الطوفان والنبوءة والساعة … مرحبًا بك في الأزمنة الاستثنائية!

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 24 دقيقة للقراءة

النبوءات أمل الشعوب، فالسياسة لا تتحرّك بلا أحلام ترسم المستقبل

ثلاثة أحداث كبار أتت إلى عالمنا من حيث لا نحتسب، في عام 2020م أصبح الوباء الفيروسي (كورونا) حديث الناس وشغلهم الشاغل، وبدا لهم أنّ نظام حياتهم الاعتيادي قد يتعطّل في أية لحظة، ولسبب غير مرئي (مجرد فيروس!). أُجبر الجميع على تقييد حركتهم في البيوت، وتغيير أشكال وجوههم بالكمامات الطبية، أُغلقت المساجد وتعطّلت المناسك المقدّسة وتباعد المصلّون، وأصبح السفر فكرة مستبعدة، واضطرب نظام شحن البضائع، وشهدنا حوادث غريبة من قرصنة الدول والتنافس الطبي وضخّ السيولة المالية بلا حساب لإنقاذ الاقتصاد. كانت كورونا حدثًا يمثّل بدقّة ما اشتهر بين علماء الدراسات المستقبلية باسم “البجعة السوداء”: ظاهرة غير متوقّعة يمكن أن تقلب الموازين كلها.

بعد عامين من بداية النشاط الفيروسي العالمي، وتحديدًا في 24 فبراير/شباط من عام 2022، استيقظ العالم على اجتياح الدبابات الروسية لشرق أوكرانيا، مصحوبة بخطاب يعلن فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن عملية عسكرية تهدف إلى تجريد أوكرانيا من سلاحها واجتثاث النازية.

كان هذا متوقّعًا وغير متوقّع؛ متوقّعًا من جهة التعارض الحتمي بين الجغرافيا الأوراسية التي يطمح إليها القيصر الجديد ودولته، وبين التوسّع التدريجي للناتو في محيط الأمن الإقليمي الروسي. كان ضمّ شبه جزيرة القرم نموذجًا (بُروفا) صغيرًا لما يمكن أن يحدث، ولكن، كعادة العقل الذي تأسره العادة، ويتمرّن على قياس المستقبل القريب بالماضي القريب، لم يكن أحد يتوقّع أن يحدث ذلك فعلًا! كان هذا كما يسمّيه علماء الاستشراف فيلًا أسود في الغرفة، يراه الجميع ولكنّهم ببساطة يتجاهلونه.

في السادس من أكتوبر 2023 لم يكن أحد يعرف بالضبط ما الذي كان يدور في عقول القادة الأربعة الذين توافقوا على خطة السابع من أكتوبر: هل كان شريط الأحداث اللاحقة متوقّعًا لديهم؟ هل فاجأهم حجم نجاح العملية؟ هل توقّعوا ردًّا مختلفًا من أعدائهم وحلفائهم؟ ما الذي كان يسكن قلوبهم وعقولهم ساعة ضغط الزرّ الذي غيّر طبيعة الصراع تغييرًا لا رجعة فيه، وسحب المسمار الذي كان يلجم كلّ حبال التوتّرات المكتومة عن الانفلات في ظرف إقليمي ودولي، سياسي واقتصادي واجتماعي، يقف أصلًا على رؤوس أصابعه؟ لم يعد هذا السؤال مهمًّا، فالأمر تحوّل من قرار إلى واقع، ولم يعد السؤال سؤال الإرادة، بل أصبح سؤال القدر!

فمع الحروب والتحولات الضخمة يصبح كلّ شيء ممكنًا، ولا تعود معادلات الماضي بالضرورة حَكَمًا على الآتي. يرتفع منسوب اللايقين، وتتضاءل القدرة على التنبؤ، إذ تكثر العوامل والمفاعيل وتتعقّد علاقاتها، وتصبح للشذوذات العشوائية والقرارات الشخصيّة آثارها الهائلة، ويعاد تعريف ما هو “العادي” من جديد.

في هذه الأزمنة غير العاديّة، تعود السياسة إلى تعريفها كامتداد للحرب، ولا يعود الواقع انعكاسًا لحجم القوى وتوازناتها الموضوعيّة فقط، بل يصبح مسرحًا لصراع الإرادات؛ وفي مقابل تراجع فعالية التنبؤات، يتسارع صراع النبوءات.

