جزيرة سابانغ/إقليم آتشيه – قبل 20 عاما، كان لإقليم آتشيه الإندونيسي ذكرى خاصة مع موسم الحج حينما ضربته أمواج تسونامي في ديسمبر/كانون الأول 2004 (تزامنت مع الأسبوع الثاني من ذي القعدة 1425 للهجرة)، وراح ضحيتها نحو 230 ألف شخص، إلى جانب تضرر دول أخرى مطلة على المحيط الهندي.
في مجمع الحجاج الذي وُسّع وأعيد إعمار مبانيه بمدينة بندا آتشيه، يقول مدير مكتب الشؤون الدينية في الإقليم سابقا عبد الرحمن تي بي إنه عندما وقع التسونامي كان الفوج السابع من الحجاج ينتظر التوجه إلى المطار، فقدر لهم أن يكونوا ضمن ضحاياه.
وكان آخرون قد غادروا قبلهم إلى بلاد الحرمين ليعود كثير منهم ويكتشفوا فقدان كل أو بعض أهلهم، ولم يجد الكثير منهم أحدا في استقبالهم عند عودتهم من موسم الحج.
مكانة علمية ودينية
ما إن يحل موسم الحج حتى يُستذكر المسمى التاريخي لإقليم آتشيه وهو “أعتاب مكة المكرمة” أو “بوابة الطريق إلى مكة المكرمة”، وهو حصيلة مسيرة تاريخية امتدت نحو 6 قرون، وربما أكثر، اكتسبها الإقليم من عصر ازدهاره السياسي والاقتصادي وانضباط قانوني في ظل ما عُرف بالقانون الآتشي قديما.
وبرزت مكانة آتشيه العلمية والدينية كأهم سلطنات المسلمين في المنطقة آنذاك في منطقة جنوبي شرقي آسيا، جعلتها منطلقا لرحلة الحج التي جمعت بين أداء هذه الفريضة وطلب العلم والتجارة وتقوية العلاقات مع بلاد الحرمين وما حولها من أمصار العرب والعثمانيين.
كل ذلك كان قبل أن تقترب سفن البرتغاليين والهولنديين وغيرهم، كما يقول رئيس مكتب الشؤون الدينية في إقليم آتشيه أزهري أبو بكر عبد الله للجزيرة نت.
قامت سلطنات عديدة في آتشيه، ومنها سامودرا باساي التي توصف بأنها من أوائل السلطنات المسلمة في جزر ما تُعرف بإندونيسيا اليوم، والتي أُسست عام 1267 م.
وتشير بعض المخطوطات والآثار والنقود الذهبية إلى أن تاريخ هذه السلطنة يعود إلى عام 710 م، مما يؤكد دخول الإسلام في وقت مبكر جدا إلى آتشيه وجزر نوسانتارا.
كانت سامودرا مركزا علميا وتجاريا إقليميا ودوليا يلتقي في موانئها تجار من العرب والصينيين والهنود والسياميين والفرس، فكانت بذلك دولة بحرية في أفقها الاقتصادي. وتعاقَب على حكمها 13 سلطانا ابتداء من الملك الصالح.
وكانت ذات نظام إداري وسياسي، وفيها بدأ ازدهار الحرف العربي في كتابة اللغة الملايوية، وورث عن تلك الفترة مخطوطات مثل “حكايات ملوك باساي”.
ازدهار الحج
وفي وقت شبه متزامن، قامت سلطنة لاموري في الشمال الشرقي لآتشيه، وكانت مركزا تجاريا للعرب والصينيين والهنود وغيرهم من سكان تلك الجزر، وبعض من حكمها كانوا يسمون ملوكا وآخرين سلاطين من القرن الـ10 حتى القرن الـ16. وحسب بعض التقديرات، فإن أمواج تسونامي قد أتت عليها.
مهدت سلطنة لاموري لظهور سلطنة “آتشيه دار السلام” بين عامي 1496 م و1903، وكانت عاصمتها بندا آتشيه -عاصمة الإقليم اليوم- دولة ذات نظام سياسي واقتصادي وقانوني، وذات جيش منظم واجه سفن المستعمرين البرتغاليين والهولنديين وغيرهم، وذات أسطول يضم 500 سفينة و60 ألف جندي بحري.
