ضمن شروط انتهاء هذه الحرب، تقليص مساحة المنطقة العازلة التي وصلت إلى ما بين 50 و100 متر.
بالاضافة إلى عودة النشاط الزراعي لهذه المناطق، بدأت فصائل المقاومة الفلسطينية بعد الحرب مباشرة في بناء مجموعة من المواقع العسكرية قرب الحدود مع الاحتلال، كموقعي عسقلان، وفلسطين شمال مدينة غزة، كما نصبت عدداً من أبراج مراقبة الحدود وضبطها. بالتزامن مع هذا التطور، ظهر جهاز جديد في بنية كتائب القسام عرف باسم “الضبط الميداني” أو “حماة الثغور”، الذي تخصص في حراسة وضبط الحدود مع الاحتلال الإسرائيلي.
انعكس التغير في شكل النظام المصري سريعاً على الأوضاع في قطاع غزة، فالنظام الجديد الذي حمل أجندة معارضة للإسلاميين في مصر، وجد في حكم حماس امتدادا لهم، وجاء ظهور تنظيم الدولة “داعش” في سيناء ليزيد من توتر العلاقة بين النظام المصري الجديد وحركة حماس، نتج عن ذلك حملة أمنية شنتها القاهرة على شبكة الأنفاق بين غزة وسيناء وزيادة مدة إغلاق معبر رفح، وهو ما أدخل القطاع في طور جديد من الحصار الخانق، تراجعت فيه إيرادات الحكومة الفلسطينية في غزة بما انعكس على قدرتها على صرف رواتب موظفيها، مما أدى إلى مزيد من سياسات الجباية، كالتوسع في فرض الضرائب على البضائع الواردة والرسوم الإدارية، بالإضافة إلى التوسع في المخالفات المالية التي ولّدت بالضرورة اعتراضات شعبية، مع تصاعد معدلات البطالة وتراجع المؤشرات الاقتصادية.
وبحلول صيف 2014، كانت الأوضاع الاقتصادية والعلاقة بين حركة حماس والنظام المصري في أسوأ حالاتها، وفي هذه الأجواء دخلت غزة حربا مع الاحتلال سمتها المقاومة الفلسطينية “العصف المأكول”، اختبر فيها المجتمع الغزي مستويات جديدة من العنف والتدمير الإسرائيلي، بعد أن تجاوز عدد الشهداء 2400 شهيد وعشرات الآلاف من الإصابات، بالإضافة إلى آلاف المنازل المدمرة، بعدما انتهجت إسرائيل سياسة جديدة قائمة على القصف الواسع لمنازل كوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية على المستويات العليا والوسطى، مما فاقم من آثار الحرب وزاد من تكلفة عملية إعادة الإعمار التي تحولت إلى ملف ابتزاز جديد.
ومع استمرار إغلاق معبر رفح، وتصاعد معدلات البطالة، دخلت أجيال جديدة من مواليد “التسعينيات” بين عامي 1990 و1995، إلى سوق العمل وساحة التأثير السياسي.. لم تواكب هذه الأجيال عمليات التوظيف الواسعة التي قامت بها السلطة الفلسطينية، وكذلك الأمر مع حكومة حركة حماس. وفي ظل محدودية قدرة القطاع الخاص على التشغيل في غزة، وجد الجزء الأكبر من هذه الفئة نفسه في حالة من البطالة تترافق مع مستوى عال من التسيس والحضور على شبكة الإنترنت والتفاعل مع القضايا العامة.
وفي داخل الفصائل الفلسطينية، شكل هؤلاء القاعدة الصلبة التي ارتكزت عليها الفصائل في عملها الميداني السياسي والأمني والعسكري، خاصة في ظل قدراتهم على التعامل مع الأدوات والمنصات الحديثة. كما أن أبناء هذا الجيل ظهروا في وقت ارتفاع قدرة الفصائل الفلسطينية على التجنيد واستيعاب الكوادر في صفوفها. وخلال صيف 2013، بدأت كتائب القسام مشروعاً جديداً لبناء سرايا “النخبة”، وكان لأبناء جيل التسعينيات دور هام في بناء هذه القوة.
