في عام 2009، نشرت الناشطة السياسية آنذاك كلاوديا شينباوم رسالة في صحيفة “لاخورناذا”، بعنوان “أنقذوا العالم الذي يُسمّى اليوم غزة”، قالت فيها “أنحدر من عائلة يهودية، جدّي وجدّتي لأبي نُفيا من ليتوانيا لأسباب سياسية واقتصادية وعنصرية، كانا يهوديين شيوعيين. جدّاي لأمي وصلا المكسيك هربا من الاضطهاد النازي، وأُبيد العديد من ذلك الجيل من عائلتي في معسكرات الاعتقال”.
تكمل شينباوم “نشأتُ مكسيكيّة أناضل من أجل وطني.. ولأنني أشعر أني مواطنة عالمية، أشارك الملايين الرغبة في تحقيق العدل والمساواة والسلام، ولهذا، لا أستطيع إلا أن أرى بعين الفزع صور القصف الإسرائيلي في غزة، لا سبب يبرر قتل المدنيين الفلسطينيين، لا شيء يبرّر قتل طفل. ولهذا، أضمّ صوتي لملايين في جميع أنحاء العالم يطالبون بوقف إطلاق النار والانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي الفلسطينية..”.
يتداول كثيرون اليوم هذه الرسالة لشينباوم، التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه في الثاني من يونيو/حزيران 2024 كونها أوّل رئيسة للمكسيك منذ استقلال البلاد عام 1821، ومتسائلين عمّا سيكون موقفها من الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، وعن كيفية موازنتها بين استحقاقات الرئاسة ومبادئ العدالة التي لطالما نادت بها، وموقف الحزب اليساري “مورينا”، وهو الحزب الذي يجمعها بسلفها الرئيس السابق أملو.
قوس واسع ليسار متعدّد
وللاقتراب من ذلك، لا بد من معرفة طبيعة الأحزاب اليسارية في المكسيك ودول أميركا اللاتينية، فبحسب الناشط الفلسطيني الفنزويلي جهاد يوسف، فإن تلك الأحزاب تتراوح بين يسار “حاكم” يتبنى الماركسية اللاتينية وموقفه واضح من السياسة الأميركية وبالتالي الصهيونية، مثل الفنزويلي والبوليفي والكولومبي والكوبي والنيكاراغوي، وهناك يسار الوسط الذي لا يرغب في الصدام مع الولايات المتحدة وإسرائيل مثل المكسيك والبرازيل وتشيلي وهندوراس.
أما بالنسبة لليسار المعارض، فيقول يوسف “هناك قوى يسارية جذرية مثل الأحزاب الشيوعية التي تتخذ مواقف واضحة من الإمبريالية والصهيونية، ولكن هناك يسارا وسطا أو ليبراليا يتخبط في مواقفه من الإمبريالية والصهيونية”.
وبالنسبة للمكسيك، فيرى يوسف أن المواقف السابقة للرئيس المنتهية صلاحيته، أندرس مانويل لوبيس أوبرادور المعروف بـ “أملو”، تعكس عدم رغبته في إغضاب الولايات المتحدة الأميركية.
وغالبا، فإن الرئيسة الحالية ستحذو حذوه، بحسب يوسف، الذي أضاف “إلا إذا أجبرتها الفعاليات المستمرة المتضامنة مع القضية الفلسطينية على تغيير موقفها، مع العلم أن موقف الجالية الفلسطينية في البلد ضعيف وغير مؤثر سياسيا، بينما على المستوى الشعبي، فإن المكسيك هي الأنشط على مستوى القارة”.
ليست صهيونية وتتجنب الصدام مع اليمين
بالنسبة للمحلل السياسي المكسيكي إكتور مانويل دياس، وهو ناشط سياسي يساري ومدير حركة “لاتينيذاذس” للتوعية السياسية، فإنه “من المبكر تحديد ما ستكون عليه سياسة شينباوم، لكن هناك ما يؤشر على أنها ليست صهيونية، رغم أنها لم تكثر من التصريحات المتعلقة بهذا الخصوص تحديدا لتتجنب ردات فعل اليمين الصهيوني، لا سيما وأنها كانت مقبلة على الانتخابات”.