بحثًا عن الأمل والخلاص: بين الإرادة والقدر

كلّما تعاظمت الإرادة، تضاءلت في الأذهان قوة القدر، وكلّما تضاءلت تعاظم شأن القدر

شهد القرن الماضي موجة واسعة من التشكيك في علامات الساعة، سواء في صفوف العلماء ” ” أو الكتاب “العلمانيين”. وعلى اختلاف مصادرهم المعرفية، فقد اشترك الفريقان في عدّة أمور، أولها: شعورهم بأنّ الأوصاف الواردة في أحاديث آخر الزمان لا تتناسب مع المستجدات التقنية في عصرهم، فعصرنا عصر السيارات والطائرات والطاقة النووية، لا عصر الخيول والسيوف كما يوحي به ظاهر تلك النصوص؛ وثانيها: ميلهم إلى الاعتقاد بأنّ العقل “العلمي” يأبى مثل هذه الخوارق، سواء على مستوى الظواهر الطبيعية أو “السنن” الاجتماعية.

وثالثًا: ملاحظتهم أنّ تاريخ المسلمين –وتاريخ الأمم الأخرى– مليء بالتعلّق بالخلاص المصاحب لنبوءات آخر الزمان، فكم من طائفة اعتقدت في مهديّ تبيّن أنّه ليس مهديّ آخر الزمان، بل ربما ليس على سبيل الهداية أصلًا، وكم مرّة استثمر السياسيون في تلك الاعتقادات الشعبية، فصنعوا النبوءات سعيًا وراء سلطة أو ثروة.

ورابعًا: شعورهم بأنّ هذا التعلّق الخلاصي يعيق فاعلية الشعوب وعملها الجماعي في سبيل انتزاع حقوقها أو تحسين أوضاعها، فتتعلّق بالقدر أو بشخص المخلّص وترضى بالمقسوم في انتظار الفرج؛ وخامسًا: يرافق ذلك عند الإصلاحيين النقد الحديثي لتضخّم دور الأحاديث الواهية والموضوعة في مدونة الملاحم والفتن، وهو نقد سيتمادى حتى يصل إلى حدّ ردّ الأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي ونزول عيسى عليه السلام أو التشكيك فيها، باستعمال مناهج نقد المتن والاعتماد الحصري على النصّ القرآني.

لم ينكر هؤلاء الساعة أو أشراطها، ولكنّ مؤدّى كلامهم هو تعطيل مفعولها، عبر التأكيد على أنّها حدث مباغت قد يحدث غدًا وقد يحدث بعد مئة ألف سنة، حتى قال قائلهم إنها ستأتي “على غير انتظار من أحد منهم، ولا أدنى علم”.

وفي مقابل التيار الإصلاحي والعلماني، حافظ العلماء التقليديون من الخط المذهبي والسلفي على السواء على مسافة آمنة، تحفظ لهذه النصوص الثابتة في المدونة الحديثية حرمتها، ولكن مع نبرة تميل إلى التحذير من العبث بأشراط الساعة والتسرّع في تنزيلها على الواقع؛ وباستثناء عدد قليل من الأعمال العلمية الجادة في هذا الحقل، تُرك هذا الحقل ميدانًا للهواة: طبعات شعبية عليها صور الأفاعي والنجمة السداسية والوحش القادم ذي العين الواحدة.

في سنوات الثورات العربية، وعندما بلغ الأمل مداه بقدرة الشعوب على انتزاع حقوقها والتخلّص من حكام الملك الجبري، بدا أنّ كلّ من يتحدّث عن قرب الساعة أو تحقّق علامات قربها مخرّف أو غارق في الأوهام، بل لم يجد علماء كبار غضاضة في الاستشهاد ببيت أبي القاسم الشابي، الذي كان محلّ استشكال وتحفّظ شديد من قبل العلماء عادة:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة * فلا بدّ أن يستجيب القدر

فكلّما تعاظمت الإرادة، تضاءلت في الأذهان قوة القدر، وكلّما تضاءلت تعاظم شأن القدر.