عهد السنوار
مع بداية عام 2017، تولى يحيى السنوار، الأسير المحرر في صفقة “وفاء الأحرار” عام 2011، قيادة حركة حماس في غزة، وواجه واقعاً معقداً، فالعلاقات مع مصر في أسوأ أحوالها، والحصار الإسرائيلي على القطاع في أشد مراحله، والاقتصاد الغزي في حالة من العطالة، والأهم تصاعد الاحتجاج داخل المجتمع الغزي ضد الإدارة الحكومية التي عانت من ضائقة مالية خانقة بعد تدمير شبكة الأنفاق على الحدود مع مصر، مما حرمها من أهم مواردها المالية التي اعتمدت عليها في تمويل نفقاتها.
تحرك السنوار في أكثر من اتجاه، مع مصر دخل في مسار سياسي انتهى إلى تحسين العلاقات مع النظام الجديد في القاهرة، وبالتالي حدوث انزياح في ملف فتح معبر رفح أمام حركة الغزيين إلى الخارج. وعلى المستوى الداخلي، قاد السنوار جولة جديدة للمصالحة مع حركة فتح انتهت باتفاق الشاطئ الذي بموجبه تخلت الحركة عن الحكم في غزة وتسليمه إلى حركة فتح، وهي الخطوة التي لم يكتب لها النجاح، لكنها استطاعت تحقيق اختراق حقيقي في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية في غزة.
وبموازاة ذلك قام السنوار بمجموعة من الخطوات التي عززت من الأداء التنظيمي لحركة حماس وشفافية الجهاز الحكومي، كما قاد حملة علاقات عامة مع المجتمع الغزي، تضمنت حملات تواصل مع المكونات الاجتماعية المختلفة من العائلات والنشطاء وكوادر التنظيمات الفلسطينية، تركت في مجملها انطباعاً إيجابياً، فأصبح “مكتب السنوار” قبلة الشكوى أو طلب الحاجة من قبل عامة الناس.
فبعد انتهاء الخطر الأمني الذي شكلته العائلات في السنوات التي سبقت العام 2010، تحولت إلى وعاء للنشاط السياسي، بعد أن لجأ إليها كوادر حركة فتح كغطاء للنشاط السياسي في ظل المنع والتضييق الذي تعرضت له الحركة بعد سيطرة حماس على غزة وحظر أنشطة التنظيم ومنع كوادره من أي نشاط سياسي. كما اتخذت حماس نفسها مجموعة من الخطوات لتجاوز مرحلة المواجهة والتأثير على توجهات هذه العائلات عبر زيادة استقطاب أبنائها وضمهم إلى صفوف الحركة، مما أدى في النهاية إلى احتواء العائلات وتحويلها إلى عامل استقرار في غزة.
انهيار مشروع المصالحة تلاه قيام السلطة الفلسطينية في رام الله بفرض سلسلة من العقوبات على غزة، تضمنت تقليص مدفوعات رواتب موظفي السلطة في القطاع، فالاقتصاد الغزي تجرفت قطاعاته المختلفة وأصبحت دورته الاقتصادية تعتمد على رواتب موظفي السلطة في رام الله، ورواتب موظفي حكومة غزة، بالإضافة إلى رواتب موظفي وكالة “الأونروا” والمؤسسات الدولية الأخرى، فأي خلل في هذه الرواتب من المؤكد أن يؤدي إلى أزمة اقتصادية، وهذا ما جرى عند فرض العقوبات على قطاع غزة.
في ظل اشتداد الحصار الإسرائيلي والمصري، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة وتصاعد حالة الاحتجاج والتململ داخل المجتمع في غزة، جاءت مسيرات العودة في مارس/آذار 2018، لتدشن مساراً جديداً في أوضاع القطاع اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، بعد أن تقاطعت المسيرات بدماء الشهداء ومعاناة الأسرى مع الموت البطيء الذي تتعرض له غزة، وشقت مساراً جديداً في التخفيف من الحصار الإسرائيلي على القطاع عبر التفاهمات التي توصلت إليها الفصائل الفلسطينية مع الاحتلال، وبموجبها جرى إجراء تحسينات على عدد من الملفات كالكهرباء والسلع الواردة والمصدرة من غزة، والسماح بإدخال العمال الغزيين إلى الداخل المحتل، والموافقة على توزيع منحة قطرية بنحو 30 مليون دولار شهرياً لصالح عائلات غزة. أما الخطوة الأهم فكانت فتح معبر رفح، الذي سمح لاحقاً لظاهرة الهجرة من قطاع غزة واللجوء إلى الدول الأوروبية؛ بالتشكل.
