بعد مرور عام على معركة طوفان الأقصى، ما زال كثير من الفلسطينيين والعرب يشيدون بها باعتبارها نقطة مفصلية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وخطوة نحو التحرير.
وتأتي هذه الذكرى وقد تكبد قطاع غزة كثيرا من الخسائر في الأرواح والممتلكات، وبات مضربا للمثل عند قادة إسرائيل وحلفائهم للتدمير والخراب.
ورغم قتامة المشهد وألمه -وفق عديد من المراقبين- فإن ما أنجزته المقاومة خلال هذا العام فاق تصورات أنصارها وأعدائها على حد سواء.
فقد ذكرت صحيفة واشنطن بوست -في أحد تقاريرها- أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ما زالت راسخة في مواقعها بعد مرور عام من الحرب الإسرائيلية التي أعلنت أن القضاء على حماس أهم أهدافها.
ولا يمكن بحال من الأحوال غض النظر عن الهوس الإسرائيلي بما يمكن أن تفعله المقاومة في ذكرى الطوفان والسابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد زاد الجيش الإسرائيلي تحصين مواقعه داخل القطاع، خاصة محوري فيلادلفيا (جنوب) ونتساريم (وسط)، ومنذ أيام تعمل قوات الاحتلال على توسيع المحور لمواجهة أي طارئ قد يحدث في ذكرى السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتأتي عملية الاحتلال شمالي القطاع، ليلة الخامس من الشهر الجاري، لتشير بوضوح إلى تمكن المقاومة الفلسطينية من كي الوعي الإسرائيلي، وتؤكد أن الحديث عن هزيمتها والقضاء عليها مجرد تصريحات لكي يطمئن الجمهور الإسرائيلي، ولكن الميدان يثبت عدم دقتها.
وما زالت الحرب في أوجها وهي بعيدة عن الحسم حاليا، وكلما طال أمدها زاد احتمال اتساعها وهو ما يحدث حاليا، ولكن هناك عديدا من المؤشرات لصالح المقاومة، خاصة في ظل أسلوب الاستنزاف الذي تتبعه مع الاحتلال.
دحرجة الرؤوس
يجمع عديد من المراقبين على أن حماس أحبطت مخطط إسرائيل، فقد اتخذت قرارا بشن حرب خاطفة ومدمرة على القطاع المحاصر، وجاء هجوم المقاومة ليخلط الأوراق كافة، ويجر إسرائيل للدخول في مربع رد الفعل والاستنزاف المتراكم والمتدحرج بشريا وعسكريا واقتصاديا، وفق ما يراه المحلل السياسي عزام أبو العدس.
ويمكن رصد الخطة الإسرائيلية عبر تصريحات مسؤولين إسرائيليين في أبريل/نيسان 2023، عندما قال وزير الأمن إيتمار بن غفير إن “الوقت قد حان لتتدحرج الرؤوس في قطاع غزة”.
وذكر بن غفير أن “الحكومة التي أنا عضو فيها يجب أن ترد بقوة على إطلاق الصواريخ من غزة. صواريخ حماس تحتاج لرد يتجاوز قصف الكثبان الرملية ومواقع غير مأهولة، حان الوقت لتتدحرج الرؤوس”.
وبعدها بـ30 يوما، توعد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش بـ”احتمال إعادة احتلال قطاع غزة، كحل جذري للاشتباكات المتكررة مع الفصائل الفلسطينية في القطاع”.
وأشار سموتريتش حينها إلى أنه “من المحتمل أن يأتي الوقت للعودة إلى داخل غزة وتفكيك حماس ونزع سلاحها”.
وبعد أشهر من الطوفان الفلسطيني، تدحرجت رؤوس كثيرة بمواقع القيادة في إسرائيل، إذ قدم عديد منهم استقالاتهم بشبب الإخفاق الذي مني به الاحتلال ذلك اليوم، فقد استقال رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) أهارون هاليفا، واللواء يوسي شارييل قائد وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200. كما استقال عدد كبير من المسؤولين بمكتب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي. ومن المنتظر استقالة آخرين ما أن تضع الحرب أوزارها.
وعلى الجانب المقابل، نقلت صحيفة واشنطن بوست عن قادة في حركة حماس قولهم إن رئيس المكتب السياسي يحيى السنوار “لم ينجُ فحسب بعد مرور عام على السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل إنّه يضع أيضا الأساس لإعادة ظهور حماس”.
الاستمرار بالقتال
استهدفت المقاومة بمعركة الطوفان تحرير الأسرى ورفع الحصار عن القطاع ووقف الاعتداءات على الحرم القدسي، لكن مسار الحرب تطور لتصبح حربا وجودية. فالمقاومة لن ترضخ لمطالب الاحتلال وتسعى للبقاء وتحقيق أجندتها، بينما يسعى الاحتلال لضمان بقائه وعدم زواله وضمان أمنه في الوقت ذاته، ويرى أنه لن يتحقق له ذلك إلا من خلال حرب الإبادة التي يمارسها بغزة.
وتظهر تصريحات المسؤولين الإسرائيليين نظرتهم لغزة والتعامل معها، فبعد أيام قليلة من طوفان الأقصى، أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت أنه لا بد من حصار غزة لمحاربة “الحيوانات البشرية”، وقال “لا كهرباء ولا طعام ولا وقود”!
وأواخر أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنص من التوراة في أثناء إعلانه العدوان على غزة، قائلا “يجب أن تتذكروا ما فعله العماليق بكم”.
بينما ذهب وزير التراث عميحاي إلياهو، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، للحديث عن إسقاط قنبلة نووية على القطاع الفلسطيني ضمن “أحد الاحتمالات” في الصراع الحالي.
لذا، فلن تحسم الحرب بين الطرفين إلا بعدم قدرة أحدهما على الاستمرار فيها وقبول شروط الطرف الآخر.
“قد مسه الجنون”
اعتمد الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2006 نظرية رئيس هيئة الأركان حينذاك دان حالوتس، وهي الاستخدام المفرط للقوة ولمزيد من القوة العسكرية بطريقة تشي للعدو بأن “صاحب البيت قد مسه الجنون”، ضاعف الاحتلال بعد معركة طوفان الأقصى من استخدام هذه النظرية، لذلك فقد قصف القطاع بشكل لا يتخيله العقل، وسعى لإفهام المقاومة أنه ممكن أن يذهب لأبعد من ذلك.
لكن نظرية الجنون لم تجد نفعا مع المقاومة في غزة، ويمكن القول إنها ارتدت على الاحتلال، إذ لم تعد لديه أوراق يساوم بها المقاومة بعد ما أظهره من شراسة في العدوان على القطاع.
بدأت إسرائيل حربها على قطاع غزة معتقدة أنها قادرة على إنهاء وجود حركة حماس هناك وفرض شروطها ورؤيتها على القطاع ومستقبله.
وما لم تضعه إسرائيل في حسبانها هو اتساع نطاق الحرب ودخول عدة أطراف فيها، مما قد يحولها لحرب إقليمية تؤثر على إسرائيل ومستقبلها لعدة سنوات.
ولئن بدت الضفة هادئة وغير مشاركة في معركة طوفان الأقصى، فإنه على الرغم من إجراءات السلطة الفلسطينية وإسرائيل منع أي عمل مقاوم، فإن المقاومة هناك اشتد ساعدها واستوت على سوقها وبدأت تأخذ أبعادا جديدة وتشارك بفعالية في المقاومة، وهي جبهة مرشحة للانفجار في أي وقت وهي أصعب الجبهات على الاحتلال وسياسته.
فقد بدأ حزب الله بدعم المقاومة في غزة مستخدما إستراتيجية التنقيط التي هجرت سكان شمال إسرائيل، ودفعت نتنياهو وحكومته لاتخاذ قرار شن الحرب على لبنان.
ورغم ما قد بدا نصرا سريعا لقادة إسرائيل في لبنان بعد تفجيرات أجهزة النداء “بيجر” و”ووكي توكي” واغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله وعديد من الصف القيادي، فإن الحزب ما زال قادرا على إمطار إسرائيل بالصواريخ، التي اتسع مداها لاحقا لتصل إلى حيفا وتل أبيب، وليس سكان الشمال فحسب.
كما تمكن الحوثيون من منع الملاحة في البحر الأحمر دعما وإسنادا لغزة المحاصرة، والتأثير على ميناء إيلات الإسرائيلي. ولم يقتصر موقف جماعة الحوثي على إغلاق طريق الملاحة، بل هاجمت إسرائيل بمسيرات وصواريخ وصلت تل أبيب، التي تعد قدس أقداس إسرائيل.