ويأمل دياس أن تتخذ شينباوم موقفا واضحا وحازما “كيهودية غير صهيونية في مواجهة المأساة التي تحدث في غزة”، لكنه يعتقد أن “الحكومة المكسيكية في عهد أملو قد اتخذت فعلا خطوات جادة لصالح الفلسطينيين، إذ أُعيد تصنيف بعثة فلسطين الدبلوماسية لدى المكسيك من مستوى مفوضية إلى مستوى سفارة”.
أبعد من ذلك، نوقشت في عهده مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في حين أن المكسيك كانت من بين دول أميركا اللاتينية التي لم تكن تؤيد هذا الاعتراف.
وهو يتفق مع ما ذكره يوسف من أن قوس اليسار في المكسيك ودول أميركا اللاتينية واسع جدا، ويتحدد، في كثير من الأوقات بناء على متطلبات رأس المال، وأيضا لكل بلد في أميركا اللاتينية سياق تاريخي وجغرافي مختلف وظروف غير متشابهة.
أضف إلى ذلك عاملا آخر، وهو الامتداد الزمني لوجود الأحزاب اليسارية في تلك البلدان، والتي تلعب دورا مهمّا في تحديد سياستها الخارجية، بل إنه حتى داخل المكسيك نفسها، هناك تنوعات يسارية شتى، حملت أعضاء من أحزاب شيوعية في المكسيك، بحسب دياس، على مهاجمة الرئيس أملو -وهو يساري أيضا- عبر تعليقات لا تختلف عن تعليقات اليمين.
ويوضح دياس أن معنى “اليسار” في حكومة أملو السابقة وما ستكون عليه حكومة شينباوم الحالية يتلخّص في سعي هاتين الحكومتين إلى وضع الفقراء هدفا لإنجازاتهما، وتفكيك الليبرالية الحديثة “النيوليبرالية”، وهو ما قطعت فيه الحكومة اليسارية شوطا كبيرا إلا أنه لا يزال ينتظرها الكثير.
ويعزز دياس قوله بأن الحكومة ركزت على حقوق العمال وحسّنت من رواتبهم وأولت اهتماما بمنح الخدمات للجميع كالصحة وغيرها، وبالتالي، فمهما وُجّه لها من تشكيك بـ”يساريّتها” إلا أنها “لا شك حكومة يسارية ضمن سياق تاريخي ورث أكثر من 30 عاما من الحكومات النيوليبرالية اليمينية، التي كان دأبها تفكيك الدولة وخصخصة الخدمات والمتاجرة بالحقوق الاجتماعية الممنوحة أصلا في الدستور”.
لا يمكن التفكير بمواقف شينباوم القادمة بمعزل عن مواقف أملو السابقة، فكثير من منتقديها يصفونها بأنها تعيش في ظلّه، رغم التباين بينهما في عدة مواقف، منها مثلا ردود فعلها خلال فترة جائحة كورونا (كوفيد-19)، واستخدامها الكمامة مقابل تشكيك أملو بنجاعتها.
وبالعودة لموقف هذه الحكومة مما يحدث في غزة، ورفض أملو تسمية ما تقوم به إسرائيل بأنه “إبادة جماعية”، فيشير دياس إلى أن “هناك مجموعة كبيرة من الصهاينة لهم نفوذ، وهم يسيطرون على الشركات الأمنية الموجودة في المكسيك، والتي تدعم المجازر الإسرائيلية في فلسطين، فهذه الشركات تشكل لوبيا قويا جدا، وتبيع منتجاتها للحكومات في أميركا اللاتينية”.