عززت مسيرات العودة من حالة التوافق بين الفصائل الفلسطينية، بعدما اختبر كوادرها في المستويات المتوسطة والدنيا العمل الميداني المشترك. ومن رحم تجربة المسيرات، ظهرت فكرة “الغرفة المشتركة” للأجنحة العسكرية للفصائل التي حاولت من خلالها حركة حماس تطوير حالة العمل العسكري في غزة وتنسيقها، فالحركة التي سيطرت على غزة عام 2007، دعمت وسمحت بتطور العمل العسكري لدى الفصائل الأخرى ولم تحاول دمجها في إطار واحد، واكتفت بالتنسيق معها. ومع تعقد حالة الاشتباك مع الاحتلال، وظهور التباينات بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي حول الطريقة الأنسب للمواجهة، كان من اللازم التوجه لإيجاد إطار من التنسيق المشترك.
وفي ظل الهجمة التي تعرضت لها الحركات الإسلامية بعد تصاعد مد الثورات العربية المضادة، تصاعد اعتماد حماس على مقولة “المقاومة” في وجودها السياسي، هذه المقولة سمحت بإيجاد حالة من الالتفاف حول الحركة ومشروعها شملت فصائل وشخصيات ونشطاء فلسطينيين من مختلف التيارات الفلسطينية. كما ساعدت هذه المقولة في تعزيز عمليات التجنيد في صفوف حماس، فبات مُلاحظاً الحيزُ الكبير الذي تتخذه المواد العسكرية من مواد الحركة الإعلامية الموجهة للجمهور الفلسطيني، مما أدى في المحصلة إلى استمرار التوسع التنظيمي أفقياً وعمودياً.
وأكملت مسيرات العودة عملية تعرّف الغزيين على المناطق الحدودية، فحتى العام 2012، ظلت الحدود في وعي الغزيين مناطق خطرة من الأفضل عدم الاقتراب منها. وبعد إنهاء المنطقة العازلة، بدأت العلاقة بالتغير تدريجياً مع إنشاء مواقع للمقاومة الفلسطينية على طول الحدود مع الاحتلال. وبحلول العام 2015، شقت المقاومة الفلسطينية طريقاً عرف باسم “جكر” على طول الحدود، استخدمته في عمليات التأمين الحدودي. وجاءت مسيرات العودة لتعطي عملية التعرف على الحدود بعداً شعبياً بعد أن كسر الغزيون حاجز التعرف عليها، واختبروا التسلل داخل الأراضي المحتلة نفسها، فقد شهدت فترة المسيرات عددا من عمليات التسلل التي انتهى بعضها بالاشتباك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم محورية الحدث والنتائج التي أسفر عنها، فإن ثمنه كان مرتفعاً مع آلاف المصابين، خاصة المعاقين حركياً، وهو ما دفع أصواتا عدة للمطالبة بإعادة النظر في المسيرات وجدواها. وبقدر ما بنى هذا الحدث من خطوات ثقة وتعاون سياسي بين مكونات الفصائل الفلسطينية، بقدر ما أظهر من إشكاليات العمل المشترك؛ من غياب التواصل الفاعل والإشراك الحقيقي في التنفيذ والترتيب، والأهم أزمة الثقة التي ظلت قائمة خلال مسيرات العودة وبعدها.
ومع انتظام فتح معبر رفح، بدأت ظاهرة اللجوء والهجرة في قطاع غزة بالظهور. والحقيقة أن هذه الظاهرة لم تكن وليدة هذه الفترة، بل هي صفة ملازمة لواقع غزة منذ تشكله بعد النكبة، فالموجات الأولى من الهجرة الواسعة خرجت من القطاع منذ خمسينيات القرن الماضي باتجاه الخليج العربي للعمل في المهن المختلفة، وخاصة لدى المتعلمين منهم، واستمر هذا الاتجاه وإن بمستويات تنخفض تارة وتتصاعد تارة أخرى. ومع حلول العام 2016 وبعد انتظام فتح معبر رفح، تحولت إلى ظاهرة اجتماعية مع هجرة وخروج عشرات الآلاف من فئة الشباب الذين سلكوا طرقاً مختلفة للوصول إلى دول أوروبا الغربية.
