باريس– مع اختلاف أساليب التهديد وأسباب الاعتقال، تتعامل الحكومة الفرنسية بطريقة أكثر حدة مع الناشطين والمتضامنين مع القضية الفلسطينية في الفترة الأخيرة، بالتزامن مع مرور عام على اندلاع الحرب في قطاع غزة.
ومن خلال منع التظاهر أو تُهَم الدعوة إلى الإرهاب والإخلال بالنظام العام، يثير تزايد قمع أنشطة الدعم لفلسطين في فرنسا قلق المدافعين عن الحريات العامة والجمعيات المناهضة لإسرائيل المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار.
وقد استدعى النظام القضائي الفرنسي عددا من السياسيين والنقابيين والناشطين والفنانين إلى المحاكمة، بعد إدلائهم بتصريحات لصالح القضية الفلسطينية أو إدانتهم للسياسة الإسرائيلية.
محاكمات بالجملة
وتعتبر رئيسة حزب “فرنسا الأبية” في الجمعية الوطنية ماتيلد بانو والنائبة الفلسطينية في البرلمان الأوروبي ريما حسن من أبرز الشخصيات التي تم استدعاؤها من قبل الشرطة القضائية في إطار التحقيقات بتهمة دعم الإرهاب في أبريل/نيسان الماضي.
وتواصلت النائبة الفرنسية مع الجزيرة نت للتنديد بالهجوم الذي تعرض له معاونها هشام الطويلي الإدريسي -الحائز على المركز الثاني في جائزة “كليمنصو للبلاغة” التي تنظمها وزارة القوات المسلحة- من قبل مدير معهد العلوم السياسية في باريس لويس فاسي عقب اتصاله بالمدعي العام عبر المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية لوقف سلسلة المظاهرات المناهضة لإسرائيل داخل المؤسسة.
وبينما كان المعهد يحتفل بـ”يوم أفريقيا” الخميس الماضي، قام الطلاب بتحويل القاعة إلى ساحة احتجاج سياسي مؤيد للفلسطينيين، بهتافات “إسرائيل قاتلة” و”نتنياهو، فلسطين ليست لك”.
ومن المقرر إحالة السلطات الفرنسية للناشط المؤيد لفلسطين إلياس دي إمزالين إلى القضاء في 23 أكتوبر/تشرين الأول الجاري عقب استخدامه كلمة “انتفاضة” في مظاهرة بباريس، واتهامه بالدعوة إلى انتفاضة مسلحة.
وتعليقا على ذلك، قالت رئيسة منظمة “أوروـ فلسطين” الناشطة أوليفيا زيمور، التي اعتقلت بسبب مقالاتها ونشاطها بتهمة التحريض على الإرهاب، إن كلمة “انتفاضة” أصبحت محظورة بشدة خلال الاحتجاجات رغم أن التسمية تعود إلى “انتفاضة الحجارة في فلسطين”.
واستنكرت زيمور، في حديث للجزيرة نت، ما يجري بالقول إن “استمرار إسرائيل في استخدام الأسلحة ضد المدنيين لمدة عام لا يصدم أحدا، بل ويستمرون في الادعاء بأن لها الحق في الدفاع عن نفسها، لكن عدم إدانة حماس باعتبارها منظمة إرهابية، أو التحدث عن حق الانتفاضة أو تحرير فلسطين، فهو أمر مرفوض بشدة في فرنسا”.
وعن الشعارات المستخدمة في المظاهرات، أوضحت زيمور أن “الإبادة الجماعية” لا تزال محل خلاف، “لأنهم يعتبرون أنها مخصصة للإبادة الجماعية لليهود فقط، وكل من يستخدمها خارج هذا السياق يُتهم بمعاداة السامية”.
في المقابل، تعتبر الناشطة اليهودية أن المظاهرات في لندن أكثر تحررا من القيود المفروضة في فرنسا، إذ “لا يوجد لديهم رهاب الإسلام أو ابتزاز معاداة السامية”.
تجريم التضامن
وتعتبر باريس العاصمة الوحيدة وفرنسا الدولة الأوروبية الوحيدة التي حظرت المظاهرات لمدة 3 أسابيع تقريبا قبل أن تستسلم الحكومة بعد فوز الجمعيات المؤيدة لفلسطين بالاستئناف أمام المجلس الإداري ضد هذا المنع، وإصرار الناشطين على التظاهر حتى مع فرض غرامات قدرها 135 يوروا وتعرضهم للاعتقالات.
وتجدر الإشارة إلى أن تنظيم الاحتجاجات الداعمة لغزة يُسمح به في أغلب الأحيان داخل أحياء الطبقة العاملة مثل ساحة الجمهورية أو باربيس وكليشيه، في حين يُمنح حق التظاهر للإسرائيليين أو الداعمين لإسرائيل في أرقى الأحياء، مثل جادة الشانزيليزيه أو ساحة تروكاديرو القريبة من برج إيفل الذي أضيء بألوان إسرائيل مرتين، تحت حراسة أمنية مشددة.
كما تم تقييد عمل المنظمات والجمعيات الداعمة للقضية الفلسطينية بالحظر طوال فترة الألعاب الأولمبية بباريس، ومُنع رفع العَلم الفلسطيني في أي مناسبة رياضية.
وفي حديث للجزيرة نت، حاولت النائبة الأوروبية ريما حسن، الحفاظ على تفاؤلها بشأن فعالية المظاهرات، سواء الاتحادات الطلابية التي طالبت بإنهاء الشراكة الأكاديمية مع إسرائيل، أو الحملات في الأوساط الرياضية خلال الألعاب الأولمبية في باريس، فضلا عن دوائر الناشطين حيث صوّتت أشهر نقابة عمالية فرنسية (سي جي تي) بإنهاء الشراكة مع إسرائيل بالنسبة لشركة تاليس للأسلحة.
وترى ريما أن التعبئة تلعب دورا مهما للغاية، مستشهدة بجنوب أفريقيا، حيث أدت حملات المقاطعة ضد نظام الفصل العنصري ومظاهرات المواطنين إلى تحويل موقف الدول التي كانت حليفة لهذا النظام بشكل تدريجي، ثم الاعتراف بحقوق مجتمع السود في البلاد.
وأكدت ريما حسن التي تشارك في الكثير من المظاهرات الداعمة لفلسطين في العاصمة الفرنسية، أن هناك وعيا حقيقيا في مختلف مجالات الحركة المدنية والنضالية.
وقالت إن “هذه المعركة هي الأصعب عموما للفوز بها لأنها معركة الرأي، وأعتقد أن الفلسطينيين اليوم انتصروا فيها، وهم على حق لأن النضال الذي يخوضونه عادل ومستند على وقائع موثقة ومثبتة”.
تخويف وقمع
ومع وجود تحريض قوي على قمع التعبئة وتأطير إعلامي ينقل لتوجهات الحكومة، كان وزير العدل إيريك دوبوند موريتي أول من أرسل تعميما إلى المدعي العام الفرنسي لتحذيره من احتمالية وقوع أعمال داعمة للإرهاب في البلاد. وبعد ذلك بيومين، أرسل وزير الداخلية السابق جيرالد دارمانان برقية إلى المحافظ يطلب منه حظر جميع المَسيرات المؤيدة للفلسطينيين.
ونتيجة لذلك، قامت الشرطة الفرنسية بتنفيذ حملة واسعة من الاعتقالات والتفتيش، ولا سيما مع اتهامات معاداة السامية أو الدعوة إلى الإرهاب، بهدف تخويف الناس وثنيهم عن الخروج إلى الشوارع للتظاهر، وفق رئيسة منظمة “أوروـ فلسطين”.
ومثالا على ذلك، أشارت أوليفيا زيمور إلى القمع الذي واجهه المتظاهرون الذين أرادوا الوصول إلى السفارة الإسرائيلية في باريس، قائلة “لقد تم منعنا بالقوة لوقف صرخاتنا في أماكن لا يُسمع فيها صوتنا بتاتا، لأنه إذا كنت تدعو إلى إنهاء الإبادة الجماعية، فهذا خطاب كراهية بالنسبة لهم”.
وفي السياق ذاته، تعتبر الناشطة الفرنسية أن الحكومة تشجع إسرائيل معنويا وماديا، وحتى أخلاقيا، وخاصة بعد استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ خلال حفل افتتاح الأولمبياد، أو إعطاء وسائل الإعلام المحلية مصداقية للأخبار الكاذبة مثل الاغتصاب الجماعي من قبل حماس أو قطع رأس 40 طفلا أثناء تنفيذ عملية طوفان الأقصى.
وترى النائبة والمحامية الفلسطينية ريما حسن أن استمرار المظاهرات يمكن أن يقود السياسيين إلى تغيير مواقفهم لأنه “بمجرد تبخر الفقاعة الغربية الداعمة، لن يكون لإسرائيل أي حلفاء على الإطلاق”.
وأكدت أنه “قد تم سحب إسرائيل بالفعل كمراقب من الاتحاد الأفريقي، وأدانت معظم دول البريكس الإبادة الجماعية، وكل ذلك يثبت ضرورة خوض معركة الرأي من الدول الأوروبية بشكل خاص”.