ويتابع دياس أن “أملو وافق على أن تبني الجالية اليهودية متحفا للتسامح إلى جانب مقر وزارة الخارجية في العاصمة المكسيكية. لكن بعد سنوات، زادت الانتقادات والاحتجاجات على أملو لأن ما فعله يبرر المحرقة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين”.
ويرى المحلل السياسي أن ما فعله الرئيس هو “محاولة لتجنب الوقوع في المشاكل، والتعامل مع الأحداث بشكل يومي”، مشيرا إلى أن المكسيك هي “الخندق الأول مقابل الإمبراطورية (الولايات المتحدة)” وأن “الحكومة تقدمت، لكن ببطء بحسب ما يقتضيه الوضع السياسي في المكسيك، والحاجة لعدم زيادة الخصوم”.
إمساك العصا من المنتصف
ويتضح من مواقف أملو ميله نحو إستراتيجية عدم الاصطدام، إذ هنأ حكومة تل أبيب بـ”الذكرى السنوية للاستقلال”، وهو ما عرضه لانتقادات شديدة بسبب ما يمثله هذا اليوم من نكبة للفلسطينيين، وبالنسبة له فهي طريقة دبلوماسية للقول إننا “لا نريد صداما مع إسرائيل”، ولكن بعد أيام، أعلنت مكسيكو انضمامها لدعوى جنوب أفريقيا، وهذا أمر ليس سهلا في المكسيك، إطلاقا.
بدوره، وصف الدبلوماسي المكسيكي السابق فرانسيسكو كروس الأحزاب اليسارية في بلاده بـ”المُفاوضة”، مشيرا إلى أنها لم تمر بالظروف نفسها التي مرّت بها دول أخرى من أميركا اللاتينية، فلم يحدث أن شهدت البلد انقلابات عسكرية أو حكمتها دكتاتوريات، رغم أنه وفي فترة من الفترات كان هناك “يسار متطرف”، على حد وصفه، كاد أن يتسبب في حرب عصابات لكنه أقلية ولم يدم طويلا.
ويتابع كروس أن اليسار في بلاده هو أقرب لليسار التشيلي أو البرازيلي وبعيد تماما عن اليسار في فنزويلا أو نيكاراغوا أو كوبا. ويعتقد أن حكومة شينباوم ستظل على نهج الحكومة السابقة إلا إذا صار تحول خطير في الأحداث.
أما بالنسبة لرفض أملو اعتبار ما يحدث في فلسطين إبادة جماعية، فيقول كروس إن الأمر في هذه الحالة لا يعود للرئيس نفسه، بل هناك مستشارون كحال جميع الرؤساء المكسيكيين، بشأن القضايا الدولية وهم رأوا، وهو الرأي الذي يميل له أيضا، أن إسرائيل تنتهك القانون الدولي في غزة لكن لم تصل أفعالها للإبادة الجماعية.
ويصف الدبلوماسي العلاقة بين المكسيك وكلّ من فلسطين وإسرائيل بالودية، إلا أن هناك مصالح اقتصادية وتجارية وثقافية واجتماعية بين مكسيكو وتل أبيب، وعلى مستوى الرأي العام، فإن فلسطين تتمتع بدعم ومناصرة لقضيتها وخصوصا من قبل الطلاب.
كما أن مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كانت ضمن جدول أعمال المرشحة التي خسرت في الانتخابات سوشيتل غالفس. وبرأي كروس، فإن ما فعلته حماس يوم السابع من أكتوبر، ساعد في تعزيز المجزرة الوحشية لنتنياهو والمتطرفين.
“يسارية لا تجرؤ على قطع العلاقات مع إسرائيل”
ويرى أستاذ العلوم السياسية في جامعة أونام، مويسيس غاردونيو غارسيا، أن المكسيك لا يمكن أن تمنح اعترافا أحاديا بالدولة الفلسطينية كما فعلت إسبانيا وغيرها من الدول، ولكنها تدعم آليات للاعتراف الجماعي بفلسطين، كما فعلت في الأمم المتحدة أو انضمامها لدعوى جنوب أفريقيا أو دخولها في أي أطر قانونية تجعل الاعتراف أمرا واقعا، حسب تعبيره.