شكلت هذه الظاهرة تحدياً معنوياً لحكم حركة حماس، فصعوبة رحلة اللجوء وموت العشرات من أبناء غزة خلالها، وفكرة اضطرار شباب البلد لتركها، وضعت الحركة في موقف حرج، زاد من ذلك تحول هذه القضية إلى مادة للتراشق الإعلامي والسياسي من قبل خصومها في حركة فتح.
بدأ الغزيون تشكيل مجتمعات جديدة في بلدان اللجوء، وتحديداً في دول مثل تركيا وبلجيكا والدول الإسكندنافية. ورغم الوجود التاريخي للفلسطينيين في الدول الأوروبية المختلفة، فإن اتصال القادمين الجدد من غزة مع هذه المجتمعات ظل في حده الأدنى، وهو ما أخر عملية اندماجهم في هذه البلدان، ومع ذلك حافظوا على اتصالهم مع المجتمع الغزي؛ معنوياً عبر تحوّل حياتهم ومعاشهم إلى نموذج محفز على الهجرة أو محاولة استنساخه لاحقاً في قطاع غزة نفسه، وسياسياً من خلال اتخاذ عدد من معارضي حماس من هذه الدول منبراً لمعارضة الحركة، عززته الاحتجاجات التي اندلعت في مارس/آذار 2019 وسميت بحراك “بدنا نعيش”، بعد أن سعت هذه الفئات معتمدة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ في تحريض الشارع الغزي ودفعه إلى الاحتجاج.
وبدأت غزة تشهد في هذه الفترة دخول أجيال جديدة من مواليد الألفية الذين تخرجوا من الجامعات وبدؤوا ينشطون اجتماعياً وسياسياً. امتلك هؤلاء مجموعة من الخصائص والميزات، على رأسها الحضور القوي لوسائل التواصل الاجتماعي في حياتهم، وتأثيرها في تفضيلاتهم الحياتية، فظهرت مجموعة من “المؤثرين” (إنفلونسرز) الذين تحولوا إلى رموز مؤثرة في الجوانب الاستهلاكية وقناة وصلٍ بين أبناء غزة وأساليب حياة مختلفة، ترافق ذلك مع ازدهار في المشاريع الترفيهية كالمنتجعات والمطاعم والمقاهي ومراكز التسوق المتوسطة والكبيرة التي بدأت بالظهور في مراكز محافظات قطاع غزة. كما ساهمت شبكة الإنترنت في خلق مسارات عمل وتوظيف تتجاوز الحصار الإسرائيلي عبر العمل عن بعد (فريلانسر) في مجالات البرمجة والترجمة والصوتيات وغيرها، وهذه ساهمت كذلك في دعم الوضع الاقتصادي.
كما أدى مسار التفاهمات بين حركة حماس والاحتلال إلى دخول قرابة 20 ألف عامل إلى الداخل المحتل والعمل هناك، بما عزز من الحالة الاقتصادية التي بدأت تتحسن جزئيا مدفوعة بالإجراءات الإسرائيلية والمصرية التي خففت من حدة الحصار، بالإضافة إلى ظهور نوع من الجو المشجع على فتح المشاريع الصغرى والمتوسطة، بعد ظهور عدد من المؤشرات السياسية والميدانية على رغبة حركة حماس في إرساء الهدوء وتجنب أي مواجهة كبرى مع الاحتلال. هذا التحسن الجزئي ظل أقل من تركة الحصار وأزماته التي احتفظت بموقعها المركزي كمؤثر في حياة الغزيين، فمعدلات البطالة ظلت مرتفعة، وحالة إفقار واستنزاف جيوب الغزيين ظلت قائمة ومستمرة.