أبو القاسم الشابي (الجزيرة)

تكسّرت أمواج التفاؤل على صخرة الواقع المرّ (أو القدر)، وحلّت سنوات الخوف والجوع الطويلة. وفي هذه السنوات، لم يجد أيتام الثورات العربية ملجأ في أحاديث الساعة والفتن المصاحبة لنهاية الزمان، بل شهدت تلك السنوات نوعًا من الردّة الجماعية والخروج أفواجًا من الأطر الدينية التقليدية، وصولًا إلى حالات من الشتات والحيرة واللاأدرية، وانفكاك السلوك عن نظام الاقتناعات (وهو أمر سيرى المشتغلون بعلم الساعة أنّه مصداق للوصف النبوي لحال الناس بعد مرحلة الدهيماء: يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرًا أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل).

وفي تلك السنوات، بدا أنّ المخيال الاجتماعي عن المستقبل قد أصبح في قبضة كتب الخيال العلمي، التي تقدّم أطروحة التقدّم بثوب خلّاب، ينسج للبشر ذات الآمال الخلاصية بثوب دنيوي، بفعل البشر لا بفعل الربّ، لتأمل البشرية –أو تخشى– عصر الروبوتات والذكاء الصناعي القادم، وأشكال الحياة خارج الكوكب، وتطوّر تقنيات الجينوم والخلايا الجذعية والنانو تكنولوجي وغير ذلك مما يقع في برزخ بين الواقع والخيال، والعلم والسحر.

قوةّ النبوءات التي لا تقبل النسيان:

غير أنّ قوّة النبوءات ظلّت هناك، محاطة بغلالة من التشكيك، إلى الحدّ الذي صار معه الكلام فيها مخاطرة غير مأمونة العواقب، تخرج صاحبها من دائرة القول السديد والرأي الرشيد في الأوساط العامة. ولكن، في تلك العتمة الباهرة، المسكوت عنها، ظلّت النبوءات تداعب خيال الجيل المحطّم الباحث عن أمل وخلاص جماعي يخرجه من الهاوية التي وقع فيها.

كانت فلسطين هي الميدان الأمثل، وكان الشيخ بسام جرار بطل التجربة الأولى. أما فلسطين، فهي حالة استثنائية فوق الحالات، إذ تحيط بنزول الأمة الإسرائيلية غرب النهر وقتال المسلمين لهم نصوص قويّة واضحة وصحيحة، أبرزها آيات سورة الإسراء وأحاديث قتال اليهود في آخر الزمان، ونزول الخلافة في بيت المقدس.

وقد حافظت قضيّة الصراع في فلسطين على طابعها القيامي (المرتبط بعلامات الساعة) في خطاب الحركات الإسلامية، التي كانت قد استبعدت معظم مفردات آخر الزمان وأشراط الساعة من خطابها الأساسي، اللهم إلا ما كان في كتبها التأسيسية من تبشير بعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.

الشيخ الفلسطيني بسام جرار (مواقع التواصل الإجتماعي)

وأما نبوءة زوال إسرائيل في عام 2022م، فقد كان لها قوّة خاصّة، فهي نبوءة قديمة لم تصدر في لحظة عاصفة، بل عبّر عنها الشيخ قبل أكثر من 30 عامًا، نتيجة منهج خاصّ في حساب العدد القرآني، كما أنّه عبّر عنها بصورة “علمية” غير جازمة، فعنون كتابه الصادر في 1992 بـ”زوال إسرائيل عام 2022 نبوءة أم صدف رقمية؟”، ولكنّها في نفس الوقت نبوءة محدّدة تحديدًا زمانيًّا دقيقًا.

هذا فضلًا عن أنّ الشيخ بسام، وإن لم يكن صاحب منصب علمي مؤسساتي، فإنّه محلّ تقدير عند المشتغلين بالتفسير وعلوم القرآن، أي أنّه لا ينتمي إلى طبقة الهواة وأصحاب الكتب الصفراء. مع اقتراب عام 2022م، كانت النبوءة قد حظيت بحصة من الانتقاد من قبل العلماء لاعتمادها على منهج العدّ وحساب الجُمّل غير المتفق عليه، أو لوقوعها في فخّ “الانحياز الإيجابي”، أي البحث عن الأدلّة التي تؤكّد النتيجة المقرّرة سلفًا، ولكنّها في المقابل كانت قد حصلت على نوع من السكوت الإيجابي، بل والتأييد والمصادقة من قبل عدد من العلماء الآخرين مثل الشيخ أحمد نوفل، أستاذ التفسير في الجامعة الأردنية.

