جرس إنذار يدق مع كل شكوى جديدة تصل إلى الخط الساخن لقوى الأمن الداخلي اللبناني 1745، حاملاً معه صرخات مكتومة ومعاناة كبيرة لضحايا تتعرض للعنف على يد أقرب الناس لها.
79 حالة سجلتها القوى الأمنية اللبنانية خلال شهر مايو فقط على الخط الساخن المخصص للعنف الأسري، في حين تم تسجيل 56 في يناير و40 حالة في فبراير و69 حالة في أبريل، ما يؤكد على الحاجة الملحة لاتخاذ خطوات جادّة لوقف هذه الظاهرة المقلقة.
وشهدت حالات العنف الجسدي تصاعداً ملحوظاً، حيث ارتفع العدد من 45 حالة في يناير إلى 60 في أبريل ثم 66 في مايو، كما سجّلت 5 حالات عنف جنسي في مايو، بينما كان هناك حالة واحدة في كل من أبريل ويناير. أما فيما يتعلق بحالات العنف المعنوي فسجّلت 8 حالات في الأشهر الثلاثة، ولم تسجّل أي حالة عنف اقتصادي في مايو وأبريل، بينما سجّلت حالة واحدة في يناير.
وتتيح المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي الخط الساخن 1745 لتلقّي الاتصالات المتعلقة بحالات العنف الأسري. وتشمل هذه الاتصالات بلاغات عن العنف الجسدي، الجنسي، المعنوي، والاقتصادي. ويمكن للضحية أو أفراد الأسرة أو الشهود التبليغ عن هذه الحالات. حيث يساعد تحديد هوية الجاني أو الجانية من قبل الضحية على فهم الديناميات الأسرية التي تؤدي إلى العنف.
“ما خفي أعظم”
ضحايا العنف الأسري هن غالباً نساء يكابدن بصمت في مجتمع يعاني من تهميشهن، إذ تشير بيانات قوى الأمن إلى أنه في شهر مايو كان الزوج مسؤولاً عن 47 حالة عنف، والآباء عن 16 حالة والأمهات عن 3 حالات والإخوة عن 3 حالات، و5 حالات مسؤول عنها أشخاص آخرين.
وفي شهر يناير، كان الزوج هو الجاني في 34 حالة عنف، والآباء عن 7 حالات أما الأمهات فمسؤولات عن حالة واحدة والأخوة عن 3 حالات، و11 حالة ارتكبت من قبل أشخاص آخرين.
أما في شهر أبريل، فقد كان الزوج مسؤولاً عن 45 حالة عنف، والآباء عن 9 حالات والأخوة عن حالتين، و13 حالة ارتكبها أشخاص آخرين.
وتعرّف الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية، البروفيسورة وديعة الأميوني، العنف الأسري في حديث لموقع “الحرة” بأنه “الإساءة أو الأذى الذي يتعرض له الأفراد، ويتخذ أشكالاً متعددة تشمل العنف الجسدي والنفسي والجنسي والاقتصادي”.
وتحذّر المحامية في جمعية “كفى”، فاطمة الحاج من أن الإحصاءات الرسمية حول العنف الأسري لا تعكس الواقع، مؤكدة أن العدد الفعلي للضحايا يفوق بكثير ما يتم الإبلاغ عنه.
أجرت “كفى” تحليلاً للاتصالات الواردة على هذا الخط الساخن، فتبيّن وفقاً لما تقوله الحاج أن “95 في المئة من هذه الاتصالات قامت بها نساء، والـ 5 في المئة المتبقية لرجال، وتحليل قضايا الرجال الذين يتشكون أظهر أنه إما الابن يقوم بتعنيف والده أو العكس، مما ينفي مقولة أن الرجال يتعرضون للعنف على أيدي النساء كما تتعرض النساء للعنف.”
وتقول الحاج في حديث لموقع “الحرة” إن “من لديهن علم بهذا الخط المخصص للإبلاغ عن العنف الأسري شريحة قليلة جداً من النساء، فأغلب اللواتي يعلمن به هن من سبق أن تواصلن مع جمعيات نسائية وأبلغن عن تعرضهن للعنف، وهناك من يتوجهن مباشرة إلى المخفر في حال تعرضهن للعنف لفتح محضر خلال 24 ساعة، أو يتوجهن إلى النيابة العامة، وهذه الشكاوى ليس لها إحصاء، كما أن عدد كبير من النساء يتعرضن للعنف من دون أن يبلغن”.