استجابت غزة في مايو/أيار 2021 لنداء القدس وخاضت حربها الرابعة في أقل من 13 عاما. هذه الحرب منحت غزة ومقاومتها رصيداً معنوياً وسياسياً، إذ لم تؤسس لحظة “سيف القدس” لقرار الطوفان العملياتي فقط، وإنما أسست للحظته السياسية كذلك، كمعركة تتخذ من القدس شعاراً لها، وتسعى للتأثير في ساحات فلسطين الأخرى، وتراهن على حراكها لخلق واقع جديد تستطيع فيه الحركة إعادة رسم وتشكيل النظام السياسي الفلسطيني. كان لهذه المعركة وما خلقته من خيال وأفق؛ أثرها الهام في مستقبل القطاع الذي انتظر عامين قبل أن يختبر المعركة مجدداً، لكن على شكل طوفان.
غزة ليلة 6 أكتوبر
قطاع غزة في ليلة 6 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ضم مجتمعا نحتته سنوات الحصار والحرب، لكنه نجح رغم ذلك في الحفاظ على تماسكه وصموده، فلم تتصاعد مظاهر التفكك الاجتماعي والانهيار الأخلاقي، إذ ظلت معدلات الجريمة والعنف في حدودها الطبيعية، ولم تؤدِّ سنوات الحصار والحرب للعودة إلى سنوات الانفلات الأمني السابقة.
المناعة الاجتماعية كذلك ظهرت في استعصاء المجتمع الغزي على عمليات التجنيد الأمني للعدو والتي ظلت في حدودها الدنيا، وفقاً لما كشفته تحقيقات إسرائيلية لاحقاً، إذ أظهرت ضعف عمليات التجنيد البشري في المجتمع الغزي، كما ظهر في عدم انجرار المجتمع الفلسطيني بمكوناته المختلفة إلى مواجهة مع حركة حماس خدمة لأي أجندة سياسية.
في المقابل، تعرض المجتمع الغزي لعملية إفقار أدت إلى إنهاك وتقليص الطبقة الوسطى، وإرهاق الطبقات الأدنى، واستفحال البطالة لدى أجيال الشباب الجديدة التي وجدت في الهجرة خارج البلاد وتحمل تكلفة اللجوء التي وصلت إلى فقدان الحياة والسجن والضرب؛ مخرجاً من أزمات القطاع الاقتصادية.
لم يواجه المجتمع الفلسطيني حكم حركة حماس في غزة، لكنه لم يكن راضياً عما أنتجه من أزمة اقتصادية دفعته إلى مراكمة سلوك احتجاجي ظهر في تعبيراته البسيطة وحديثه اليومي وفي المظاهرات الاحتجاجية كذلك.
نجحت إسرائيل بآليات الحصار ودمار الحروب في إلحاق أضرار بالغة الأثر في النظام الاقتصادي الغزي الذي خسر جزءا كبيرا من قدراته الإنتاجية، وأصبح مكشوفاً عاجزاً عن توفير الغطاء اللازم لمجتمع يخوض مواجهة مفتوحة مع الاحتلال الإسرائيلي. وفاقم ضعف التجربة الحكومية في غزة وعجزها عن بناء نموذج اقتصادي مقاوم؛ من آثار الحصار الإسرائيلي، فعلى خلاف المساحات العسكرية والأمنية والاجتماعية، عجزت حماس عن بناء أي نموذج حقيقي في العمل الحكومي، باستثناء قدرته على الصمود والحكم بالحد الأدنى للموارد، فأحد أكبر إنجازات الجهاز الحكومي هو قدرته على إدارة قطاع غزة ومنع انهيار الأوضاع فيه بهذا الفقر من الموارد.
وعلى مدار العقدين الماضيين، ظهرت في غزة أجيال جديدة من الشباب، عاشت الجزء الأكبر من حياتها في ظل الحصار الإسرائيلي وما أنتجه من أزمات اقتصادية وحياتية، حاولت هذه الأجيال الحد من آثارها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت، فلم تزر هذه الأجيال مدن الضفة، ولم يصلِّ الجزء الأكبر منها في المسجد الأقصى، لكنها حققت نوعا من الاتصال مع هذه الأجزاء من فلسطين عبر شبكات التواصل، ولاحقاً في بلدان اللجوء والغربة التي التقى فيها الفلسطينيون من غزة لأول مرة مع الفلسطينيين الآخرين من الضفة والداخل والشتات.