إبّان معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021، بدا أنّ النبوءة قد اكتسبت نوعًا من المصداقية الواقعية، فقد مثّلت هذه الحرب لحظة تحوّل فارقة في طبيعة المواجهة مع الكيان المحتل، ثمّ جاءت أحداث الحرب الروسية الأوكرانية لتزيد الأمر معقولية. غير أنّ عام 2022 مرّ دون أن تزول إسرائيل.

قبل أن نتابع ما جرى لصاحب النبوءة والمتحمّسين لها، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مفاعيل هذه النبوءة في إنتاج الواقع الذي شهدته فلسطين في عامي 2021 و2022 كانت حاضرة. فللنبوءات القدرة على تحقيق نفسها، وليس بالضرورة من خلال التصديق والتسليم التام بها، بل قد تقع النبوءة موقع القبول في القلوب من دون العقول، وقد يميل البعض إلى تصديقها من دون الاعتماد التام عليها، وقد تفتح في العقول مسارًا استشرافيًّا ممكنًا يوحي للفاعلين بأنّ الانتصار ممكن ووشيك.

ومع ذلك، يبدو أنّ هذه النبوءة قد أثرت تأثيرًا مباشرًا في تزايد عدد منفّذي العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، فلم يكن الاعتقاد بقرب زوال إسرائيل دافعًا إلى انتظار تحقق النبوءة بلا عمل، بل باعثًا على المشاركة في إنجاز هذا الوعد ونيل شرف الانضمام إلى معركة الحق.

لم يكن غريبًا أن يتصدّر أحد المعلّقين على القناة الـ12 الإسرائيلية للقول بأنّ نبوءة بسام جرار قد ساهمت في زيادة وتيرة العمليات الفردية في الضفة الغربية في الربع الثاني من عام 2022، وهو أمرٌ سيجد مصداقه أيضًا في الشعارات التي استعملتها فصائل المقاومة الفلسطينية في خطاباتها المصوّرة، إذ صارت مفردات آيات سورة الإسراء مفردات مركزيّة في الخطاب المقاوم، فـ”إساءة الوجوه” و”العباد أولو البأس الشديد” و”ليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرة”، أصبحت أكثر حضورًا وتكرارًا في الإصدارات المرئية الرسمية وغير الرسمية، من دون أن يستتبع ذلك بالضرورة تعيين تاريخ الانتصار.

في الكتاب الجماعي المعنون بـ”عندما تفشل النبوءات” استعراض لحالات متعدّدة من السلوك الاجتماعي النفسي لمصدّقي النبوءات بعد فشل نبوءاتهم، اعتمادًا على نظرية التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance).

غلاف كتاب عندما تفشل النبوءة
غلاف كتاب عندما تفشل النبوءة (الجزيرة)

يتعلّق الأمر هنا بنبوءات محدّدة تحديدًا دقيقًا (مثل نهاية العالم في سنة معيّنة أو ظهور المخلّص في الوقت الفلاني، ونبوءة جرار تقع ضمن هذه الفئة)، ويتعلّق بنبوءات فشلت فشلًا واضحًا، إذ مرّ التاريخ المنتظر من دون أن تقع.

تبدو حالة بسام جرار نموذجًا مثاليًّا لهذا النوع، إذ بدا لمصدّقي النبوءة والمتحمّسين لها، أنّ مقدّمات زوال إسرائيل قد بدأت فعلًا، وأنّ العالم كلّه ونظامه الدولي يتغيّر وأنّ الإقليم مشتعل والحروب في كلّ مكان، والمقاومة تتطوّر في أدواتها وقدراتها على إيذاء إسرائيل، الكيان الهشّ على المستوى الإستراتيجي أصلًا.

بالنسبة للكثير منهم كان لسان حالهم يقول: ربما يكون الشيخ مخطئًا في فهم ما يمثلّه رقم 2022، ربما هو سنة البداية التي سنؤرخ منها لزوال هذا الكيان. أحد المؤيدين لهذا الرأي هو الشيخ المعروف كمال الخطيب، الذي وجّه تغريدة كتبها في أغسطس 2023 إلى فضيلة الشيخ بسام جرار، ليقول له: “كل المؤشرات والدلائل والقرائن والمعطيات والإرهاصات تؤكد صدق ما قلته وما استشرفته، وإنها الأحداث بدأت منذ 2022 تختمر بشكل متسارع بل ومذهل. من أبناء شعبنا وجلدتنا من أساؤوا إليك وتطاولوا عليك وهمزوا ولمزوا فيك جهلًا أو بسوء نية. . . وقريبًا سيدرك هؤلاء أنك أصبت فيما قلت”.