كما تحذّر مديرة جمعية “مفتاح الحياة”، الأخصائية النفسية والاجتماعية، لانا قصقص، من أن عدد الشكاوى المُقدمة في قضايا العنف الأسري لا يعكس الواقع الفعلي، مشيرة إلى وجود شريحة واسعة من النساء اللواتي يتعرضن للعنف دون إبلاغ السلطات لأسباب ثقافية واجتماعية، وكذلك الحال فيما يتعلق بالعنف الممارس على الأبناء.
وتؤكد قصقص أن عدم التبليغ لا يعني عدم ممارسة العنف، بل قد يعود إلى عدم وعي الضحية بحقوقها، أو خوفها من المجتمع، أو شعورها بالعجز عن كسر حلقة العنف.
وتشدد على أهمية متابعة أرقام الشكاوى الصادرة عن القوى الأمنية، لما تمثله من مؤشر على تفاعل النساء مع التوعية وتشجيعهن على التبليغ.
سلطة ذكورية وقوانين مجحفة
تؤكد الحاج على أهمية الخط الساخن الذي أنشئ بالتعاون مع جمعية “كفى” لتقديم المساعدة الفورية للنساء المعنّفات، حيث “تتلقى مديرية قوى الأمن الداخلي الاتصالات، ثم تتواصل مع المخفر الأقرب لمكان تواجد الضحية، ترسل دورية أمنية على الفور، وتبقى على تواصل دائم مع المخفر لمتابعة سير القضية وضمان حصول الضحية على الحماية اللازمة”.
العناصر الأمنية التي تتلقى اتصالات الخط الساخن تلقت تدريباً متخصصاً من جمعية “كفى” حول كيفية التعامل مع المتصلات باحترافية وفعالية، وهؤلاء العناصر ملمّون بحسب الحاج “بقانون العنف الأسري ويعرفون كيفية نقل المعلومات اللازمة إلى المدعي العام”.
ينبع العنف ضد المرأة في لبنان من جذور السلطة الذكورية الراسخة، بحسب الحاج “والتي تتجلى بوضوح في قوانين الأحوال الشخصية التي تعزز سلطة الرجل وتمنحه الحق في تأديب المرأة معتبرة أنه قوام عليها، وفي حال خرجت عن الخط المرسوم لها، فإنه يحق له تعنيفها”.
ورغم وجود قانون لحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، إلا أن تطبيقه يواجه فجوات كبيرة، تقول الحاج “ففي كثير من الأحيان، تُظهر السلطة القضائية المكلفة بتنفيذ هذا القانون تساهلاً مفرطاً مع المعتدين، مما يشجع على استمرار العنف”.
يعكس هذا التراخي القضائي “سيطرة السلطة الذكورية على المنظومة القانونية، مما يساهم في ارتفاع معدلات العنف ضد المرأة بشكل مخيف. فالأنثى، سواء كانت طفلة أو فتاة أو امرأة راشدة، تصبح عرضة للعنف من قبل جميع أفراد الأسرة، دون أي رادع حقيقي يحميها من هذا الظلم”.
أما الأميوني فتعتبر أن أسباب العنف الأسري “قد تكون نفسية مثل الإدمان على المخدرات أو الكحول، واضطرابات الشخصية والأمراض النفسية، أو اجتماعية مثل الفقر والبطالة وضعف التعليم والتربية، حتى أن بعض الثقافات تبرر العنف أو تعتبره وسيلة لتأديب الأطفال أو الشريك، خاصة المرأة، بالإضافة إلى ذلك، يؤدي التوتر الناتج عن الضغوط المالية أو المشاكل الزوجية إلى تصاعد العنف”.
آثار مدمّرة
الآثار النفسية للعنف على النساء والأطفال، مدمّرة كما تصف قصقص وهي تشمل “الاضطراب ما بعد الصدمة، والاكتئاب، والتوتر، والخوف الدائم، والشعور بالعجز”.
كما تلفت إلى الآثار الاجتماعية التي تلحق بالنساء ضحايا العنف، مثل “الانعزال عن المجتمع، وفقدان الدعم، وعدم وجود بيئة آمنة للتحدث، مما يفاقم من معاناتهن، كما أن العنف يؤثر سلباً على إنتاجية النساء في العمل ويقلل من اندفاعهن مشكلاً عبئاً إضافياً على حياتهن”.
من جانبها تقول الأميوني إن العنف الأسري يؤدي إلى “أضرار جسدية ونفسية على الضحايا، إذ ينتج عنه اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق. كما يمكن للأطفال أن يشهدوا العنف الأسري أو يكونوا ضحايا له، مما يؤثر سلباً على نموهم العاطفي والسلوكي والأكاديمي. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي العنف الأسري إلى تدهور العلاقات الأسرية وزيادة معدلات الطلاق والانفصال”.