اشتهرت سلطنة آتشيه دار السلام بمراكز علمية وعلاقات دولية وتجارة بحرية، وفي عهدها ازدهرت رحلات الحج، فكان أهل آتشيه والمسلمون من جزر نوسانتارا وماليزيا وسنغافورة وما جاورها يبحرون إلى آتشيه، ومنها إلى بلاد الحرمين.
ولا يمكن الحديث عن دور آتشيه في رحلة الحج لسكان جزر المنطقة دون التوجه إلى جزيرتي سابانغ وربيعة التابعتين للإقليم واللتين تقعان في أقصى الشمال الغربي لجزيرة سومطرة.
توجهت الجزيرة نت إلى هناك على متن سفينة في رحلة استغرقت ساعتين من ميناء “بندا آتشيه” للقاء مدير مكتب الشؤون الدينية في سابانغ شمس البحر محمد ياسين، ومدير إدارة الحج في المكتب نفسه غزالي بن آدم، للحديث عن أهمية الجزيرة في رحلة الحج عبر القرون.
وسابانغ المطلة على المحيط الهندي هي آخر الجزر المأهولة التي كان الحجاج من سلطنات نوسانتارا (إندونيسيا اليوم) يمرون بها قبل التوجه إلى بلاد الحرمين، مرورا بسواحل ماليزيا وتايلند وبنغلاديش والهند قبل التوجه إلى بحر العرب والبحر الأحمر.
ولم يمحُ تحول سابانغ إلى جزيرة سياحية لسكان آتشيه، وغيرهم من السياح الإندونيسيين والأجانب، تاريخها؛ فقد كانت لها مكانة اقتصادية وملاحية مهمة بالنسبة لمن حكم آتشيه.
وتذكر كتب التاريخ أنها كانت خط الدفاع الأول من الجهة الغربية الشمالية لسلطنات آتشيه، وفي رحلة الحج كان الحجاج من عموم جزر سومطرة وجاوا وكالمينتان وسولاويسي وغيرها من جزر نوسانتارا، يتجمعون في مرافئ بندا آتشيه.
ثم يتوجهون بعدها إلى سابانغ قبل الإبحار عبر المحيط الهندي، وعبر بينانغ الماليزية أو قدح شمالي غربي ماليزيا، ثم إلى خليج البنغال أو المالديف، ثم غوجرات الهندية، ثم المخا في اليمن، قبل التوجه إلى بلاد الحرمين، وهذا واحد من عدة مسارات تغيّرت بتطور السفن وبتغير المواسم.
دور علمي
ولم تكن آتشيه وجزيرتها سابانغ مجرد ميناء، بل كانت مركزا علميا، وقد يبقى الحاج -كما يقول شمس البحر محمد ياسين- مدة 6 أشهر في حلقات علم شرعي، وهذا ما يفسر وجود 44 من العلماء المدفونين في سابانغ، ولا تزال قبورهم معروفة الشواهد بأسماء أصحابها، ووجودهم وبقاؤهم فيها مرتبط بالدور العلمي لسابانغ وآتشيه في رحلة الحج قبل أداء هذه الفريضة وبعدها.
وممن دُفنوا هناك نساء عالمات، ومنهن: تشوت بورية، وأم تشوت كمالة، وأم خديجة، وأم سيتي مارية، وأم كلثوم زوجة أحد العلماء، وأم منغوتا، والأشهر سيتي ربيعة أم سارة المتوفية عام 1779، والتي سميت باسمها “جزيرة ربيعة” الملاصقة لجزيرة سابانغ والتابعة لها إداريا.
وتوجهت الجزيرة نت إلى تلك الجزيرة حيث آخر سكن تاريخي للحجاج في زمن الحج بحرا من نوسانتارا، وقد بقيت منها بعض المباني وتهدمت أخرى بفعل قصف اليابانيين خلال اجتياحهم جزر إندونيسيا مطلع الأربعينيات.
ظل الحجاج الإندونيسيون ولقرون يحجون بالسفر بحرا مرورا بآتشيه، حتى كانت أول رحلة جوية لهم بعد الاستقلال بسنوات قليلة وتحديدا عام 1952، وكانت التكلفة ضعف تكلفة السفر بحرا.
ولكن مع تزايد عدد الطائرات وتراجع أسعار التذاكر، صارت تكلفة السفر جوا أقل وتحديدا سنة 1977، حسب ما أظهره أرشيف صحيفة “كومباس” الإندونيسية، ففي ذلك العام حج 7450 إندونيسيا بحرا، في حين سافر جوا 12 ألفا و899 حاجا.
وبحلول عام 1978 كانت آخر رحلة بحرية لسفن شركة “عرفة”، رغم دعم الحكومة لها، حيث واجهت مصاعب مالية ولم يعد بإمكانها الاستمرار في جذب الحجاج للسفر بحرا في رحلة تمتد أكثر من شهر مقارنة بالنقل الجوي.
ومع فتح الحكومة المجال لأي شركة لتقديم عرض لنقل الحجاج بحرا، لم تتقدم أي من السفن للقيام بهذه الخدمة بعد عام 1978، لتنتهي رحلة الحج بحرا بعد قرون من وصول وانتشار وقيام سلطنات مسلمة في جنوبي شرقي آسيا.
أوقاف أهل آتشه
تحدث أزهري أبو بكر عبد الله للجزيرة نت عن أوقاف أهل آتشيه في بلاد الحرمين، وهو أمر يتميز به الآتشيون عن كثير من المسلمين في جنوبي شرقي آسيا، ومعروف بوقف “بيت الآتشي”. وهو مما أوقفه الحبيب عبد الرحمن بوغاك من ماله ومن إنفاق آخرين من بلاده، جمعه ووثقه منذ أكثر من قرنين، وفي إقرار وقفه أن منفعته للحجاج وطلاب العلم من إقليم آتشه أو الآتشيين المقيمين في بلاد الحرمين.
وتذكر مصادر تاريخية أخرى رواية مختلفة بأن بوغاك هو عبد الرحمن بن علوي الحبشي، وأنه جاء إلى آتشيه من بلاد الحرمين عام 1760 في عهد السلطان علاء الدين محمود شاه، وكان ممن يثق فيهم السلطان. وفي عام 1808 عاد إلى مكة المكرمة، ومما جمعه من إنفاق أهل آتشيه، اشترى أراضي وجعل منها “البيت الآتشي”.
ويقول أستاذ كلية الشريعة بجامعة الرانيري في بندا آتشه اليسع أبو بكر، في مقال بصحيفة “سيرامبي” الصادرة في آتشيه يوم 30 مايو/أيار الماضي، إن الحبيب بوغاك من منطقة ساحل بوغاك الواقعة شرقي إقليم آتشيه، وثبّت الوقف عام 1808 م (1222 للهجرة).
ولا ينسى دور الشيخ عبد الغني الآتشي وهو مواطن سعودي من أصل آتشي، حيث تابع مع المحاكم الشرعية في مكة المكرمة أمر هذه الأوقاف، وبعد وفاته سُلمت الأمانة لابنه منير الآتشي وإلى عالم آخر هو عبد اللطيف بالطو، حتى بُنيت فنادق على قطعتين من تلك الأراضي.
ودارت مناقشات خلال السنوات الماضية مع حاكم إقليم آتشيه حتى نُظم شأن توزيع ريع تلك الأوقاف على الحجاج الآتشيين، ويضيف اليسع أبو بكر أنه بعد وفاة منير الآتشي سُلمت مسؤولية الوقف لشخص ثالث هو عبد الرحمن بن عبد الله الآتشي.
ويتسلم 4710 حجاج من آتشيه هذا العام معونة قدرها 1500 ريال سعودي من ريع أوقاف أهل آتشيه في مكة المكرمة، إضافة إلى 750 ريالا سعوديا يتسلمها كل حاج إندونيسي مقابل استثماره مدخرات حجه طوال فترة انتظاره للحج.
وقد ظل هذا الأمر محققا للحجاج الآتشيين منذ عام 2006، أي بعد انتهاء الصراع المسلح في الإقليم، والذي انتهى بكارثة التسونامي وتوقيع اتفاقية سلام عام 2005 بين الحكومة الإندونيسية و”حركة تحرير آتشيه”، وبدء تطبيق حكم محلي خاص بالإقليم بعدها.