استطاع الجزء الأكبر من هذه الأجيال إنهاء التعليم الجامعي والاتصال وظيفياً ومعرفياً مع العالم الخارجي، وعززت حركة الهجرة خارج غزة من هذا التوجه. وتمكنت حماس من تحقيق اختراق وحجز حصتها من هذه الأجيال من خلال مقولة “المقاومة” التي استطاعت التأثير أو استقطاب جزء من هؤلاء الذين شكلوا مادة كتائب القسام وجنودها. ومع ذلك جاء الاحتجاج الأهم على أداء الحركة السياسي والحكومي من هذه الأجيال، سواء على وسائل التواصل الاجتماعي أو في الشارع.
سياسياً، نجحت حركة حماس في العبور من الأزمات التي ظهرت بعد فوزها بالانتخابات التشريعية عام 2006، واستطاعت تأسيس حكم في قطاع غزة، ارتكزت فيه على جهاز حكومي، وتنظيم مدني يعمل بمجموعة واسعة من المؤسسات التي احتلت موقعاً مهماً في المجتمع الفلسطيني وعلى رأسها المسجد، وجهاز عسكري حقق مستويات متقدمة في الاحتراف والمهنية ويحميه جهاز أمني.
وخلال رحلتها في السيطرة على حكم غزة، احتوت حركة حماس الأصوات المعارضة الفصائلية والشعبية، واستطاعت بناء إجماع وطني فصائلي وسياسي داخل القطاع، ارتكز على المقاومة التي تحولت إلى أهم مكونات شرعية حكمها.
ومع ذلك وجدت حماس نفسها محاطة بمجموعة من المعضلات، فهي حركة مقاومة تقاتل الاحتلال، لكنها التنظيم الحاكم المجبر على إدارة شؤون أكثر من مليوني فلسطيني في ظل حصار إسرائيلي وعملية تدمير ممنهج لمقدرات بقاء قطاع غزة. وفي واقع سياسي مسدود مأزوم بمقولات الانقسام الفلسطيني، حاولت حماس الخروج من أزمتها بالتصالح مع حركة فتح تارة وبمواجهة الاحتلال الإسرائيلي تارة أخرى، لكنها ظلت عاجزة عن إحداث أثر جوهري وحقيقي. ووجدت الحركة في “سيف القدس” بوابة لمسار جديد حاولت فيه التقدم خطوة إلى الأمام وتصدّرَ قضايا الساحات الفلسطينية الأخرى، سعياً وراء تشكيل الواقع السياسي الفلسطيني بعيداً عن حالة الاستعصاء القائمة، فظهرت مشاريع مثل “الجبهة الوطنية”، وجرى العمل على تعزيز مشروع “الغرفة المشتركة”.
خلال حكم حماس، تمكنت المقاومة الفلسطينية من تحقيق قفزات نوعية في بناء ومراكمة “القوة”، زادت خلالها عمليات تجنيد المجتمع الفلسطيني، ومأسسة الجهاز العسكري وزيادة قدراته التسليحية. واحتفظت حماس بموقع مركزي في عملية صنع قرار السلم والحرب في غزة، لكنها أنشأت “ديمقراطية البنادق” التي احتفظت فيها الفصائل الفلسطينية بحرّية العمل العسكري والأمني، فاحتفظت بأجنحة عسكرية مسلحة نسقت مع القسام والأجهزة الأمنية المختلفة. وإلى جوار الأجهزة الأمنية والعسكرية، تمكنت حماس والفصائل الفلسطينية من بناء طبقة من الكوادر التنظيمية التي ارتبطت وظيفياً بها، لتصبح “البيروقراطية التنظيمية المفرغة” عماد العمل السياسي والتنظيمي والإعلامي في غزة، والأداة الأهم التي تحركت بها الفصائل الفلسطينية.
بهذا المشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعسكري، دخلت غزة حرب طوفان الأقصى التي تعد نقطة تحول مفصلية في تاريخ المدينة، تضاف إلى لحظة دمارها في الحرب العالمية الأولى على يد الجيش الإنجليزي، ولحظة النكبة التي خسرت فيها الجزء الأكبر من أراضيها، ولحظة النكسة التي احتُلت فيها وتقلصت أراضيها لصالح الاستيطان اليهودي.