ولا يمكن تجاهل الأثر الاقتصادي للعنف الأسري، كما تشدد الأستاذة الجامعية “حيث يؤدي إلى زيادة تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية وفقدان الإنتاجية. علاوة على ذلك، يساهم في تدهور القيم المجتمعية وزيادة معدلات الجريمة والعنف في المجتمع بشكل عام”.
وفي مارس الماضي، أعلنت منظمة “أبعاد” اللبنانية ارتفاع نسبة جرائم قتل النساء في لبنان في العام 2023 بمعدل 300 في المئة، أي بمعدل امرأتين شهريا، بحسب الأرقام التي تستند لبيانات المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
وفي بيان كشفت المنظمة أن نسبة التبليغات على الخط الساخن التابع لوزارة الداخلية بلغت 767 شكوى أي بمعدل 64 شكوى شهريا.
ولا يزال العنف ضد النساء والفتيات واحداً من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشاراً في العالم، كما أكدت الأمم المتحدة في نوفمبر الماضي، وعلى الصعيد العالمي، تعرض ما يقدر بنحو 736 مليون امرأة – أي واحدة من بين كل ثلاث نساء تقريباً – للعنف الجسدي و/أو الجنسي من قبل الشريك الحميم، أو العنف الجنسي من غير الشريك، أو كليهما مرة واحدة على الأقل في حياتهن.
حلول مقترحة
يتطلب الحد من العنف الأسري كما ترى الأميوني “التوعية والتثقيف حول مخاطره وحقوق الأفراد، وتطبيق قوانين صارمة لحماية الضحايا ومعاقبة المعتدين. كما يجب توفير خدمات الدعم النفسي والاجتماعي للأسر المعرضة للعنف، وتقديم برامج إرشادية وتوجيهية للأسر التي تظهر فيها علامات أولية للعنف”.
كما “لا يمكن إغفال أهمية تعزيز دور المجتمع المدني والمؤسسات المجتمعية والمنظمات غير الحكومية في تقديم الدعم والمساعدة، وضرورة إقرار وتحديث التشريعات اللازمة لضبط ومعاقبة المجرمين. بشكل عام، يتطلب تضافر الجهود من جميع أفراد المجتمع والحكومات والمؤسسات المعنية لتحقيق بيئة آمنة ومستقرة للجميع”.
لكن بحسب الحاج “ما دامت السلطة الذكورية مسيطرة، ومتغلغلة في العادات والتقاليد، ومدعومة من المجتمع، ستواجه المرأة، أشكالاً متعددة من العنف، خاصة مع غياب القوانين الرادعة وتساهل القوانين اللبنانية الحالية مع هذا الظلم”.
وتشدد الحاج على أن الحل الجذري للقضاء على العنف الأسري يتطلب خطوات أساسية وهي:
أولاً: الإيمان بأن سبب العنف الأسري هو القوانين المتساهلة التي تعزّز سلطة الرجل على المرأة وتضفي شرعية على تأديبها.
ثانياً: العمل على إصلاح هذه القوانين من خلال إقرار قانون موحد للأحوال الشخصية يضمن المساواة بين الجنسين ويلغي القوانين الدينية المجحفة بحق المرأة.
ثالثاً: تنفيذ خطة وطنية شاملة للتوعية ترسّخ ثقافة احترام المرأة ونبذ العنف.
رابعاً: سنّ قوانين حماية من العنف رادعة تعاقب المعتدين بشكل صارم وتوفّر الحماية للضحايا.
خامساً: فرض هيبة الدولة من خلال تطبيق القوانين بحزم ومكافحة الفساد، خاصة في ظلّ الظروف الراهنة التي يعاني منها لبنان، حيث ازدادت جميع الجرائم، بما في ذلك العنف الأسري، بسبب غياب دور السلطة الفاعل.
من جانبها ترى قصقص أنه لا بد من تكاتف المجتمع لمكافحة العنف ضد المرأة، ودعم ضحايا هذا العنف، وتوفير بيئة آمنة لهن للتحدث والتعبير عن معاناتهن، وتؤكد على أهمية نشر الوعي حول حقوقهن، وتشجيعهن على التبليغ عن أي نوع من العنف يتعرضن له، كما تدعو السلطات إلى سنّ قوانين صارمة لمعاقبة المعتدين، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للنساء والأطفال ضحايا العنف.