كمال الخطيب
كمال الخطيب نائب رئيس الحركة الإسلامية بفلسطين (الجزيرة)

النبوءات أمل الشعوب، فالسياسة لا تتحرّك بلا أحلام ترسم المستقبل. وعلى خلاف ما دار في الأوساط المنتقدة لأطروحة بسام جرار، لا يبدو أنّ المتحمّسين للنبوءة قد أصيبوا بالإحباط فضلًا عن الشكّ في صدق القرآن.

أحد المُعلّقين على موقع أكس يقول عبارة تعبّر عن شعور جماعي واسع، فقد كتب في أواخر 2022 قائلاً: حتى لو لم تسقط إسرائيل هذا العام، فسأصدق نبوءة الشيخ أحمد ياسين بأنّها ستسقط في عام 2027 أو قبله. الحديث عن هذه النبوءة الأخيرة (نبوءة الشيخ أحمد ياسين)، كان مقدّمة حلقة من بودكاست بلا حدود، الذي يعدّه ويقدّمه الإعلامي الشهير أحمد منصور على صفحته الخاصّة، حيث جعل حلقته   تأكيدًا لمعقولية هذه النبوءة من خلال حشد من التنبؤات الإستراتيجية والسياسية الكبرى، والنبوءات الفكرية والدينية الإسلامية والتوراتية أيضًا، وحظيت الحلقة حتى الآن بـ8 ملايين مشاهدة على موقع يوتيوب.

بم تخبرنا المؤشرات؟

الطوفان والنبوءة بم تخبرنا المؤشرات؟

مؤشر للبحث عن علامات الساعة في غوغل تريندز

في هذه الصورة، بحثتُ على أداة Google trends عن بحث مستخدمي محرك البحث الأشهر عن “علامات الساعة” كمؤشر إحصائي ضمن مناهج البحث في السلوك الديني غير المباشر. ولا شكّ في أنّ أوّل الملاحظات في هذا الرسم البياني، هي أنّ ذروة البحث عن “علامات الساعة” من قبل مستخدمي غوغل كانت متزامنة مع السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبفارق يساوي الضعف تقريبًا عن أقرب ذروة لها.

فبحسب ترتيب نقاط البحث، حقق البحث عن علامات الساعة في الأسبوع التالي لـ7 أكتوبر 100 نقطة (أي أكبر عدد من مرات البحث)، ثمّ في فبراير/شباط 2023 (إثر زلزال تركيا وشمال سوريا) بواقع 56 نقطة، ثمّ 48 نقطة في مارس/آذار 2020، أي وقت إعلان وباء كورونا، أما حرب سيف الأقصى (مايو 2021) فقد حققت 31 نقطة، وتفوقت عليها بداية الثورة السورية (مارس 2011) بواقع 36 نقطة، ولا يبدو أنّ الحرب الروسية الأوكرانية قد حفزت المستخدمين على البحث عن علامات الساعة.

قد تتغيّر النتائج بتغيّر الكلمات المفتاحية، فمثلًا يعطي البحث عن “علامات يوم القيامة” درجات أكبر لكورونا في مقابل طوفان الأقصى، كما أنّ البحث عن بعض المفردات الفرعية ضمن حقل علامات الساعة مثل “الملحمة الكبرى” يتصاعد إلى ذروته في أغسطس/آب 2013 (بالتزامن مع فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة) ويعود إلى الصعود مع إعلان تنظيم الدولة الإسلامية للخلافة ويستمرّ في التذبذب ليصعد مجددًا في أواخر 2016 (مع انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية) وفبراير  2018، مع بدء عملية جيش النظام السوري في الغوطة الشرقية (التي تشير الأحاديث النبوية إلى أنها فسطاط المسلمين يوم الملحمة الكبرى).

وفي هذه البحوث (على اختلاف المفردات المستعملة)، يبرز في جغرافيا البحث عن علامات الساعة اسم ليبيا بصورة ملحوظة، ومعها سوريا والسودان والأردن وفلسطين ومصر.

إذَن، من المؤكد أنّ البحث عن علامات الساعة بالجملة أو بالتفصيل يرتبط بالأحداث الكبرى، التي ترفع مستوى اللايقين، وترفع معه مشاعر الخوف والأمل؛ مما يدفع الناس إلى البحث عن مصادر أخرى للمعرفة والطمأنينة، ولإشباع الفضول اتجاه المستقبل.

