ضمن تقرير لها عما تعانيه العائلات في غزة، أوردت صحيفة غارديان واقع عائلة البرعاوي في ظل حرب إسرائيل على غزة، حيث بدأت بصباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين استيقظت نعمة البرعاوي مبكرا لتجهيز أطفالها للمدرسة وتجهيز الخبز كالعادة.
ففي تمام الساعة 6:29 صباحا، سمعت السيدة البالغة من العمر 36 عاما صوت الصواريخ التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) باتجاه إسرائيل من على مقربة من منزلها في بيت لاهيا شمالي القطاع.
وسرعان ما انتشرت شائعات بأن حماس اخترقت حدود إسرائيل، فقررت نعمة أن تبقي أطفالها الخمسة في المنزل، ومن دون أن تعلم التفاصيل، كانت متأكدة من أن رد فعل إسرائيل سيكون مروعا، فباشرت بجمع الوثائق المهمة وحزمت بعض الملابس.
وفي البيت المجاور، كان يوسف البرعاوي، ابن أخيها البالغ من العمر 22 سنة، يستعد للذهاب إلى جامعة بيت لاهيا حيث يدرس الطب، عندما سمع صوت الصواريخ، وقال معلقا على هذه اللحظة “تغيرت بعدها حياتنا كلها، وما زلنا لا نعرف إن كان ما نعيشه اليوم حلما أم واقعا، لأن ما شهدناه يفوق الخيال”.
“لم يبق أحد”
وبعد أسبوع، أمر الجيش الإسرائيلي سكان بيت لاهيا بإخلاء منازلهم، فتوجهت نعمة إلى الجنوب مع أطفالها لكن زوجها، وهو مزارع يبلغ من العمر 40 عاما، بقي لرعاية والديه المسنين اللذين لم تسمح لهما حالتهما الصحية بالانتقال، كما بقي يوسف أيضا آملا بأن يفيد الآخرين بصفته طبيبا شابا.
ونجا يوسف في الأسابيع الأولى من الحرب، وبعد وقف إطلاق النار في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني، وفي الساعة 6:20 صباحا في أول يوم استؤنفت فيه الأعمال العدائية، غادر يوسف منزل جده بحثا عن اتصال أفضل بالإنترنت في مبنى قريب، وفجأة هز الأرض انفجار كبير.
أصيب يوسف برضوض وبقي في مكانه بضع دقائق مرتعشا تحسبا لوقوع غارة ثانية، ولكن لم تكن إصاباته خطيرة، فهرول عشرات الأمتار التي كانت تفصله عن منزل عائلته ليجده حطاما، ووصف تلك اللحظة للغارديان قائلا: “تجمدت في مكاني ولم أعد أشعر بأي شيء، وظللت أنظر إلى الركام الرمادي، أصبح منزل عائلتي قبرا”.
كان بداخل المنزل والدا يوسف وشقيقه وجده و3 من أعمامه وعمته و8 من أبناء وبنات أخيه وبنات أخته، وكانت حصيلة الشهداء من عائلة البرعاوي يومها 30 شهيدا.
وأكمل يوسف: “ذهبت وتوضأت بصمت وصليت، ولكنني لم أستطع التكلم، لم تأت سيارات الإسعاف، ولكن بعض الناس تجمعوا حول المنزل، وانتظرنا حتى صباح اليوم التالي ثم بدأنا في استخراج جثث عائلتي. لقد كان من الصعب التعرف عليهم”.
وفي رفح، في أقصى جنوب قطاع غزة، عثر أحد أقارب نعمة عليها في خيمتها لينقل لها رسالة مقتضبة مفادها أن “شيئا ما قد حدث” وأن “أشخاصا من عائلة البرعاوي قد استشهدوا”، وأمضت نعمة ساعة محمومة تحاول فيها معرفة المزيد، تتنقل مترنحة من خيمة إلى أخرى وهي تنتحب، وبعد أن عثرت على ابن عم آخر، وتوسلت إليه بأن يخبرها بالحقيقة، جاء الرد المرير: “لم يبق أحد”.
“لن ننسى ولكن علينا المضي قدما”
مر العام ثقيلا على أفراد العائلة، ولا يزال الناجون من عائلة البرعاوي يتذكرون حياتهم قبل الحرب ومنازلهم المزدحمة المفعمة بالحيوية، وحدائقهم الملونة بالخضروات والأزهار، ومطاعم بيت لاهيا ورحلاتهم إلى الشاطئ، والولائم الكبيرة والأعياد والمناسبات التي كانت تجمع العائلة.
وقالت نعمة للصحيفة: “في الأسبوع الذي تلا استشهادهم كانت كل مشاعري ميتة ولم تكن لدي أي إرادة لفعل أي شيء، ولكن كان عليّ حماية أطفالي ودعمهم.. أخبرتهم أن والدهم في الجنة وأنني سأعيد لهم كل شيء كما كان في السابق”.
وأضافت: “أكثر ما يقلقني الآن هو أن تستمر هذه الحرب لوقت أطول، وأخشى أن أفقد أحد أبنائي أو أن أبقى وحدي، لا يمكننا أن ننسى ولن ننسى، ولكن علينا المضي قدما”.
أما يوسف فلا يزال يحاول إعادة بناء حياته من جديد، ويتطوع طالب الطب في مستشفى في خان يونس حيث يعيش الآن، وقال: “أعاني في كل ثانية ودقيقة من حياتي، أشعر بالألم والقهر والظلم والتعب، ولكنني ما زلت أحمد الله أنني على قيد الحياة”.
مثل هذه العائلة الكثير
وقد كشف تحقيق أجرته وكالة أسوشيتد برس مؤخرا، وفق التقرير، أن أكثر من 60 عائلة فلسطينية استشهد فيها ما لا يقل عن 25 شخصا -وفي بعض الحالات قتل 4 أجيال من العائلة نفسها- جراء هجمات وقعت بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2023، وهي الفترة الأكثر دموية ودمارا في الحرب.
وفقد ما يقرب ربع تلك العائلات أكثر من 50 فردا، وقد أبيدت عوائل أخرى ولم يبق أحد من سلالتها لتوثيق عدد شهدائها، خاصة أن تبادل المعلومات أصبح أكثر صعوبة مع استمرار الحرب ونزوح 80% من سكان غزة.
وأخبر رامي عبده، رئيس مرصد حقوق الإنسان في جنيف، صحيفة الغارديان بأن فريقه وجد أن 365 عائلة فقدت 10 أفراد أو أكثر منذ بداية الحرب وحتى أغسطس/آب 2024، وهناك 2750 عائلة ممن فقدوا 3 أفراد على الأقل، وقال: “كان الجزء الأكبر من عمليات القتل الجماعي في الأشهر الثلاثة الأولى، ولكنها استمرت بوتيرة أبطأ بعد ذلك”.