ومع ذكرى انقضاء عام على بدء هذه المعركة، يقف العالم على قدم واحدة بانتظار الرد الإسرائيلي على القصف الإيراني ودخول الحرب طورا جديدا سعت الأطراف كافة لتجنبه، إلا أن المنطقة قد نزلت إلى أتون حرب قد تتسع أكثر مما هو متوقع.
ولا يمكن بحال من الأحوال إغفال أن إسرائيل حكومة وجيشا يتحركون تحت ضغط الوقت، وأنهما يسعيان إلى تقديم صورة نصر للإسرائيليين بعد عام من أطول حرب تخوضها إسرائيل منذ نشأتها عام 1948.
ويرى مراقبون أن إسرائيل قد تختار ذكرى معركة الطوفان للرد على إيران “في محاولة لكي يكون هذا التاريخ فرصة لتحقيق إنجاز كبير يغطي على الفشل الذي منيت به إسرائيل”.
من جانبه، يرى المحلل السياسي سعيد زياد أن هجوم الاحتلال على شمال قطاع غزة في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري وتنفيذ هجوم برى يهدف إلى صنع “صورة رمزية للمجتمع الإسرائيلي بأنه جيشه يقاتل في الشمال والجنوب، ولا يزال بعد عام كامل يستطيع الحضور في أكثر مناطق غزة رمزية وتاريخا”.
إبداع المقاومة
رغم كل ما قامت به إسرائيل من تدمير وقتل في غزة، فإن العام ينقضي وما زالت المقاومة في القطاع الفلسطيني قادرة على خوض المعركة وتكبيد العدو مزيدا من الخسائر.
وقد عبّر عن ذلك قائد ما تسمى فرقة غزة سابقا اللواء الإسرائيلي غدي شمني بقوله إن “الوضع في غزة معقد وصعب.. أهداف الحرب لم تتحقق، ولم يتم إخضاع حماس، ولم نتمكن من إعادة الأسرى”.
وفي اليوم المتمم لعام من الحرب الإسرائيلية على غزة، ما زالت المقاومة قادرة على تفجير دبابات وخوض معارك مع جنود الاحتلال وتفجير منازل مفخخة بقوات الاحتلال وقصف مستوطنات غلاف غزة.
ولئن قال أحد مساعدي نتنياهو إنه يشعر بأنهم “منتصرون”، وفقا لموقع أكسيوس الأميركي، فإن للشارع الإسرائيلي رأيا مختلفا. فقد أظهر استطلاع للرأي قامت به هيئة البث الإسرائيلية أن 73% من الإسرائيليين يعتقدون بالفشل أمام حماس.
بينما قال 86% من الإسرائيليين إنهم غير مستعدين للعيش في مستوطنات غلاف غزة بعد انتهاء الحرب.
إضافة لذلك، فبعد عام على الطوفان بات جيش الاحتلال يعاني من نقص القوى البشرية، وقد حذّر تقرير لهيئة الأركان العامة في مارس/آذار الماضي من نقص حاد في الموارد البشرية، بسبب مقتل مئات الجنود وإصابة الآلاف غيرهم، وقال إن هناك حاجة إلى 7 آلاف جندي لنقلهم إلى جبهات القتال.
لذا، فقد تفجرت قضية تجنيد الحريديم خلال الحرب على غزة، واضطر الجيش الإسرائيلي لتجنيد طالبي اللجوء الأفارقة في صفوفه، وفقا لصحيفة هآرتس.
ويمكن القول إن النقص في عدد الجنود يعوق مخططات إسرائيل في غزو لبنان والقتال بالضفة، لذا يلجأ الاحتلال للاعتماد على الغارات الجوية، لكنها لا تحسم حربا.
وهو الأمر الذي لم تعانِ منه المقاومة، فهي قادرة على تعويض خسائرها البشرية وتجنيد مقاومين جدد، وهو ما ظهر في مقطع فيديو لكتائب القسام قبل شهر حين ذكر أحد مقاتليها أنه من دفعة تجنيد عام 2024، ولئن كانت حماس المحاصرة في قطاع غزة قادرة على تجنيد مقاتلين، فلن تجد قوى المقاومة بالضفة مشكلة في تجنيد مزيد من المقاتلين في صفوفها.
وترى “واشنطن بوست” أنّ حماس “تركز بلا هوادة على تحقيق الاكتفاء الذاتي” من التسلح، وتشير إلى أنّ هذا يشمل “القدرة على إنتاج الأسلحة والمتفجرات الخاصة بها، وتنفيذ عمليات معقدة تشمل الآلاف من المشاركين، مع الحفاظ على السرية التامة”.
وتقول الصحيفة الأميركية إنّ حماس “أنفقت سنوات في إتقان آلة حرب قادرة على تصنيع ذخائرها الخاصة، واتخاذ قرار تنفيذ العمليات داخليا”.
وهذا الوضع يجعل المقاومة في غزة قادرة على خوض معركة طويلة تستنزف فيها الاحتلال، الذي شكا في بعض مراحل الحرب من نقص الأسلحة لديه عندما قيل إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أخّرت بعض شحنات الأسلحة.
كما أن تقييد بعض الدول الأوروبية بعض الصادرات لإسرائيل -في محاولة منها لمجاراة الضغط الشعبي عليها- دفع نتنياهو لمهاجمة هذه الدول واعتبرها داعمة “للإرهاب”.
الحاضنة الشعبية
لا يمكن بحال من الأحوال عقد مقارنة بين الحاضنة الشعبية للاحتلال والحاضنة الشعبية للمقاومة، ويعد وجود حاضنة شعبية في أثناء الحرب ركنا أساسيا في الحرب وإدارتها ورفع معنويات الجنود والمقاتلين.
فمنذ طوفان الأقصى، شهد المجتمع الإسرائيلي انقساما حاد بين مكوناته باتت تنعكس على موقفهم من الحرب وكيفية إنهائها. وقد عبرت الصحفية الإسرائيلية آيلانا دايان بالقول إن “الذكرى السنوية الأولى لأحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول تمر في ظل انقسام كبير بالشارع، والدليل أن تخليد الذكرى يجرى في مسارين مختلفين”.
وقد كشف استطلاع داخلي للرأي أن نحو ربع الإسرائيليين فكروا في الهجرة للخارج خلال العام المنصرم، بسبب الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة بعد طوفان الأقصى.
وأظهر هذا الاستطلاع -الذي أجرته قناة “كان” التابعة لهيئة البث الرسمية الإسرائيلية- أن 23% من الإسرائيليين فكروا خلال العام المنصرم (منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024) في المغادرة بسبب الوضع السياسي والأمني الراهن.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي، كشفت معطيات رسمية -صدرت عن دائرة الإحصاء المركزية- عن تزايد ملحوظ في ظاهرة هجرة الإسرائيليين للخارج، حيث غادر أكثر من 40 ألفا خلال الأشهر السبعة الأولى من 2024.
وعام 2023، هاجر نحو 55 ألفا و300 إسرائيلي، مقارنة بـ38 ألفا هاجروا عام 2022.
وذلك على خلاف الحاضنة الشعبية في غزة وفلسطين عموما، فلم يقبل الآلاف من سكان قطاع غزة ترك منازلهم والنزوح كما طالبهم جيش الاحتلال وهو الأمر الذي أفسد على الاحتلال مخططه بإفراغ شمال القطاع والسيطرة عليه.
كما أن سنوات الاحتلال ومقاومته جعلت الفلسطيني أكثر تمسكا بأرضه ومقتنعا بخطاب المقاومة وخيارها.
فقد أظهر استطلاع للرأي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، ارتفاع نسبة تأييد العمل المسلح لمواجهة الاحتلال، إذ يرى أكثر من 60% من الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع أن “المقاومة هي الطريق الأمثل لإنهاء الاحتلال”.
وأعربت الأغلبية العظمي من الذين استُطلعت آراؤهم بالضفة وغزة أن قرار طوفان الأقصى كان صحيحا، وقال 72% ممن شملهم الاستطلاع إنهم يؤيدون هذه العملية.
وقد تستمر الحرب عدة أشهر أخرى ويتمكن الاحتلال من تدمير مزيد من القطاع والضغط على حاضنة المقاومة، إلا أن ذلك سيدفع “جحافل من الشباب إلى أحضان حماس” كما تقول صحيفة واشنطن بوست التي نقلت عن مسؤول استخباراتي عربي تأكيده أن “الناس الذين فقدوا عائلاتهم لديهم دافع واحد هو الانتقام”.
وإزاء ذلك كله تتحول حماس “إلى مرحلة جديدة من الصراع، يمكنها فيها أن تستفيد بسهولة أكبر من طاقات أعضائها الجدد” حسبما ترى الصحيفة الأميركية.