قد يُشير الرسم البياني السابق إلى لحظية هذا التفاعل، إذ تميل الشريحة العامة (لاحظ أنّ الشريحة العامة هي من تبحث عن عنوان علامات الساعة أو علامات يوم القيامة) إلى الاهتمام بهذا الموضوع فور وقوع الحدث، ثمّ يضعف هذا الاهتمام مع الوقت، ويبقى في خلفية الرأس.

وعلى الرغم من أنّ كتب المتقدّمين والمعاصرين حول علامات الساعة لا تخلو من المواعظ الأخلاقية الناشئة عن فتن العصر وفساد الأخلاق وتغيير الطبيعة البشرية وكثرة الربا وظهور المسخ، فإنّ البحث لا يُظهر صعود المفردات ذات الصلة؛ أي أنّ الغالب على شريحة المهتمّين بالمسألة هو الجانب السياسي.

وفي هذا الجانب السياسي تبرز مجموعة مفردات مثل “الدهيماء” “انحسار الفرات” “المهدي”، وتأخذ كلّ مفردة إيقاعها الخاصّ. من اللافت مثلًا أنّ البحث عن “الدهيماء” قد تصاعد في أكتوبر 2023 ولكنه بلغ ذروته في نوفمبر/تشرين الثاني، مما يشير إلى تحول سلوك المستخدم من البحث العام حول علامات الساعة إلى البحث التفصيلي في العلامات التي يرى أنها ترتبط بالحدث أو المرحلة الجارية.

لابدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ مستوى الاهتمام -بالعموم- متصاعد، فحدثٌ مثل الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا، لم يكن ليحصل على المرتبة الثانية (بواقع 56 نقطة)، لولا أنه يأتي في سياق مرحلة يتصاعد فيها الشعور باقتراب علامات الساعة الكبرى، وهذا التصاعد العام يظهر بوضوح أكبر في الرسم البياني التالي الذي يرصد البحث عن علامات الساعة باللغة الإنجليزية، حيث اخترت البحث عن”Signs of The Hour” (أي علامات الساعة) بوصفها أشهر المفردات التي يستعملها المسلمون المتحدثون بالإنجليزية. وإضافة إلى ملاحظة التصاعد التدريجي للمنحنى (مع التذبذب بطبيعة الحال)، فإنّ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا قد حصلت على نقطة الذروة، مع وجود تشابهات مع سلوك المستخدم العربي.

الخروج من الكواليس إلى مقدّمة المسرح

لم تكن النبوءات يوماً بعيدة عن السياسة، سواء أكانت رؤى وأحلاماً تبشّر القادة بالنصر أو تنذرهم بالهزيمة أو وعوداً سماوية ذات نبرة واثقة (كما نقرأ في قصص الإمبراطور قسطنطين وفسبازيان أو حتى جنكيز خان) أو كانت نبوءات تستمدّ مصداقها من التاريخ على غرار ما كتبه إيهود باراك لصحيفة يديعوت أحرونوت عن لعنة العقد الثامن (التي سيستشهد بها أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام).

كما أنّ النبوءات ترسم لدى الأمم نوعًا من الهوية السياسية وترسم مخيالًا للعلاقات الدولية سواء بوعي أو بغير وعي، ويمكن ملاحظة التجليات الواضحة لذلك في إيمان الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان بالملحمة الكبرى (هارمجدون) والحديث الصريح للرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد عن تهيئة الأرضية للظهور القريب للمهدي المخلص.

على أنّ ما كان يبدو فلتات لسان أو تهامسًا في الغرف المغلقة قد انتقل إلى المنابر السياسية بصورة لا لبس فيها، فقد قال بنيامين نتنياهو بتاريخ 25 أكتوبر الماضي “سنحقق نبوءة أشعياء، لن تسمعوا بعد الآن عن الخراب في أرضكم، سنكون سببًا في تكريم شعبكم، سنقاتل معًا وننتصر معًا” مستحضرًا أبعادًا كونية للصراع “نحن أبناء النور وهم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام”.

وتحدّث أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام صراحة في اليوم الـ100 عن دفاع المقاومة عن المسجد الأقصى ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة مشاريع التهويد الصهيوني قائلًا: “وأحضرت البقرات الحمر تطبيقًا لخرافة دينية مقيتة”.