وعن موقف شينباوم من القضية الفلسطينية، يقول غارسيا إنها “امرأة يسارية ملتزمة بالقضايا الاجتماعية”، لكنها “على الأرجح لن تجرؤ على قطع العلاقات مع إسرائيل” بسبب التزام المكسيك باتفاقية التجارة الحرة، وأيضا لقربها من الولايات المتحدة.
ويصف غارسيا اليسار المكسيكي باليسار البراغماتي، الذي يود الحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط أيضا.
يعكس ذلك، حسب رأيه، موقف “أملو” حينما رفض تسمية ما يحدث بالإبادة، لكنه قرر الانضمام للدعوى ليأخذ القانون مجراه وتقرر المحكمة في نهاية المطاف ما إذا كانت أفعال إسرائيل “إبادة جماعية أم لا”.
ويتابع غارسيا قائلا إنه يعتقد أن أفعال إسرائيل في غزة “ترقى للإبادة الجماعية”، إلا أنه يرى أن “المكسيك تبحث عن إطار قانوني لتوصيف الأحداث”.
كما تتوخى الحكومة المكسيكية بزعامة اليسار اليوم، الحذر الشديد وانتقاء المصطلحات، وتحاول البقاء على الحياد، خصوصا أن هناك اتفاقيات للتعاون التجاري والعسكري مع إسرائيل منذ سنوات طويلة، وفي الوقت نفسه، هناك استحقاقات تتعلق بحقوق الإنسان لا يمكن إغفالها.
عن المقاومة الفلسطينية والمكسيكيين
وبالنسبة لعملية طوفان الأقصى وكيف ينظر الناس للمقاومة الفلسطينية، يرى غارسيا أن هناك نقصا حادا في المعلومات فيما يتعلق بالحركات المقاومة، وحين يتحدث كثير من الناس في المكسيك عن فلسطين فهم يشيرون بذلك للسلطة الفلسطينية، وقد نجحت الهاسبارا الإسرائيلية بلعب دور مهم في محاولة ربط حركات المقاومة بـ”الإسلاموفوبيا” والإرهاب، على حد قوله.
ولذا، يعتبر كثير من المكسيكيين أن ما حدث في السابع من أكتوبر هو “عملية إرهابية” بسبب وجود رهائن، ويضيف غارسيا أنهم يجهلون تاريخ النكبة الفلسطينية والعصابات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية بشكل عام، إلا أن الأمر يختلف بالنسبة لطلبة الجامعات الذين أصبح لديهم اليوم وعي أكبر بالتاريخ، ويقارنون بين الفصائل الفلسطينية وحركات التحرر في الجزائر وفيتنام وغيرها.
تفاعل الحكومة مع أحداث غزة
ومن جانبها، وصفت الصحفية آنا ماريّا مونخاردينو تفاعل الحكومة المكسيكية مع الحرب على غزة بـ”السير على البيض” نظرا لبطء تحركاتها، وقالت إن بيع 5 طائرات إسرائيلية من نوع “أرافا” للمكسيك عام 1973 مثّل بدء العلاقة العسكرية مع إسرائيل.
و”منذ ذلك الحين هناك اعتماد على ذلك النظام الصهيوني”، على حد قولها، إذ تتلقى الشرطة والجيش المكسيكي تدريبا على يد إسرائيليين، وتشتري المكسيك برامج التجسس من إسرائيل مثل برنامج بيغاسوس من شركة “إن إس أو غروب”.
كما تصف مونخاردينو الحركة المؤيدة لفلسطين بالصغيرة لكنها “متماسكة ومتأثرة بالحركة الثائرة في الولايات المتحدة.. فهناك شعور مشترك من التضامن مع فلسطين يرتكز على تجارب متشابهة من النضال، كنضال السكان الأصليين”.