على ألسنة الفاعلين، لا تعود النبوءات أقدارًا تتنظر التحقّق بفعل فوق تاريخي، بل يصبح الفاعل هو أداة تحقّقها، كما يوحي به خطاب نتنياهو السابق “سنحقّق نبوءة أشعياء” وكما يظهر صريحًا في الدعاء المشهور الذي ينتشر على صفحات التواصل الاجتماعي للقائد إبراهيم السنوار “اللهم أنفذ بنا قدرك فيهم بالزوال”.

دلالات تزايد حضور النبوءات في التدين العام

إذا كان المصنّفون القدماء في علم الساعة وأشراطها يجعلون من غايات تأليفهم إبراز أعلام النبوة وصدق الإخبارات النبوية عن المستقبل ودورها في تعزيز الإيمان واليقين، فإنّ تزايد حضور علامات الساعة لدى الشرائح المجتمعية المختلفة يشير في مرحلتنا هذه إلى تحولات أوسع وأعمق.

فكما أسهمت الوحشية الإسرائيلية والإسناد الغربي لها في نسف عقود من الدعاية الثقافية للأجندة الغربية وقيمها الحقوقية، دافعةً الكثيرين إلى إعادة النظر في مرجعيّتهم الدينية وموقفهم من الحضارة المعاصرة (حضارة الدجال كما يسميها البعض!)، فإنّ استحضار علامات الساعة يعني أيضًا الخروج من دعاية التقدّم اللانهائي الذي رسمته المخيّلة العلمانية عن مستقبل الإنسان، والعودة إلى مربّع الصراع الحضاري على أساس ديني عميق.

تسكن النبوءات الدينية موقعًا عميقًا في الوجدان، ولكنّها –بحكم ما يصاحب نظام الأقدار الحكيم من غيب- تبقى بمنأى عن التفعيل الفوري، حيث يتناوب على الفاعل نظامان للإدراك والفهم، نظام يرتبط بالواقع ومفاعيله ونظام آخر يقترب من لغة النبوءات الدينية؛ وبقدر ما يقترب الواقع من تصديق النبوءة، يدخل الفاعل في نظام فوق تاريخي (أو فلنقل: في زمن استثنائي) يسهل معه أن يتصوّر الفاعل حصول تحولات جذريّة في الواقع، وهو ما يجعله مهيّأ لامتصاص الصدمات القاسية التي يمكن أن تصاحبها، وتُهيِّئَه لأنماط جديدة من الفعل.

فإذا كانت المعرفة الجيدة بالتاريخ الماضي تدفع الفاعلين إلى قياس الآتي على الماضي، وبالتالي إلى خفض سقف توقّعاتهم اتجاه المستقبل، باعتبار أنّ “الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء” كما يقول ابن خلدون، فإنّ النبوءات تفتح للفاعلين نافذة للتطلّع إلى مستقبل مختلف، لا يُقاس على ماضٍ؛ ببساطة، تدخلنا النبوءات في زمن استثنائي وتُوجِد بذلك بشرًا استثنائيين أحيانًا.

تبرز التحولات الجارية في الحقل الديني كيف تؤثّر الأحداث الكبرى في تشكيل الوعي بما يتجاوز قدرة الخطابات المختلفة التربوية والدعوية، وبما يقطع في أيام أشواطًا تتجاوز ما تنجزه تلك الخطابات في عقود، فاستعادة الوعي بالأمة والمقولات الدينية المختلفة أصبحت أوسع حضورًا مما كانت في سياق يمكن تسميته بـ”التربية الجماعية”، إذ يعيش آلاف الشباب والشابات تحولات جذرية في الوعي والخطاب والسلوك الديني، لا تزال ملامحها ترتسم وتتشكّل وتتخمّر.

وتبقى مسألة الساعة أحد عناصر هذا التحوّل، وهي مسألة بحاجة إلى مناهج تستوعب العلاقة بين الأمر القدري والشرعي وتضع شروطًا لتنزيل النبوءات على الواقع، وتطوّر فقهًا خاصًّا لهذا الحقل، وهو أمر سعت إليه ولا تزال تسعى العديد من المشاريع الجادة التي تناولت الساعة وأشراطها وتحولات الأيّام والسنين بعين النصوص الشرعية؛ وفي المقابل، زلّت فيه الكثير من الأقدام.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *